تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بين  دعوى حرية التعبير ولعبة الاسلاموفوبيا

      التعليقات على تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بين  دعوى حرية التعبير ولعبة الاسلاموفوبيا مغلقة

 

بقلم : ا.د. سامر مؤيد عبد اللطيف

مركز الدراسات الاستراتيجية

جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون المحرضة على الاستمرار بنشر الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) تحت ذريعة حماية حرية التعبير في فرنسا على خلفية مقتل المدرس الفرنسي صموئيل على يد الطالب الشيشاني ، بمثابة الشرارة التي اشعلت نار الغضب في المجتمعات الاوربية والاسلامية على حد سواء رغم اختلاف الدافع بين الطرفين ؛ ففي الوقت الذي تدافع فيه المجتمعات الغربية ومنها الشعب الفرنسي وقيادته السياسية ،عن حرية التعبير عن الراي ، بوصفها مرتكز البناء الديمقراطي وصمام الامان في المجتمع الحر، بحسبان هذه الرسوم وغيرها احدى صور التعبير عن حرية الراي الذي يعد اهم المكاسب التي حققتها تلك  المجتمعات في رحلتها  التاريخية المضنية والدامية ضد قوى الظلام والاستبداد في دولها ؛ فان المجتمعات الاسلامية  قد وقفت بالضد من  ادراج هذه الصور المسيئة لنبيهم  ورمزهم الخالد وما تبعه من تصريحات للرئيس الفرنسي تحت بند حرية التعبير لما تحمله من اساءات ورسائل تحريضية تثير الضغينة وتؤجج الفتنة والكراهية ضد الاسلام والمسلمين .

وعلى الرغم من اتفاق هذه الشعوب الاسلامية ( في الغالب الاعم ) منها والغربية  على شجب اسلوب القتل والتصفية الجسدية كوسيلة لتسوية  الخلاف حول حدود التعبير عن الراي في هذه النقطة بالتحديد ( الصورة والتصريحات  المسيئة للاسلام ) ، فان الخلاف يبقى قائما في مجاله الاوسع فاتحا الابواب لتساؤلات وشكوك حول جذور واسباب المشكلة والاطراف التي تقف خلفها ان كانت تخضع لحسابات نظرية المؤامرة  ، والحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها الطرفان بخصوصها ، والوسائل الناجعة لتسويتها واجتثاث احتمالية تجددها في المستقبل  .

وكما هو شأن الظواهر الانسانية فان للحقيقة اكثر من وجه واكثر من سبب غير الاسباب المعلنة او الطافية على سطح الاحداث ، فما اثير اليوم من جانب الرئيس الفرنسي ماكرون من تصريحات وما اتخذ من اجراءات ضد الاسلام والمسلمين تضمنت طرد مئات الأجانب المقيمين هناك، وحل جمعية لمناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، ودهم أكثر من 50 جمعية ومنظمة إسلامية  لا يخرج عن دائرة محاولاته لصرف انتباه الراي العام الفرنسي  عن الاخفاقات التي منيت بها اصلاحات ماكرون التي وعد بها سائر فئات الشعب ابان حملته للترشيح الى منصب الرئيس ، وعن سياساته المحابية للاغنياء التي جرت عليه احتجاجات ذوي السترات الصفراء مضافا لها ما خلفته جائحة ( كوفيد 19) من مشاكل اقتصادية واجتماعية عجز هذا الرئيس عن عن احتواء اثارها ، وهي امور وفرت قاعد شعبية لايستهان بها لصعود  التيارات اليمينية بـقيادة زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني  ( مارين لوبان)، ورواج خطابهم المعادي للاسلام بين الاوساط الشعبية ليس في فرنسا فحسب بل في اوربا والعالم الغربي عموما  ، مستغلة طروحات نظرية (تعريب أوروبا ) التي بشَّرت بها (جزيل ليتمان ) قبل عقدين من الزمان، ولاقت رواجا بين الاوساط اليمينة اولا وتاليا الشعبية  ، فاراد ماكرون بهذا الموقف ركوب الموجة المناصرة للاسلامو فوبيا في سعيه لاستعادة التأييد الشعبي له تمهيدا لخوض الانتخابات الرئاسية في عام 2022 ، فكان تشخيص الباحثة سارة علوان، الباحثة القانونية في جامعة تولوز  هو الاقرب الى الدقة حينما اشارت الى “إن التعصُّب تجاه المسلمين أصبح علامة تجارية ناجحة في فرنسا، لأنه يساهم في تعزيز نسبة المشاهدة على شبكات الأخبار التي تعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ويُتيح فرصة تسليط مزيد من الأضواء على السياسيين. وحتى إن لم يكن اليمين المتطرف على هرم السلطة الآن في فرنسا، فإن أفكاره بالتأكيد تسري في أروقتها”([i]).

     من جانب اخر فان فقدان تأييد الجالية الاسلامية التي تشكل ما نسبته 5% من اجمالي الشعب الفرنسي ، لايمثل مشكلة لخطط ماكرون الانتخابية بحساب حدة الاستياء الشعبي الفرنسي من المشكلات التي تتهم بإثارتها هذه الجالية في ضواحي العاصمة باريس بعد فشل برنامجه الحكومي في معالجة اوضاعهم ودمجهم في المجتمع الفرنسي .

    وحتى مع مسايرة وتفحص الاسباب والحجج المعلنة من جانب الرئيس الفرنسي لهذا الموقف المتشنج في محاربة التطرف الاسلامي ، والارهاب الذي تقوم به بعض الحركات او الجماعات الاسلامية  المتشددة ، او في الانتصار لحرية الراي والدفاع عن مكتسبات الديمقراطية في فرنسا ، فان المنطق المنصف والحجج القانونية ستؤدي بنا الى دحض هذه المبررات . فمن ناحية المنطق نقول ان التطرف لايكافح بالتطرف وخطاب الكراهية هو ما يغذيه ويهيء اسبابه بدل ان يعالجها ، ثم ان هذا التطرف الذي يتغنى الغرب وماكرون بمحاربته ، كان في بعض مقوماته ، صنيعة الغرب نفسه ونتاج سياساته المباشرة وغير المباشرة ولنتذكر في هذا السياق ان سياسة عزل المسلمين في كانتونات ومناطق والتضييق عليهم وحرمانهم من فرصة الاندماج في المجتمعات الغربية والفرنسية خاصة كانت سببا مهما في انتاج جيل من المتطرفين ، والاهم من ذلك وقبله ان قيم الديمقراطية والحرية التي يدافع عنها ماكرون تدفع الى استزراع قيم التسامح والاعتدال والتعددية بين مكونات المجتمع  ، بدل الخطاب المتشنج المحرض  على الكراهية الذي هيمن على تصريحات ماكرون بخصوص الاسلام والمسلمين ، ولاننسى في هذا السياق متطلبات والتزامات منصب رئيس دولة فرنسا العلمانية الذي يملي عليه التزام الحياد حيال الاديان وعدم ابداء اي موقف لنصرة طائفة على اخرى بموجب المادة الثانية من الدستور الفرنسي .

    وما تقدم يفتح ابواب الجدل القانوني للحدود المسموح بها لحرية التعبير عن الراي في فرنسا والعالم الغربي وحتى العالم الاسلامي ، لامتحان صواب هذا الموقف ؛ فمن حيث المبدأ ان للحريات الفردية حدود وضوابط حتى في اكثر الدول حرصا عليها ، مثلما ان القاعدة السائدة في ضبط هذه الحدود تتمثل بمقولة ” ان حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الاخر” . وهذا ما اكدته

المادة (11) من إعلان حقوق الإنسان في فرنسا لسنة 1789م بالنص : «إنّ حرّية الإعراب عن الفكر والرأي أثمن حقوق الإنسان، ولكلّ مواطن الحقّ في حرّية الكلام والكتابة والنشر، على أن يكون مسؤولاً عن عمله في الحدود التي يعيّنها القانون». وهذا منسجم تماما مع ما  جاء في المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرّياته للقيود التي يعيّنها القانون»، والغرض من التقيّد بالقانون ضمان الاعتراف بحقوق الغير واحترام حرّياته وتحقيق ما يقتضيه النظام العام من شروط عادلة.

وقد كان العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اكثر دقة في تحديد بعض من هذه القيود على حرية التعبير عن الراي  في معرض المادة(19/3) منها ” أ- احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم. ب- لحماية الأمن القـومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”. ومقتضى النظام العام يشمل ما يحقق الامن  والسكينة ويحضى  بمقبولية عامة بين ابناء المجتمع . وعند هذا الحد تصنف اساءة مجلة ايبدو الفرنسية التي نشرت الصور المسيئة للنبي (ص) وما تلاها من تصريحات للرئيس الفرنسي  ضمن نطاق تأليب الراي العام واثارة الكراهية بين مكونات الشعب الواحد بما يزعزع الامن والاستقرار الذي يفرضه النظام العام المنصوص عليه في المادة اعلاه ، ناهيك عن كون القانون الفرنسي يمنع التحريض على الكراهية العنصرية أو الدينية.

وبالمثل تحدثت أيضا عشرات القوانين الدولية، ومنها المادة (20 ) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي نصت فقرتها الثانية على أن “تحظر بالقانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف”.
يضاف الى ذلك ويعضده ما ذهبت اليه المحكمة الاوربية  لحقوق الانسان  في قراراتها التي قيدت فيها حرية التعبير عن الراي بقيود ( الأمن القومي أو بالسلامة الإقليمية للدولة أو بالآمان العام ) ([ii])، ولا يعقل يتوافر الامان اذا ما تم استفزاز سائر المكونات ضمن المجتمع الواحد  مهما كانت الاسباب والذرائع ؛ فمصلحة المجتمع راجحة ومقدمة على المصالح الفردية ، والسلم المجتمعي ينبغي ان يقدم على السلم الفردي .

وعلى فرض التسليم بصواب الموقف الفرنسي من الرسومات والتصريحات المسيئة للاسلام ، فان المقابلة بالمثل وحرية الرد مكفولة للاطراف جميعا ، وبالمثل كذلك تضحى الادانة والشجب لهذه الاساءات مكفولة للمسلمين ايضا اسوة بالشعوب الغربية ولهم حق المقاطعة للمنتجات الفرنسية كنوع من التعبير عن الراي المناهض لهذه الاساءات ،  طالما ان لكل فعل رد فعل وعلى من يمارس الحرية ان يتحمل مسؤوليتها .

غير ان عودة الى المنطق السليم ومنابع الاسلام الصافية ستفتح في النفس مجالات وساعا لاحترام  حريات الاخرين والتفاعل الايجابي البناء معها طالما لم تؤد الى الاضرار بالاخرين وبالدين بوجه عام  اعمالا لقاعدة ( لاضرر ولاضرار ) ، فالقران الذي لم يكره غير المسلمين على الاعتقاد بدين معين بحسب نص (الاية 256 من سورة البقرة ).: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) لايمكن ان يكره الناس على تبني راي معين او موقف في امور اخف وطأة  ، لاسيما وان الله قد  ترك حرية الاختيار لكل انسان في اقدس الامور واعظمها وهي الايمان  وفقا للاية ( 29 من سورة الكهف) : ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)).  فيضحى ترك الخيار للاخرين في غيرها من الامور، واجب عن المسلمين .

بالمقابل نجد في كتاب الله وتعاليمه ما يرشدنا  الى الحدود الواضحة  للجدل مع غير المسلمين ومواجهة تجاوزاتهم ، حينما اورد في (الاية 140 من سورة النساء ) ما نصه (( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ)) والمستنبط من هذه الاية وجوب مفارقة من يخوض بحديث معاد للاسلام  لا قتله او التنكيل به ، بل ان الله قد اوجب على المسلمين عدم سب الكفار بسبب كفرهم او نصرة للدين ، حتى لايكون ذلك مبررا لتجاوزهم على الذات الالهية بحسب نص (الاية 108 من سورة الانعام ) ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون))

   وبكل الاحوال ، ان المعالجة المنصفة تبدا حينما تخلص النية وتتوافر العزيمة ، ويجتث داء الخلاف من مسبباته قبل ان تتفاقم نتائجه  ، عبر ايجاد تشريع لمنع الاساءة للاديان سبيلا لتجاوز امثال هذه الاستفزازات ، ثم ايجاد قنوات دائمة للحوار والفهم المشترك لاهم القضايا الخلافية ما بين الشرق والغرب . والله من وراء القصد .

 

 

 

 

[i])) كيف نقرأ اساءة ماكرون للاسلام ، مقال منشور على موقع الجزيرة بتاريخ 22/10/2020 على الرابط www.aljazeera.net

[ii])) قراءة في أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان – مركز كارنيغي للشرق الأوسط – مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.html