م. م سندس الطريحي
مركز الدراسات الاستراتيجية- جامعة كربلاء
آذار/ 2024
أساس السلطة والحرية هما طرفا العلاقة الدستورية ومحورها، ومدى التوازن بينهما، وللوقوف على مفهوم السلطة والحرية لا بدَّ من ذكر تعريف لهما، إذ تعدّ السلطة السياسية بحق أهم الأركان والعناصر الأساسية في تكوين الدولة، بل هي حجر الزاوية في كل تنظيم سياسي، حتى أنَّ بعض الفقهاء يعرف الدولة بالسلطة، وهي تجمع بين الخير والشر، وبين المشروعية وعدم المشروعية. فلم يكن موقف الكتّاب السياسيين والقانونيين واحدًا من السلطة السياسية, إذ رفضها البعض وقبلها آخرون، نظرًا لاختلاف اتجاهاتهم ورغباتهم وتأثرهم بالسلطة السياسية التي يعيشون في ظلها، فكان فريقاً منهم يرفضون السلطة السياسية، ويعدونها تنظيمًا سيئاً لا ضرورة له. وتأسيسًا على ذلك فإنَّه يجب القضاء عليها، وإقامة مجتمعات لا مكان فيها للسلطة السياسية، وأنَّ القضاء على مساوئ السلطة يمر عن طريق القضاء على السلطة نفسها، لذا فهم لا يهتمون بوضع تعريف لها، وهم بذلك اغفلوا المزايا التي تعود على المجتمع من وجودها، ولم يستطيعوا أن يقدموا بديلًا عمليًا عنها قابلًا للتطبيق، ومن هذه المدارس ذات الاتجاه المثالي الخيالي أو الايتوبيا، ومدرسة الثورة على الطغيان، والمدرسة الفوضوية، وأخيرًا المدرسة الماركسية، وهناك فريق آخر يعد السلطة السياسية ضرورية ولازمة، لحفظ المجتمع وانتظامه، وأنَّها وإن كانت شرًا إلا أنَّها شر لا بدّ منه. يرى الفقيه (موريس دفرجيه) أنَّ للسلطة السياسية معنيين, أولهما معنوي، والآخر مادي. فالسلطة السياسية بمعناها المعنوي، تعني القوة والقدرة على السيطرة التي يمارسها الحاكم – أو مجموع الحكام – على المحكومين, والتي تتمثل في إصدار القواعد القانونية الملزمة للإفراد، وفي إمكانية فرض هذه القواعد على الأفراد باستخدام القوة المادية. أمّا السلطة السياسية في معناها المادي أو العضوي، فتعني أجهزة الدولة التي تقوم بممارسة السلطة بمعناها المعنوي، والتي يطلق عليها عادة اصطلاح الحكومة وأجهزتها التنفيذية، أمّا أساس السلطة والتي يمكن ردها إلى أصول وأسس دينية وفلسفية واجتماعية وتاريخية مختلفة، وهي كل من النظريات الثيوقراطية، والنظريات العقدية، ونظرية القوة، ونظرية الأسرة، ونظرية التطور التاريخي. أمّا حدود السلطة فالاتجاه السائد حاليا في الفقه الدستوري، ينادي بتقييد سلطة الدولة، ووضع الحدود اللازمة عليها، لضمان عدم تعسفها أو لمنعها من التعدي والمساس بحقوق الأفراد وحرياتهم.
إنَّ مفهوم السيادة لا يعني – كما كان يصورها الفقه التقليدي – أن تكون السلطة مجردة من كل قيد، إذ إنَّ إطلاق السيادة هو إطلاق نسبي، ومن أجل الوقوف على مفهوم الحرية وتحديده، يذهب الفقهاء إلى أنَّ مفهوم الحرية هو مفهوم نسبي، يختلف باختلاف الزمان والمكان للحرية، لذا لم يكن لها تعريف ثابت ومحدد، فقد نحا الكتّاب والفقهاء إلى اتجاهات مختلفة في تحديده، على الرغم من اتفاقهم على عناصر معينة فيها، وهذا ما يزيد في صعوبة البحث عن نقطة التوازن بين السلطة والحرية، ويمكن التمييز بين اتجاهين مختلفين في هذا الصدد:
الاتجاه الأول: يذهب إلى أنَّ الحرية التي يتمتع بها الفرد في ظل نظام معين، هي تلك الحريات التي يعترف بها ويحددها هذا النظام. من هذا الاتجاه عرّف الفيلسوف (جون لوك) الحرية، بأنَّها: “الحق في فعل أي شي تسمح به القوانين”. كذلك تعريف الفيلسوف (جان جاك روسو) للحرية، بأنَّها: “عبارة عن طاعة لإرادة عامة”. ويضيف إلى ذلك بالقول: “إنَّ أحد المهام التي تقع على عاتق النظرية السياسية، هي أن تحسم الأمر بين مطالب الحرية والسلطة، وأن تعين الحدود المناسبة. ومن ثم فإنَّ الإكراه القانوني هو ثمن يدفع مقابل الحريات الايجابية التي من هذا النوع، لأننا نتنازل عن القليل فقط، لنستعيد المزيد”. ولا بدَّ من الإشارة إلى اختلاف الفقه في مسألة التمييز بين اصطلاحي الحق والحرية، فقد ذهب البعض إلى أنَّ الحق ما هو إلا حرية اعترف بها القانون، أي أنَّ الحرية أوسع مدلولًا من الحق، وذهب آخرون إلى العكس من ذلك، وانتهوا إلى أنَّ الحق أوسع مدلولا من الحرية. إلا أنَّ الاتجاه الغالب في الفقه، يتجه إلى استخدام اصطلاحي الحق والحرية كمترادفين، تأسيسًا على ذلك أنَّ كلاهما يرد إلى طبيعة واحدة، وأنَّ التفرقة بينهما هي تفرقة شكلية بحته، لأن تمتع الفرد بحرية معينة يعني أنَّ له الحق في ممارستها أو عدم ممارستها. لقد لحق مفهوم الحرية في القرن العشرين تطورًا كبيرًا، فلم يعد ينظر إليها على أنَّها مجرد وسيلة لمقاومة سلطان الدولة، ووضع القيود عليها، استنادًا إلى الاعتقاد الذي كان سائدًا فيما سبق، في أنَّ مصدر الظلم والاضطهاد هم الحكام، وأنَّ سلطة الدولة شر لا بدَّ منه, وإنَّما أصبح تدخل الدولة في مختلف الميادين، ولاسيما ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي، أمر مقبول وضروري حتى في أكثر الدول الليبرالية، وذلك لمعالجة ومواجهة الأزمات كالتضخم والبطالة، والقيام بالأعمال التي تتطلبها المصلحة العامة، بل أصبح التقدم الاقتصادي في العصر الحديث مستحيل التحقيق، عن طريق الأفراد وحدهم دون تدخل الدولة. لذا إنَّ التأكيد على الحرية، والحرص على احترامها وضمان ممارستها, لا يعني بحال من الأحوال أن تكون مطلقة من كل قيد أو تنظيم, فلا وجود للحرية المطلقة في ظل المجتمع المنظم بالدولة، لأنَّ وجودها –على فرض حصوله– يعني انهيار الدولة وانتشار الفوضى، ذلك أنَّ مجال ممارسة الحرية هو المجتمع، والذي يقتضي فرض قيود وشروط لممارستها، حفاظًا على حريات الآخرين والنظام العام للجماعة، لذا ينتهي القول إلى أنَّ تحقيق التوازن بين السلطة والحرية، يتأتى عن طريق التوفيق بين أمرين: أولهما، يتمثل في التسليم بضرورة السلطة، وضرورة تدعيمها وتقويتها إلى الحد الكافي، لتحقيق الأمن والسلام الجماعيين، والثاني، يتمثل في عدم المغالاة في دعمها وتقويتها، حتى لا ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح قوة مادية استبدادية، لا ترعي حرمة ولا تحترم حقا لأحد، لذا ينتهي إلى ضرورة الاعتراف بمبدأ تحديد السلطة العامة، وإخضاعها لبعض القيود، وذلك للحيلولة بينها وبين التحكم والاستبداد.
ويشترط في هذا التنظيم أو التقييد للحرية، ألا يكون إلا بقانون صادر عن سلطة تشريعية منتخبة، ولا يجوز لسلطة أخرى وضع القيود على الحرية، إلا إذا كانت تحمل تفويضًا بذلك، وأن لا يصل مدى هذا التنظيم والتقييد إلى حد المصادرة الكلية للحق والحرية، وأن يكون هذا التقييد والتنظيم ضمن الحدود المعقولة، وأن يقرر من أجل مصلحة عامة، ولأسباب ومسوغات قوية تستدعي هذا الإجراء، وهذا ما قرره نص المادة (44) من الدستور الدائم لجمهورية العراق لعام (2005) بنصه، على أن “لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور، أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية”. هذا وإنَّ الأنماط والأساليب المختلفة التي يتم بها تنظيم ممارسة الحريات، هي أسلوب إباحة النشاط، وأسلوب الإخطار، وأسلوب الترخيص، وأسلوب حظر النشاط، وأسلوب الأمر، وأخيرا أسلوب إيقاع الجزاءات القمعية. فإنَّ القانون الدستوري يشكل تنظيمًا للتعايش السلمي بين السلطة والحرية، في إطار مؤسسة المؤسسات وهي الدولة، أي العلاقة بين الحرية التي يجب أن يتمتع بها الفرد، والسلطة التي يمارسها الحاكم باسم المجتمع، وقد تبنى هذا الفقه التقليدي اعتقادا مفاده أنَّ الدستور يرتبط بمضمونه، وأنَّه لا يكفي للقول بوجود الدستور في الدولة، أن يتضمن القواعد المنظمة للسلطة السياسية فحسب، بل يجب أن يتضمن، فضلا عن ذلك، القواعد التي تكفل حريات الأفراد وتضمن حقوقهم، وأنَّ الدستور يجب أن يعمل على إقامة نظام خاص للحكم، هو النظام الحر الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ سيادة الشعب وحقوق الإنسان. لذا فإنَّ أنصار هذا الاتجاه ينتهون إلى عدم الإقرار بوجود الدستور، إلا في النظم الديمقراطية التي تكفل الحقوق والحريات الفردية. ويستخلص من كل ذلك أنَّ القانون الدستوري هو بصورة أساسية أداة أو “تقنية الحرية”، لذا فهو ينتهي إلى أنَّ القانون الدستوري، هو فن أو آلية تنظيم الحرية، ويشير الدكتور محمد عصفور إلى أنَّ الفلسفة الديمقراطية تقرر أنَّ العلاقة بين السلطة والحرية، هي علاقة تبعية كاملة، لذا فإنَّها تفرض على السلطة، أن تحترم الحرية في كل الأحوال والظروف، بعدّها أسمى من القواعد القانونية، وإذا حدث أن تعارضت السلطة الديمقراطية مع الحرية، فإنَّه يجب أن تغلب الحرية بلا تردد. كما أنَّه يرى أنَّ مذهب الموازنة بين السلطة والحرية، يجعل بالنتيجة من ممارسة الحرية رهينًا بالمناسبات والظروف، إذ إنَّ إنكار طبيعتها كحقوق نافذة وغير مشروطة، ووضعها على قدم المساواة مع اعتبارات نسبية وغير ثابتة، كحماية النظام السياسي أو الاجتماعي، وينتهي بصدد هذا الوضع إلى أنَّه يأتي على خلاف أسس وأصول الفكر الديمقراطي، التي تجعل الحرية تعلو على اعتبارات الأمن والنظام، لذا فهو ينتقد الاتجاه السائد في النظم الديمقراطية، الذي يضع السلطة في مرتبة أعلى من الحرية، ويرى أنَّه بمنزلة تغليب للوسائل على الغايات، وقلب كامل لكل قيم الديمقراطية وأسسها وفلسفتها وغايتها، بعدَّها أداة مسخرة لحماية الحرية، وتأكيد ممارستها، وضمان حسن نفاذها واحترامها.