العراق، وأرض الميعاد اليهودية!!

      التعليقات على العراق، وأرض الميعاد اليهودية!! مغلقة

الباحث: م. حسين باسم عبد الامير
قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجية
جامعة كربلاء
تشرين الأول / 2020

ترمز النجمة السداسية في علم دولة اسرائيل -والتي تدعى بـ نجمة داوود- الى مملكة النبي داوود عليه السلام.. اذ يشير تداخل المثلثان في النجمة الى تعاضد السلطتان الدينية والزمنية معا. كما يرمز الخطين الأزرقين في العلم الاسرائيلي الى نهري النيل والفرات!!
نظرة في الموروث الديني اليهودي
لقد انبثقت هذه الرؤية والرسالة الإسرائيلية من العقيدة والموروث الديني اليهودي، إذ انطوت أسفار الكتاب المقدس على وعود من قبل الرب لشعب اليهود في منحهم “أرض الميعاد” لهم ولأولادهم، وكان وصفها في شروط من الأراضي تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات.
أرض الميعاد (بالعبرية: הארץ המובטחת) «الأرض» هي المقابل العربي لكلمة «إرتس» العبرية التي ترد عادةً في صيغة «إرتس يسرائيل» أي «أرض إسرائيل». فهي «أَرْضِ الرَّبِّ» (هوشع 3:9)، ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الرب، والأرض المقدَّسة (زكريا 12:2) التي تفوق في قدسيتها أيَّ أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار. وقد جاء في التلمود: “وَالآتِي عَلَيْهِ يَفْعَلُ كَإِرَادَتِهِ وَلَيْسَ مَنْ يَقِفُ أَمَامَهُ، وَيَقُومُ فِي الأَرْضِ الْبَهِيَّةِ وَهِيَ بِالتَّمَامِ بِيَدِهِ.” وهي كذلك «الأَرْضِ الْبَهِيَّةِ» (دانيال 16:11).
ويعتقد اليهود أن الرب وعد إبراهيم وعاهده بأن يمنحه وذريته “أرض الميعاد” التي سيعود إليها اليهـود تحـت قيادة (المسيح المخلص)، أي الأرض التي سـتشهد نهاية التاريخ. هذا بالطبع حسب اعتقادهم وحدهم.
وهكذا، ورد في سفر التكوين الإصحاح الخامس عشر المقاطع 18-21 بأن الرب وعد النبي إبراهيم بأن يمنحه وذريته “أرض الميعاد” التي كان يقطنها شعوب مختلفة قديما على النحو التالي:
18 في ذلك اليوم قطع الرب مع ابرام -أي النبي إبراهيم- ميثاقا قائلا: «لنسلك اعطي هذه الارض، من نهر مصر الى النهر الكبير، نهر الفرات. 19 القينيين والقنزيين والقدمونيين 20 والحثيين والفرزيين والرفائيين 21 والاموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين».
ويعتقد اليهود ان الوعد في البدء كان لإبراهيم ولكنه انتقل إلى أن وصل إلى يعقوب (إسرائيل) ومن ثم أبنائه واحفاده، اليهود الحاليون، وتعمدوا أن يتناسوا انتقال هذا الوعد أيضا لأبنه إسماعيل وأحفاده من إسماعيل واحتفظوا بالحق لأنفسهم فقط.
ومن ثم، وحسب قناعة اليهود وحدهم، فإن نزعة اليهود للاستعمار الاستيطاني على “أرض الميعاد” لا يستند في تصورهم الى مخطط استعماري، ولا يصدر عن مصالح اقتصادية محددة، وانما هو مجرد عودة الشعب الى ارض الميعاد، والمهاجرين اليهود ليسوا بمستعمرين استيطانيين، وانما هم مجاهدين في العودة الى ارض اسرائيل، والعنصرية الصهيونية ليست عنصرية على الاطلاق، وانما هي تعبير عن ارادة الشعب (الشعب المختار) ذي الرسالة الحضارية المجيدة. ومن ثم، يصبح القاطنين في أرض ميعادهم مجرد سكان مؤقتين في الارض المقدسة ولابد من ابادتهم لتحقيق الوعد الالهي.
في الواقع لا نسعى للانخراط في نقاشات دينية، فلها أهلها من المختصين. كما أن الدول الحديثة لا تُبنى ولا تستند إلى الشرعية الدينية ولا تمت إلى تصوراتها بأي صلة. غير أن ما يهمنا هو التداعيات الـ جيو-استراتيجية الممكن حدوثها نتيجة التزام دولة أو كيان ما -مثل إسرائيل- بالسعي إلى تحقيق تلك التصورات الدينية على أرض الواقع.
موسم التحول في السياسات والمواقف
اليوم، تمر منطقة الشرق الأوسط بموجة جديدة تُجري خلالها بعض الدول إعادة ترتيب لسياساتها الخارجية ومواقفها التي تعبر عن تلك السياسيات والرؤى. فقد شهدنا في الآونة الأخيرة تحول في السياسات الخارجية لدى دولتي البحرين والإمارات العربية المتحدة، وقد تلتحق بهما قريبا دولا أخرى مثل سلطنة عمان والسودان وقطر!! فقد قرر كلا من دولتي البحرين والإمارات انتهاج سياسات جديدة تجاه إسرائيل، تقوم على أساس الاعتراف وتطبيع العلاقات معها كدولة كاملة السيادة على أجزاء من فلسطين المحتلة. ولا يخفى على الجميع بإن الدافع الأساسي الكامن خلف هذه السياسات الجديدة يتمثل بقلق هذه الدول وخشيتها من تعاظم القوة الإيرانية وتنامي أذرعها في المنطقة من جانب، ومن جانب آخر الضغوط الأمريكية التي تمارسها إدارة ترامب على الدول الخليجية لانتزاع الاعتراف بإسرائيل حتى من دون التوصل لحل الدولتين على أقل التقادير!!
ومن ثم، وكنتيجة لهذه التطورات في المواقف والاحداث، برزت أصوات جديدة على المستوى المحلي في العراق تنادي بإتباع سياسة خارجية عراقية جديدة متماثلة مع سياسات الدول العربية الشقيقة كشكل من أشكال إعادة حالة اللحمة بين العراق ومحيطه العربي وتعزيز التعاون المتبادل، وذلك عبر تبني رؤى خارجية أكثر تكاملية حيال شؤون المنطقة.
ولا يخفى على المتابع بأن الدافع لبروز أصوات عراقية محلية تنتمي لهويات فرعية عرقية وطائفية متنوعة تدعو للاعتراف بإسرائيل هو نفس الدافع لدى الدول الخليجية، إذ أن ما يدعوا بعض العراقيين لانتهاج هذا الموقف الجديد هو القلق والخشية أيضا من النفوذ الإيراني الذي تعاظم في العراق منذ ما بعد العام 2003، ومن الفصائل العراقية المسلحة التي ينظرون لها بأنها تأتمر بأمرة إيران، وكذلك ترحيب ودعم إدارة ترامب بمثل هذه الأصوات العراقية المطالبة بالاعتراف بإسرائيل.
وهكذا، فقد طرقت أسماعنا عباراتهم وكان مفادها: ((الفاصل بين دمار العراق وصلاحه هو: الاعتراف بإسرائيل!!)) وكذلك ((إذا اراد الكاظمي أن يدخل التاريخ من اوسع ابوابه، عليه الاعتراف بإسرائيل!!)) وكذلك ((الاعتراف بإسرائيل أفضل للعراق من أن يكون ذيلا لإيران!!)) وكذلك تكرر الدعوات الرامية إلى أن ينضم العراق إلى التحالف العربي في مواجهة إيران!! وأن يكون عضوا فاعلا ومهما في هذا التحالف والذي سيضم إسرائيل أيضا!!
في الواقع، إن الملفت للنظر بالنسبة لنا هو ((ليس)) تعامل العديد من الدول العربية مع هذا الموضوع وهذه القضية.. فالموضوع بالنسبة لأكثر الدول العربية غير ذي صلة سوى بـ مشاعرهم الدينية التي قد تضعف أو تشتد في هذا الصدد.. إذ أن الاعتراف بدولة اسرائيل لا يعرّض سلامة دولهم المادية والجغرافية للخطر!! على العكس تماما، فهم ينشدون من الاعتراف والتعاون مع إسرائيل إعادة كفة ميزان القوى الإقليمي لصالحهم خوفا من البُعبُع الإيراني!!
غير إن الأمر مختلف تماما بالنسبة لنا … وغير ممكن ان ننظر للقضية والموضوع هذا مثل الدول الخليجية ومن منظارهم الخاص.. لقد تناسى البعض من العراقيين الداعين للتطبيع مع إسرائيل بأن المسألة ليست محصورة بالمشاعر الدينية في العراق والتي ربما تكون قابلة للضعف أو الاشتداد -كما هو الحال لدى عدد من الدول العربية- غير أن الموضوع والقضية بالنسبة لنا كعراقيين تمثل قضية ((أمن قومي)) ومسألة ((أرض)) و ((وجود)) و ((أبناء)) و ((أحفاد)) و ((تاريخ)) و ((حضارة)) و((مقدسات)) و ببساطة ((كل شيء)) !!
إن الاقليم الجغرافي لدولة إسرائيل الموعودة في فكرهم العنصري وموروثهم المُحرّف وقناعاتهم المتواترة التي يجسدها علم دولتهم الاستعمارية الغاصبة لا يمتد بين نهري ((النيل)) و((السين)) في باريس وإنما ((الفُرات)) لبلاد النهرين!!
فكيف لنا والحال هذه ان نتبنى نظرة تنطلق من ذات المنطلقات الخليجية العربية أو غيرها؟؟!!
نعم، إن الدول العربية كافةً احرارا في صياغة مواقف وسياسات خارجية كفيلة بصيانة أمنهم وسلامتهم .. بالطرق التي تناسبهم .. ومن الضروري لنا إقامة علاقات ودية مع الدول العربية كافة تقوم على أساس الجورة والتعاون المتبادل.. غير أن هذا لا يعني ضرورة تبني مواقفهم التي تعبر عنها سياساتهم الخارجية!!
إذ أن الموضوع المرجعي الذي يتم تهديده عبر الموروث والطموح الإسرائيلي هو وحدة العراق وأمنه القومي وسلامته الجغرافية والديموغرافية وإيمان سكانه وفئاته الاجتماعية بضرورة تدويم حالة الاندماج بالدولة الوطنية (Nation State) الحديثة التي نشأت في العراق منذ مطلع القرن الماضي!! سيما وإن حالة اندماج العراقيين بالدولة الحديثة تحظى بمباركة المرجعيات الدينية لمختلف الطوائف العراقية المحلية. وبشكل خاص كافة المرجعيات الشيعية المتعاقبة التي تقطن النجف الأشرف العاصمة الروحية للشيعة داخل وخارج العراق.
أن الخطر الناجم عن الرؤية والطموح الاسرائيلي يتمثل في السعي للسيطرة المادية والجغرافية على الاراضي العراقية من خلال تفكيك الدولة الحديثة في العراق وتحويلها إلى دويلات متناحرة وذلك عبر دفع الفئات والمكونات الاجتماعية الاساسية في العراق إلى المطالبة بـ فك اندماجهم وارتباطهم بالدولة الحديثة، وهو ما يقرب الكيان الإسرائيلي ويُعجل خطواته تجاه حلمه وطموحه في قِبالة عراقا موحدا وكبيرا مُستقرا.
نعم، إن هذا الهدف يجري بالرغم من عدم انتهاج إسرائيل لسلوك مباشر في تحقيق هذا الطموح -المتمثل بـ فك اندماج المكونات الاجتماعية الأساسية بالدولة الحديثة في العراق- وبدلا لذلك تستخدم إسرائيل “قوى إقليمية” و”جماعات مسلحة وغير مسلحة محلية” -بعلم من هذه القوى والجماعات أو من دون علم- تؤدي هذه المهمة وتسعى لهذا الغرض بالنيابة عن إسرائيل!! إذ أنها -أي القوى والجماعات المحلية والإقليمية- في النهاية تساهم في تعريض عقد وحدة العراق للانفراط والتناثر. وبالنتيجة فهم يخدمون إسرائيل من حيث يعلمون أو لا يعلمون!!
الخلاصة:
ومن ثم، ومن وحي أهمية هذا الموضوع وهذه القضية، نود أن نرسل رسالتان من خلال هذه السطور:
الأولى، لكل العراقيين الداعيين للتطبيع مع إسرائيل، ومفادها بأن النفوذ الأجنبي في العراق وشباك الفساد المترامية لا يتم إنهائهما بـ توسل المعونة من إسرائيل أو غيرها!! فالتاريخ يُنبهنا بعدم وجود أي دولة أجنبية أرسلت طاقمًا إداريًا أو استشاريًا ليقود شعبا آخر وينهض باقتصاده ويعزز أمنه القومي وتماسكه الاجتماعي على الإطلاق!! إن تعزيز الأمن والاقتصاد والتماسك الاجتماعي وتحقيق المساواة العامة والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد وإنفاذ سلطة القانون وتمتين السيادة العراقية ليست سوى مصالح وطنية لا يُمكن لغير العراقيين تحقيقها بالضرورة. إن تقوية الدولة العراقية في غابة الشرق الأوسط المتوحشة ليست سوى شأن عراقي بحت، وقد جربنا الاستعانة بالأجنبي وكانت النتائج واضحة للجميع!! لذا فنرجو منهم التفكير مرة وأثنين وألف مرة قبل الشروع والإصرار على تبني مثل هذه القناعات التي لا تمت إلى الوطنية بأي صلة، والتي لن يجني من ثمارها العراق سوى وضع السلم الأهلي على حافة الهاوية وسياج الحدود الحالية على مفترق طرق!!
الثانية، لصناع القرار بشكل عام لاسيما المعنيين منهم بمسألة برسم السياسة الخارجية وصياغة مواقفها والقائمين على تنفيذها، إذ نود أن نوصيهم ونُذكّرهم بأن غموض المواقف الدينية لدى إسرائيل تؤدي الى خلق حالة من عدم اليقين بشأن نواياها النهائية. وفي مواجهة عدم التمييز بين حالتي السعي للتوسع أو الاكتفاء الجغرافي، يجب على صناع القرار التمييز بين حالات “الوضع الراهن” والوضع “المُعدّل” المحتمل!!
وعليه، ينبغي على صناع القرار العراقيين افتراض الأسوأ. من الحكمة بالنسبة لنا في التعامل مع إسرائيل مساواة القدرات بالنوايا: ((ماذا يمكن لـ إسرائيل أن تفعله؟ ستفعله، إذا أتيحت لها الفرصة)). لذلك يجب علينا اتخاذ إجراءات تعرقلها وتبني استراتيجيات تحول دون تحقيقها لأهدافها. وتتقدم هذه الإجراءات والاستراتيجيات ضرورة المحافظة على السياسة الخارجية العراقية في عدم الاعتراف بالكيان التوسعي الغاصب وما يحمله هذا الكيان بين ثناياه من تهديدًا وجوديًا للدولة الحديثة في العراق وأمنه القومي وسلامته المادية والجغرافية والديموغرافية.
وهذه السياسة الخارجية العراقية والمواقف التي تجسدها يجب ان تكون مفهومة ومؤيدة شعبيًا بُغية تدويم حالة الرأي العام الرافض للتطبيع مع إسرائيل واستثماره كـ عنصرًا ضاغطًا على الحكومات الضعيفة التي انتجها النظام السياسي الضعيف الحالي، والتي تهاونت وقد تتمادى أكثر في تهاونها فيما يتعلق بصيانة أمن وسلامة العراق المادية ومصالحه الوطنية العليا.