عن الفلسفة السياسية المعاصرة

      التعليقات على عن الفلسفة السياسية المعاصرة مغلقة

مرتضى جليل راضي

باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية

        لماذا لا تموت أو تضمحل أفكار فلاسفة السياسة شيئا فشيئا، مثل الكثير من الأفكار التي عفا عليها الزمن، وأتت أخرى لتحل محلها، ولم تعُد تدرس في الجامعات الغربية إلا على سبيل الترف الفكري، مثل جنسانية فرويد أو نظرية سميث؟

       ربما يكون الجواب، إنَّ هنالك ثمة آصرة شديدة الوشائج بين الفلسفة السياسية والعقيدة (Doctrine)، فعندما نذكر الفلسفة السياسية لمالكوم أكس (Malcolm X) او مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King Jr)، سرعان ما يتبادر إلى الأذهان المعتقد الذي يتمثل بلاهوت التحرير، وعلى هذا الاساس كانت وما زالت الفلسفة السياسية ذات أهمية جوهرية لأي عقيدة، والعكس صحيح، فالثانية من الأولى كالرأس من الجسد.

        وبحسب ما تقدم، فقد أصبحت ملامح الفلسفة السياسية واضحة، إلا إنَّ مسألة إيجاد تعريف معياري جامع مانع للفلسفة السياسية، تتطلب إيجاد تعريف له القوام ذاته للسياسة في بادئ الأمر، ومن هنا تعددت تعريفات الفلسفة السياسية، ومنها: استعمال المنهج العقلي حصرا في تحليل أخطر ظاهرة سياسية، متمثلة بالدولة. وهنالك من يعدّها دراسة الأسئلة الأساسية حول الدولة والحكومة والسياسة والسلطة، وهناك تعريف يصفها بدراسة النظريات الكامنة وراء السياسة. وتُعرّف موسوعة العلوم البريطانية (Britannica Encyclopedia) الفلسفة السياسية بوصفها: فرع الفلسفة الذي يهتم بالمفاهيم والحجج التي ينطوي عليها الرأي السياسي، بمستوى عالٍ من التجريد.

      وإذا دققنا النظر في الفترة الزمنية الممتدة منذُ أيام سقراط إلى وقتنا الحاضر، سنشاهد كمًا هائلًا من الاجابات عن الأسئلة الجوهرية التي تطرحها الفلسفة السياسية. وبالرغم من تعدد الاجابات التي تتمظهر بهيئة أفكار سياسية، مازال بالإمكان تقسيمها تحت طائلة النوعين الأساسيين: المتحرك والتبريري. وعلى الرغم من التعدد والتنوع والتفاوت في الآراء والايديولوجيات، كان هناك شعور قوي ومشترك بين الحلفاء الغربيين إبّان الحرب العالمية الثانية، بأنَّ الذي يقاتلون من أجله هو حرية الفرد، الأمر الذي يتمثل على صعيد الممارسة بالدفاع عن المؤسسات الليبرالية الديموقراطية، هذا الشعور كان قد شجع كارل بوبر (Karl Popper) على كتابة المجتمع المفتوح وأعدائه (The Open Society And Its Enemies 1945)، الذي يعد العمل الأكبر والأوحد في الفلسفة السياسية في فترة الحرب، ليرُد فيه على “صيحات النهاية“. ولقرابة عقدين بعد الحرب، كان هناك شبه إجماع في الديموقراطيات الغربية على موت الايديولوجيا ونهايتها، وكأن النقاش الفكري على المرتكزات قد انتهى واستحال عدمًا، وقد تردد شعار “موت الفلسفة السياسية” في انجلترا في الأروقة العلمية، وفي منتصف الستينيات من القرن العشرين، أخذت ردود الأفعال تتوالى من اليمين واليسار، فالمحافظون بدأوا يشعرون بوجود حرية زائدة للفرد، على سبيل المثال كان هناك انتشار للإباحية الجنسية، واستعمال للعقاقير المخدرة، وفَشل في خفض معدلات الجريمة ولاسيما الجرائم المتعلقة بالعنف، وهنالك جيل كامل من الشباب قد سُمِح لهم العيش في هذه الأجواء، من دون قيود أو ضوابط تقليدية أو حتى عقاب. وفي الوقت ذاته كانت الأنظمة الليبرالية الديموقراطية تتعرض لهجوم من قبل أقصى اليسار أو ما يعرف بجيل السماح لأسباب مختلفة جذريا، إذ كانت تلك الأنظمة تُتهم بعدم اهتمامها بمسألة إعادة توزيع الثروة، وعدم جديتها في إلغاء الفقر، وأما المجتمعات التي كانت تحكمها تلكم الأنظمة، كانت طبقية وعرقية وجنسية، والأسوأ من ذلك كله هو إدامتها لحرب فيتنام الوحشية. لأن زعيمة الغرب الداعي إلى حرية التعبير والخطاب وحق الدفاع عن النفس، قد سحقت تلك المفاهيم ومزقتها بسرف الدبابات في فيتنام، ومازالت صورة فتاة النابالم (Napalm Girl) تقبح وجه التأريخ.

وعلى إثر هذا التناقض (Paradox) الذي انتصب على خشبة المسرح أيام الحرب الفيتنامية، جاءت الفلسفة السياسية بأفكار جديدة، لتصوب الخطأ وتصحح مسار الليبرالية الديموقراطية، ومن تلك الأفكار ما جاء به جون رولز (John Rawls) من نظرية في العدالة 1971 والعدالة كأنصاف 1985 الكتابان اللذان يعدان بمنزلة الثيمات الأساسية للفلسفة الرولزية، ورولز هذا كان على رأس فلاسفة العدالة التوزيعية، (Distributive Justice) الاتجاه الفلسفي الذي انتُقد كثيرا بدعوى أنه حاول التوفيق بين المزايا الاقتصادية للرأسمالية والاشتراكية والتخلص من عيوبهما في آن واحد. عن طريق جعل الأفراد في الوضع الأصلي (Original position) يتفقون على خلق شخصية معنوية لمجتمع تعددي، يمكنها تحديد المصلحة العامة دون أن تتحيز لمصلحة فئة أو عرق أو دين، بضمانة حاجب الجهل (Veil Of Ignorance) الذي يكون فيه الأفراد جاهلين بمواقعهم من البنية الاجتماعية وحصصهم الاقتصادية، ومن الحري بالذكر، إنَّ العدالة عند رولز تتكون من مبدأين: الأول هو مبدأ الحريات الأساسية المتساوية التي تشمل حرية المعتقد (الدين)، حرية الخطاب وحرية التصويت. أمّا المبدأ الثاني فهو مبدأ الاختلاف الذي يقوم على قبول التفاوتات في السلع الاقتصادية والاجتماعية، شريطة أن تعزز رفاه أولئك الأقل حظا (Least Advantaged). ومن فلاسفة هذا الاتجاه الاقتصادي الهندي الشهير اماراتيا سن (Amartya Kumar Sen)، وهو مُهتم بمقاربة القدرة (Capability Approach) التي اتخذها كإطار نظري لتحقيق الرفاهية. وتصف مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum)، وهي من الفلاسفة المتأثرين بسن مقاربة القدرة، على أنها قائمة على كتلتين، الأولى تجعل من جودة الحياة المقارنة مرتكزًا لها، أما الكتلة الأخرى فتجعل من التنظير لفكرة العدالة محورًا لها، وكلا الكتلتين تلتزمان بخمسة مبادئ: معاملة كل فرد كغاية، والتركيز في الخيار والحرية بدل المنجزات، وتعددية القيم، والاهتمام المعمق بالظلم الاجتماعي الراسخ وإسناد مهام عاجلة للحكومة. وإذا ما تطرقنا إلى رولز وعدالته التوزيعية، لابد أن نتطرق للفيلسوف الذي نصب نفسه بالضد منه في بادئ الأمر، ألا وهو روبرت نوزيك (Robert Nozick)، حيث طفى التضاد بين الاثنين إلى السطح في العام 1975، عندما حصل كتاب نوزيك الذي أسماه: الفوضى، الدولة واليوتوبيا على جائزة الكتاب الوطني للفلسفة والدين، وإن أبرز أوجه الاختلاف بين الاثنين، تكمن في مسألة المعالجة الشرعية لإعادة التوزيع الحكومي للثروة، لأنَّ نوزيك يستعيض عن مبدأ الاختلاف لدى رولز بنظرية الاستحقاق (Theory Of Entitlement)، والتي بموجبها يتم تبرير الحيازات الفردية لمختلف السلع الاقتصادية والاجتماعية فقط إذا كانت متأتية من عمليات استحواذ أو تحويلات طوعية. والقضية تصبح أكثر جلاء إذا أدركنا أن الطرفين في هذا القسم الأساسي يعالجان الكيفية التي تحصل بها الفئة الأقل حظا على السلع الاقتصادية والاجتماعية، وإنَّ رفض نوزيك للضرائب القسرية يأتي من اتجاهه الليبرتاري (Libertarian)، فضلا عن اعتقاده بالحد الأدنى للدولة الحارس الليلي (Night Watchman)، التي يقتصر عملها على مراقبة العقد وحماية الحقوق الفردية والحرية والملكية، دون أن تتدخل في إعادة توزيع الدخل، أو حتى فرض ضرائب قسرية، ويذهب إلى أبعد من ذلك، إذ إنَّه يرى من الواجب عدم تدخل الدولة لحماية الناس من إيذاء أنفسهم أو تحقيقا لمصالحهم، فكل ذلك ليس من شأن الدولة. وإذا عرفنا أوجه الخلاف بين رولز ونوزك أصبح الآن بالإمكان رؤية أوجه التشابه بينهما في عدد من الأمور، إذ إنَّهما متفقان على المبدأ الأول للعدالة، والأمر الثاني يتمظهر باعتراف نوزيك بأن نظرية الاستحقاق غير كافية لدحض الحاجة إلى دولة إعادة التوزيع، لذا يوافق على مبدأ الاختلاف، وفي المحصلة قد تعرض الاثنين معا إلى الانتقاد، لاعتمادهما الأسلوب الكانطي لإنتاج نظريات مجردة، دون الالتفات إلى الواقع العملي للمجتمعات، ووفقا لهذا فإن مدى نجاح المجتمع منوط بمدى التزام قوانينه وإجراءاته بالنموذج المجرد، من دون النظر إلى النتائج المعنوية التي يمكن لتلك القوانين انتاجها، لأن معتقد هذين الفيلسوفين نابع من إيمانهم بالكانطية، وعليه “فلينتصر العدل، حتى لو هلك العالم به”.

ولم تنتهِ حكاية الفلسفة السياسية عند العدالة التوزيعية، بل تم التركيز في جدلية الدين والدولة، لأنَّ الدين بدأ يعود إلى المجتمعات العلمانية، ليس كمحتكر للسلطة بل كجزء من التعددية والتنوع (Pluralism and Diversity)، إذ يشير مارسيل غوشيه إلى أنَّ السلطة الدينية قد فقدت قوتها تدريجيا، بعد أن كانت تحيي وتميت وتغفر لمن تشاء بمحاكم التفتيش وصكوك الغفران، وتراجعت حتى قننها الفرنسيون سنة 1790 بقانون الأكليروز ليمسي المتدين مضطهدا. لكن عاد الدين بصفته ثقافة لجزء من المجتمع لا يطلب السلطة لكن يشارك في صياغتها واستحصال حصصه بموجب العدالة كإنصاف، وهذا هو ديدن العقلانية وفيلسوفها الكهل يورغن هابرماس، الذي يتوافق مع رولز في أمر جوهري، وهو أن الأشخاص عندما يدخلون العقد يبحثون عن المصالح العامة بمنظور شخصي، مخالفا لمن قال إن الأفراد يدخلون العقد الاجتماعي لاجتذاب مصالح خاصة. هذا جانب واحد من أفكار رائد الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، ومن الفائدة بمكان الالماع إلى فكرة أخرى بشكل مقتضب، وهي إن ما بعد العلمانية ستتحقق في مجتمع علماني في مرحلة سماتها البارزة حضور الدين، ليس كمعتقد يحتفظ به الأفراد لأنفسهم، بل ليكونوا فاعلين بموجب هذه العقيدة، والسبب ببساطة إن للناس معتقدات ومذاهب روحية دينية، مازالت تنتشر اجتماعيا ولا يمكن طمسها، لذا يقترح هابرماس أن يتم رفع الخرافات والغلو ونقد الدين من جهة، ومن جهة أخرى تشذيب العلمانية والتقليل من حدتها في التعامل مع كل ما هو ميتافيزيقي، لتكون الحوارات بين الأفراد من مختلف الاتجاهات في الساحة الاجتماعية حوارات عقلانية في الأروقة العلمية بعيدا عن “ان لم تكن معي فانت ضدي”، لأن الدين من دون عقلانية سيتطرف حتى الارهاب، والامثلة كثيرة من الحركات الجهادية  والتطرف البوذي والهندوسي وحتى الصهيونية والمسيحية المتطرفة المتمثلة في (KKK)، والأمر ذاته ينطبق على العلماني إذا ما تركت دون تقويم، والأمر واضح في المثال الهتلري والستاليني.

وهذه ليست النهاية في مسار حركة الفلسفة السياسية، فببساطة هنالك دائما سؤال بعد حلحلة كل إشكال، فما هو المستقبل بعد “ما بعد العلمانية”، وماذا بشأن الأقلية السوداء المضطهدة في أكثر المجتمعات علمانية، وماذا لو التهم الفضاء العاموحش هوبز، والكثير الكثير من الإشكاليات.

هكذا نفهم أن فلاسفة السياسة باقين ببقاء المجتمعات الإنسانية، باقين بأسئلتهم “الوجودية” عن السياسة والسلطة والحرية والعدالة، هم ثُلة من الغابرين وقليل من الحاضرين اللذين قد جروا طُلقا في حلبة الكبر. فنصاب بالدهشة عندما نرى أن آرنولد تونبي في “التحدي والاستجابة” في خمسينيات القرن الماضِي، كأنه يتكلم عن كل العصور البشرية. ببساطة لأن حب الحكمة باقِ لا يموت.