الانقلاب العالمي

      التعليقات على الانقلاب العالمي مغلقة

م.م. مضر فارس عبد الإله
مركز الدراسات الاستراتيجية/قسم الدراسات السياسية
تشرين أول/2023
لأجل الولوج في دراسة أي نظام دولي سواء كان من الماضي أم في الحاضر أم للمستقبل، لابد من الوقوف على مفهوم النظام الدولي، ومن ثمَّ الدور الذي يجب أن يقوم به. ففي الأدبيات السياسية هناك معانٍ متعددة في وصف النظام الدولي وتعريفه، لكن بالإمكان أن نعرف النظام الدولي بأنه: مجموعة من القواعد والأعراف التي تضبط العلاقات بين العناصر الفاعلة في البيئة الدولية، كما أنَّ العلامة المميزة لأي نظام دولي تتمثل في إمكانية تحقيقه للاستقرار وتنظيم العلاقات ما بين الدول، وحيث اتساع نطاق العولمة وتداخل العلاقات بين الدول وتقاطع مصالحها تارة، ووجود مصالح وأهداف مشتركة تارةً أخرى، فإنَّه من الصعب الاعتقاد بوجود مجتمع دولي خالٍ من نظام ينظم العلاقات والسلوكيات بين الجهات الفاعلة في المنتظم.
يمكن عدّ نواة تأسيس النظام الدولي في العصر الحديث، منبثقة من المبادئ الأساسية لمعاهدة ويستفاليا، التي شكلت ركنًا مفاهيميًا مهماً (مبدأ توازن القوى)، لإدارة الصراع والتنافس، وحتى إنشاء الاحلاف بين الفواعل من الدول في المجتمع الدولي، الذي أسهم بتطوير مفهوم (السلامة الإقليمية)، إذ شكل جدارًا صلبًا لمواجهة الاعتداءات العسكرية، ضد ما كان شائعًا ومتاحًا من توسع دول على حساب أخرى.
وعلى إثر التوزيع الأفقي للقوة، الذي اقترنت به الحقبة الممتدة من اتفاقية وستفاليا عام 1648، وحتى الحرب العالمية الاولى في عام 1914, وفّر النظام الدولي متعدد الاقطاب لمجموعة من القوى الكبرى: (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان) قدرات خاصة، لكنها متقاربة كمًا ونوعًا. وقد حقق نظام التعدية القطبية هامشًا من الاستقرار العالمي، إلا إنَّ مصالح الدول العظمى وسباق التسلح اصطدمت به، ولم يمنع حدوث الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وزعزعة الأمن والسلم الدوليين.
وبالرغم من حدوث الحربين العالميتين، إلا إنَّ توزيع القوة الافقي استمر لكن بنظام دولي جديد، تمثله كتلتان أساسيتان، هما: الكتلة الشرقية (الاتحاد السوفيتي) والكتلة الغربية (الولايات المتحدة الأميركية)، وقد عبر عن نمطين مختلفين من توزيع القوة بين الدول الكبرى، فقد توافرت دولتان على القدرات التأثيرية التي افتقرت إليها الدول الكبرى الأخرى، وعرف النظام الدولي خلال حقبة الحرب الباردة 1947-1991 نظام الثنائية القطبية.
ومع سقوط الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي بعد انقضاء الحرب الباردة، شهد العالم تحولات تاريخية، امتازت بالسرعة والشمولية في تأثيراتها وتحدياتها، فضلا عن تعددية احتمالات نهاياتها، كما أنَّ مخرجاتها أسست لملامح البيئة الدولية الجديدة، دفعت إلى نظام دولي جديد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تحت مسمى نظام أحادي القطبية، أو ما أطلق عليه أستاذ السياسة الدولية ريشارد هاس، تسمية “اللاقطبية الدولية”، والتي أراد منها الإشارة إلى تميز هذه المرحلة بالسيولة القطبية، التي تجمع بين أشكال القطبية الدولية كافة التي عرفها التاريخ الدولي، وعلى الرغم من اتفاق بعض المتخصصين مع ما ذهب إليه هاس، إلا إنَّنا نميل إلى وصف النظام الدولي، خلال السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم بالأحادية القطبية.
ما يهمنا في هذا المقال هو ما يتعلق ببوادر تشكيل النظام الدولي الجديد، فأحداث تاريخ السياسة الدولية تُفيد، أنَّ عملية التحول من نظام دولي محدد إلى أخر مختلف، مرهونة بأحداث كبيرة التأثير، كالحروب، أو انهيار نظام سياسي لدولة كبرى، أو بروز دول كبرى على الساحة السياسية الدولية …الخ. فضلاً عن ذلك نرى أنَّ خاصية اللاقطبية أو الأحادية القطبية، غير ممكن استمرارها إلى زمن بعيد، فمعطيات الواقع الدولي الراهن توحي أن ثمة نظام دولي وبهيكلية أخرى قيد التشكيل، فمن المحتمل وبنسبة عالية أن يؤدي الصعود التدريجي لقوى دولية كبرى، إلى أعلى الهرم الدولي في المستقبل المتوسط،، إلى تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب.
ومما لا شك فيه، أنَّ ميزان القوى الدولية عندما يتغير، فإنه يمهد لتغيير النظام الدولي إلى آخر مختلف، وتسمى هذه المرحلة الفاصلة بين نظام دولي يتآكل وينهار، وآخر قيد التشكيل بالمرحلة الانتقالية، وتتميز الملامح الأساسية لهذه المرحلة بانفتاح نهاياتها على العديد من المشاهد المحتملة، وعدم اليقين بالمدد الزمنية اللازمة التي قد يستغرقها هذا التحول، إلا أننا نرى أنَّ نتائج هذه المرحلة، لا تفضي إلى انحسار السيناريو المستقبلي على مشهد واحد، فإن استشراف المستقبل يتطلب التأسيس لسيناريوهات مختلفة النتائج، لذا سننطلق من ثلاث فرضيات نعتقد أنَّها ممكنة الحدوث، وكالآتي:
السيناريو الأول: مفاده أن الاستحواذ الشديد على القوة والنفوذ من دولة عظمى واحدة، هي الولايات المتحدة الاميركية، وهنا لا نتحدث عن القوة العسكرية فقط، بل نقصد القوة الاقتصادية لاسيما قوة الدولار الأميركي، وارتباط العالم اجمع به، قد يسمح لها بالاستمرارية في التربع على قمة الهرم السياسي الدولي منفردة، وهذه أضعف الفرضيات حظوظاً.
السيناريو الثاني: إنَّ النمو المتسارع لعناصر القوة والنفوذ (العسكرية والاقتصادية) لدى الصين، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة الأميركية وأدها ستقود إلى مرحلة مهمة، ألا وهي استيعاب الأخيرة حجم القوة الصينية، وإيجاد تفاهمات لتقاسم النفوذ والسيطرة حول العالم، وبذلك نكون امام مشهد الثنائية القطبية من جديد.
السيناريو الثالث: إنَّ عدم قدرة الولايات المتحدة الأميركية على حسم الملفات الإقليمية، والفوضى التي خلفتها سياساتها في التعاطي مع الملفات الدولية، وجملة الانكسارات التي رافقت التخبط الأميركي، كالانسحاب المذل من أفغانستان، وفشل مشروعها في العراق بصناعة (نظام نموذجي) في منطقة الشرق الأوسط،، والصراع الروسي – الاوكراني على الجانب الشرقي من أوربا (الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية)، والتمرد الافريقي على الوصاية الفرنسية في بعض دول افريقيا، فضلاً عن تجدد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي شكل صدمة كبيرة لسمعة القوة العسكرية الإسرائيلية، ناهيك عن الزحف الصيني صوب بلدان العالم، والتأسيس لشراكات اقتصادية مع الكثير من الدول، وأخيرا وليس آخراً الانتصارات المتكررة للتكنلوجيا الصينية، على حساب العقوبات والحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة الأميركية، تلكم المسببات وغيرها سمحت لتنامي القدرات وتعاظم القوى، الأمر الذي سيخدم حتماً مصالح دول متفاهمة أو متناقضة، وهو ما قد يفضي إلى مشهد عنوانه إعادة هيكلة النظام الدولي الحالي (الأحادي القطبية)، ليقوم على انقاضه نظام متعدد الأقطاب (مجموعة من الدول الكبرى).
وعلى الرغم من أنَّ الولايات المتحدة مستمرة في قيادتها للنظام الدولي منفردة، منذ نهاية الحرب الباردة 1991م، إلا أن التاريخ الدولي يبرهن بأنّ القوى العظمى التي سبقتها في قيادة العالم، وإبّان مرحلة أفول دورها العالمي، حاولت وبشتى الوسائل الحيلولة دون التخلي عن موقعها في قيادة العالم، بيد أنها لم تستطع البقاء على القمة كقوة عظمى وحيدة.
فضلاً عن الاختلالات الهيكلية في جسد الأمة الأميركية، والتي عبر عنها المؤرخ الأميركي بول كندي، بأنَّها: “ستجعل من الولايات المتحدة أمة في طور الأفول”، فإنها (الولايات المتحدة) لم تتردد في إضعاف القوى الدولية المنافسة لها وإنهاكها، كالصين وروسيا الاتحادية ذات القدرة النووية الرادعة وغيرهما، عبر أدوات القوة الناعمة والصلبة، بتبني تحالفات متجذرة مع بعض القوى الكبرى الحليفة، كالاتحاد الأوربي، واليابان.
ونجد لدى المفكرين الأميركيين داخل الولايات المتحدة، اعترافًا بفكرة أنَّ مصير القوى العظمى والامبراطوريات عبر التاريخ كان واحدًا، هو الانكماش والتراجع ومن ثم الاضمحلال والزوال، فالاختلالات التي يعاني منها الجسد القومي الأميركي، لا تقتصر على الداخلية فحسب، بل تشمل أيضا البيئة الخارجية الأميركية، التي تتميز بمعطيات غير داعمة للاستمرار الأميركي في الانفراد بالقيادة العالمية، فضلا عن تلاشي امكانية الحصول على الدعم الدولي المطلق لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.
وإذ نعدّ أنَّ مساعي الولايات المتحدة في تطويق روسيا الاتحادية بحلف الناتو، وتأليب الرأي العام العالمي ضد الصين، عبر توظيف مسألة حقوق الإنسان، وكذلك المشكلات الداخلية في الصين، ومحاولة استثمارها لمصلحة الولايات المتحدة، عبر خلق تكتلات أسيوية عسكرية مماثلة لحلف الناتو، لديمومة الانفراد الأميركي بالقيادة العالمية، لضمان بقائها على رأس هرم النظام الدولي، لم تمنع كل هذه الأدوات والمساعي من انتفاض روسيا ضد عملية تطويقها، ولم تثنِ الصين عن رغبتها بالاستمرار في منافسة الولايات المتحدة الأميركية، ولا نغفل محدودية الفاعلية الأميركية في معالجة الكثير من المشكلات والتحديات العالمية، كتغيرات المناخ، واتساع طبقة الأوزون, والغازات المنبعثة، والتلوث، وجائحة كورونا وغيرها، بل إنَّها تعاملت مع هذه المخاطر التي تهدد الإنسانية جمعاء ببرجماتيتها المعهودة.
وتأسيساً على ما تقدم من الرفض الدولي المتنامي، واتساع هامش التمرد الدولي لطبيعة النظام الدولي ذو القطب الواحد، فضلاً عن النمو المتصاعد لقدرات قوى كبرى ومنافسين تقليديين للولايات المتحدة وآخرين جدد، لاسيما تلك التي حصنت نفسها بمجموعة تكتلات اقتصادية وسياسية مهمة، مثل مجموعة البريكس الاقتصادية التي تضم: (البرازيل، وروسيا الاتحادية، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)، والتي يشكل مجموع مساحة دولها الأعضاء نحو ربع مساحة اليابسة، وبعدد سكان يقترب من نحو (40%) من سكان العالم، وبنمو اقتصادي متسارع على نحو يدفع إلى التأمل في نتائج هذه التكتلات. إنَّ مخرجات هذه التكتلات لم تأتِ أكلها لغاية الآن، إلا إنَّ الولايات المتحدة الأميركية لن تتمكن من عدم الخضوع لمخرجات قانون يتكرر تاريخيًا، مفاده: أنَّ القوى العظمى، في حالة تربعها على القمة، لن يكون حائلاً دون الهبوط من عليها.
ولعل أشد ما يحتاجه العالم اليوم، الأخذ بالحسبان الحاجة إلى تخفيف تضارب المصالح، ففترات السلام المؤقتة قد تحدث، بيد أنَّها لن تكبح الصراعات ولن تدوم للأبد، إذ يمكن بناء الأنظمة الدولية على مجموعات مختلفة من القيم والمبادئ، قد تؤمن القوى العظمى برؤى تنافسية للنظام، الشيء الذي قد يتم إثباته كثيرًا في السنوات القادمة، إذ قد تسعى القوى الصاعدة في النظام الدولي، إلى إنشاء أنظمة بديلة أو مضادة للنموذج الليبرالي الغربي.