هل ينهي وباء كورونا عصر العولمة؟

      التعليقات على هل ينهي وباء كورونا عصر العولمة؟ مغلقة

سيف الامارة

باحثمتخصص في العلاقات الدولية باحث مشارك في قسم ادارة الازمات مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

يبدو إنه من غير المرجح –على المدى المتوسط  في الأقل- أن نعود إلى عالم ما قبل كورونا، فالصدمة الخارقة التي ولدها الوباء ساهمت بإعادة صياغة منظوماتنا الفكرية والمادية على وفق تجليات الوباء، مما يرجح انتقالنا في عالم ما بعد كورونا إلى الاستراتيجية الوقائية لمكافحة الفايروسات، وهذا يعني استمرار دوامة الانغلاق النسبي وتفتيت ركائز العولمة.        إنّ معضم التطورات التي غيرت مسار التاريخ جاءت ضمن منحنى صدمة تدريجي ينتهي بانتشار حتمي لتلك التطورات، ويتناغم البشر مع التطورات ضمن سياق طوعي أو قسري، بوصفها تغييرات جارفة لا يستطيع الإنسان الصمود إزائها مهما حاول مقاومتها، وعلى وفق هذا المنظور يمكن تفسير التغييرات الراديكالية التي غيرت وجه العالم الحديث والمعاصر بدءًا من الثورة الصناعية ومرورًا بالعولمة وانتهاءً بوباء كورونا.        لقد تميز وباء كورونا عن التغييرات التي هزت العالم سابقًا بسرعته الخارقة، والهلع الرهيب، وعدم وضوح معالمه، واستهدافه للبشر برمته دون اعتبار للجغرافية والتطور الحضاري، مما تسبب بارباك وشل حركة العالم بشكل غير مسبوق.      من جانب آخر، تشهد العولمة منذ عدة سنوات موجة انحسارات متراكمة تمثلت أهمها بتصاعد التيارات الشعبوية في الولايات المتحدة و أوروبا، وتقهقر التكتلات الاقليمية كالاتحاد الاوربي، وانتعاش النظم المغلقة كروسيا والصين، ليأتي وباء كورونا باطروحة الانكماش وشل التفاعل البشري كضربة قاصمة إزاء اطروحات العولمة الدافعة باتجاه تأليف قرية صغيرة، وتدفق الافكار والناس، وبناء ثقافة كوزموبوليتانية.      و في ظل تسارع الخطر الداهم لوباء كورونا قامت مختلف دول العالم بايقاف تسيير الرحلات الجوية، ونقل مواطنيها العالقين في دول أخرى، وغلق الحدود أمام الأجانب، إذ من المتوقع أن تكون التنقلات عبر الحدود مستقبلًا عملًا بيروقراطيًا معقدًا.      و قد دفع إغلاق الحدود العديد من الدول وفي مقدمتها أوروبا نحو الاعتماد على مخزونها الغذائي والسلعي، والتوجه نحو الاعتماد الذاتي، مما خلق نقص حاد في المواد الغذائية، وتسبب بفوضى عارمة، لم يعتادها العقل الأوربي الذي أخذ ينعم بمستويات عالية من الرفاهية منذ الحرب العالمية الثانية، مما ولد أزمات داخلية خانقة هزت شرعية أنظمتها الداخلية جميعها وفي مقدمتها نظمها السياسية.         و قد رافق إغلاق الحدود وتقهقر شرعية النظم السياسية تنامي تدريجي للنزعات القومية، ودعوات للانغلاق، وكبح أصوات المعارضة، وتفادي العالم الخارجي الموبوء بالأزمات، وطرد الأجانب. وطالما أن فيروس كورونا يمثل حالة طوارئ عالمية فإن الحكومات توظف الطوارئ لتعزيز سلطاتها، وربما لن تتخلى بعضها عن سلطاتها الجديدة، بمجرد أن يزول التهديد.        و يكمن خطر وباء كورونا في تجسيده الزلزال العالمي القادم الذي قد لا يكون كورونا سوى هزة مبكرة وخفيفة من هزاته، فالمرجح أن يكون انحسار الوباء بطيئًا ولمدة طويلة نسبيًا، لهذا من الصعب أن نعود إلى عالم ما قبل كورونا بشكل سريع، فالصدمة الخارقة التي ولدها الوباء اسهمت بإعادة صياغة منظوماتنا الفكرية والمادية بشكل سريع وقسري على وفق تجليات الوباء، مما يرجح انتقالنا في عالم ما بعد كورونا إلى الاستراتيجية الوقائية لمكافحة الفايروسات، وذلك يعني استمرار دوامة الانغلاق النسبي ودحض ركائز العولمة.     من هنا يمكن القول إنه في ظل النظام البيئي الجديد، وانحسار التكتلال الاقليمية والنزوع نحو الدولة القومية قد تصبح الدول القوية أكثر قوة، لأنها تحدد بوضوح من الذي يمكن أن يدخلها ومن يجب أن يخرج منها، ولأن حدودها مسيطر عليها جيدًا. أما الدول الضعيفة التي تمتد حدودها البرية على مسافات طويلة وتتردى فيها أنظمة الصحة العامة فقد تكون الأكثر عرضة للخطر.        و سنكون مجبرين على التخلي عن شعار القرية الصغيرة، واستيعاب حقيقة إن العولمة باتت شيء من الماضي، والعيش مجددًا في عالم أكبر تبعد فيه الأماكن الأخرى، وتكون القوى المحلية سيدة مصيرنا من دون منازع، وتصبح الأوبئة العالمية سمة سائدة في النظام العالمي.