الكاتب: م.م علي حمد عاجل
قسم الدراسات السياسية
تشرين الثاني 2023
في السابع من شهر تشرين الأول نفذت حركة حماس هجوماً عسكرياً في مستوطنات غلاف غزة المحتلة, وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات, إلا إنَّ حركة حماس اعتمدوا عنصر المباغتة في عمليتهم العسكرية, بعد أن نفذوا عمليتهم سرعان ما انسحبوا من المستوطنات المحتلة. لم يستمر ذلك طويلاً حتى بدأت إسرائيل في استيعاب صدمة الهجوم, وأخذت تحشّد المجتمع الدولي، وتشيطن كل من يقف ضد مشروعها في تهجير أهالي غزة، بطرق أقل ما يمكن وصفها بالهمجية. لم يبخل المجتمع الغربي في تعاطفه مع الكيان الصهيوني الغاصب, إذ سرعان ما مدّ يد العون للاحتلال الصهيوني بذريعة الدفاع عن النفس، رامياً خلفه كل القوانين والأعراف الدولية. وما يثير تساؤلاتنا, ما المواقف الحقيقية للدول العربية من طوفان الأقصى؟ وما الأسباب التي تقف خلف المواقف العربية من طوفان الاقصى؟ وهل هناك عجز عربي لما يحصل في غزة من إبادة جماعية؟ لا يخفى على كل باحث أو مهتم بالشأن السياسي، أنَّ هناك تبايناً في مستوى العلاقات العربية-العربية، مما انعكست بشكل مباشر على موقف الدول العربية من القضية الفلسطينية، منذ تاريخ الاحتلال الإسرائيلي حتى طوفان الأقصى, ويمكن أن نعزو هذا التباين في الأدوار والمواقف إلى مجموعة من الأزمات والصراعات التي مر بها الشرق الأوسط بشكل مراحل متفاوتة من حيث الزمان.
المرحلة الأولى: بدأت عام 1952,هي مرحلة الحرب الباردة العربية-العربية، وهو مصطلح صاغه رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت في كتاب اسمه الحرب الباردة العربية-العربية، كانت هذه الحرب بين التيار القومي برئاسة جمال عبد الناصر, والملكيات المحافظة بزعامة السعودية, الحرب التي تمخض عنها سبع جمهوريات ذات أنظمة حكم عسكري ( العراق, وسوريا, ومصر, وليبيا, واليمن, والسودان, والجزائر), بالرغم من أنَّ هذه الحقبة رافقتها خلافات ونزاعات عربية-عربية كثيرة, منها الخلاف العراقي الكويتي على اثر استقلال الكويت عام 1961, ومطالبة الرئيس “عبد الكريم قاسم” بعودة الكويت إلى الحضن العراقي, وكذلك العلاقات العراقية السورية, التي كانت في أسوء حالاتها, وأيضا الخلافات السعودية المصرية بين “جمال عبد الناصر” والملك “سعود بن عبد العزيز”، تضمنت أبعاداً مسلحة كان جوهر الخلاف حول موقف مصر من الثورة اليمنية التي اندلعت 26 سبتمبر1962, مصر كانت تؤيد الجمهوريات, والسعودية كانت تؤيد الملكيات, على إثرها قصفت الطائرات المصرية قواعد مملكة اليمن على الحدود المصرية السعودية، الموقف الذي ترتبت عليه قطع العلاقات السعودية المصرية, فضلا عن المواجهة المسلحة بين المغرب والجزائر, وهو نزاع حدودي بين البلدين عام 1963, على الرغم من حجم الخلافات والنزاعات العسكرية بين التيار القومي والملكيات, بمجرد أن دعا جمال عبد الناصر إلى قمة عربية لمواجهة مخاطر مشروع تحويل إسرائيل مجرى مياه نهر الأردن، اجتمعت القمة العربية في القاهرة ولم يتغيب عنها أحد, وتركت الخلافات العربية إلى الخلف واتفقت على مواجهة لمشروع إسرائيل, كذلك اتفقت على قيادة عربية مشتركة لمواجهة خطر الصهيونية.
يمكن القول: إنَّ الخلافات العربية سابقاً لم تمنع من بلورة موقف عربي موحد ضد الاحتلال الصهيوني في وقتها, تكرر هذا بانتظام حين وقع العدوان 1967, كانت العلاقات المصرية السعودية في أسوأ حالاتها، جاء الملك فيصل إلى قمة الخرطوم، وكذلك حضر جمال عبد الناصر وتم تسوية الخلافات وقدمت السعودية والكويت وليبيا دعماً مالياً لدول المواجهة, وهنا ايضاً تم تجاوز الخلافات العربية-العربية, من أجل مواجهة العدو المشترك. والحال نفسه تكرر في حرب أكتوبر عام 1973, الدور الذي لا يمكن أن ينكره أحد, فقد اخذت الدول العربية تتوالى بدعمها المادي والعسكري، وبعضها استخدم سلاح إيقاف تصدير النفط عن الغرب، كورقة ضغط ضد إسرائيل والدول الداعمة لها, إلا إن بعد عملية التسوية السياسية التي قامت بها مصر مع إسرائيل، بعد زيارة الرئيس “أنور السادات” للقدس 19 نوفمبر عام 1977, وتوقيع اتفاقية ” كامب ديفيد” عام 1978, بدأت الدول العربية مقاطعة مصر التي عرفت بعروبتها اثناء حكم جمال عبد الناصر, ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس.
المرحلة الثانية: بدأت 1979, ادخل الشرق الأوسط في مرحلة جديدة، يمكن أن نطلق عليها ” مرحلة الحرب السنية الشيعية”، بدأت هذه المرحلة بعد الثورة الاسلامية في إيران، التي قادها الخميني عام 1979, والإطاحة بالشاه “محمد رضا بهلوي”, المرحلة التي حصل فيها تغيير جذري على المستوى الإقليمي وحتى على مستوى الداخل الإيراني, بعد أن كانت ايران تعدّ واحدة من أهم حلفاء الغرب، وتقوم بمهمة حماية مصالحهم الغربية عموماً والمصالح الأمريكية خصوصاً, تحولت إلى عدو ومصدر تهديد لمصالح الغرب, وأهمها مصادر تدفق النفط من الخليج, وأمن اسرائيل, في الوقت الذي زادت مخاوف الدول العربية من خطاب تصدير الثورة الإسلامية إلى الدول العربية, الأمر الذي ترتب عليه توتر في علاقاتها العربية والغربية, على إثرها دخل العراق في حرب مع إيران لمدة ثماني سنوات.
وبالرغم من الخلافات العربية-العربية، عندما بدا في أوقات معينة أن ايران يمكن أن تحقق نصراً على العراق، سرعان ما عقدت قمة عمان عام 1987, حتى تقرر إعادة العلاقات بين مصر ومعظم الدول العربية, من اجل أن تكون الدول العربية يداً واحدة في مواجهة إيران, وهو مظهر من مظاهر الوحدة العربية.
المرحلة الثالثة: بدأت هذه المرحلة في عام 1990, بعد غزو العراق للكويت, وهو الحدث الأهم والأخطر على مستوى العلاقات العربية-العربية, الذي افسد معادلة الأمن العربي كونه أول تهديد عربي على نطاق واسع من الداخل, وهنا الدول العربية بدأت تشعر بالقلق من بعضها, لاسيما ان إنهاء الغزو العراقي على الكويت، كان مستحيلاً لولا التدخل الأجنبي “الأمريكي”, على إثر الغزو العراقي للكويت انقسمت مواقف الدول العربية بين رافض، منها (السعودية ومصر وباقي دول مجلس التعاون الخليجي), وأخرى ترى أنَّ القضية هي شأن عربي، بمعنى خلاف بين طرفين عربيين في اطار البيت الواحد, مثل: (العراق, والأردن, وفلسطين), أهم ما ترتب على هذا الغزو هو: أولاً: غياب النظرة القومية الجماعية إلى القضايا التي تثار في إطار النظام العربي. ثانياً: عجز المؤسسات الاقليمية العربية كالجامعة العربية عن أداء دور فاعل في النزاعات الأساسية بين الدول العربية نفسها, الأمر الذي ترتب عليه غياب الدور العربي الحقيقي لوقف الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003, وهنا يمكن القول إنَّ الدول العربية لم تكن حريصة على بقاء النظام العراقي على وضعه, ليس بسبب سلوكه تجاه الدول العربية فقط, بل بدأت الدولة عربية تنطلق وفقاً لهويتها الوطنية أو لمصالحها الخاصة, وليس من المصلحة العربية القومية المشتركة, ومن ثمَّ قد تتفق دول عربية على موقف معين, وتتوافق أخرى على موقف آخر, ولا تهتم دول ثالثة بما يحدث أصلاً.
خلاصة القول: إنَّ هذا التباين في المصالح والرؤى، الذي أخذ يتعاظم مع قرار غزو العراق للكويت, وهو ما ينعكس بشكل وآخر على المواقف العربية، مما يحدث الآن من عملية طوفان الاقصى, الذي يمكن وصفها مواقف عربية خجولة مع استثناءات محدودة, إلا أنَّ جميع المواقف بقيت ضمن الإطار الدبلوماسي, ولم تخرج إلى حد التلويح باستخدام القوة العسكرية, أو التلويح باستخدام النفط كورقة الضغط على صانع القرار الإسرائيلي والأمريكي, ويمكن أن تقف خلف تلك المواقف عدة أسباب، منها حرص بعض الدول العربية على استمرار علاقاتها مع الغرب ولاسيما إسرائيل, بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في التطبيع مع إسرائيل، مثل: (الإمارات والبحرين)، وأخرى تسعى خلف الكواليس إلى التطبيع مع إسرائيل مثل السعودية, فيما يرى البعض الآخر أنَّ الحرب استهدفت فصيلاً فلسطينياً واحداً (حركة حماس)، هذا الفصيل الذي ينتمي فكرياً إلى جماعة الاخوان المسلمين, وهي مصنفة كجماعة خطرة, لدى بعض الدول العربية, وهو على علاقة جيدة مع ايران، في الوقت الذي كانت حركة حماس ذات علاقات متوترة مع معظم الدول العربية.
لذا أصبح من الصعب جداً أن تتفق الدول العربية على موقف عربي واحد, وهو ما يمكن ملاحظته عن طريق اختتام قمة القاهرة للسلام من دون بيان ختامي, إذ طالب البعض بمواقف حازمة وشديدة, في حين طالب البعض الآخر بحلول دبلوماسية. وعلى الرغم من حجم الكارثة لم يكن الخيار العسكري مطروحاً في حال لا سامح الله، استمر العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.