أثر الفتوى الشرعية في قضاء الأحوال الشخصية

      التعليقات على أثر الفتوى الشرعية في قضاء الأحوال الشخصية مغلقة

 

 

م.د. زيد هلال هنون

رئيس قسم الدراسات القانونية

جامعة كربلاء

كانون الأول/ 2023

      يوضع القانون أيًا كان موضوعه، لضبط سلوك الأفراد، وتنظيم علاقاتهم في ما بينهم، غير أنَّه مهما بذلت الجهود والنقاشات في سبيل كمال التشريع، فإنَّه لا يمكن أن يغطّي الجزئيات والقضايا والوقائع المستحدثة، لأنَّ الواقع متحرك يأبى الثبات، وحاجات الناس متعددة ومتطورة حسب تطور الحياة، ومراجعة متواضعة لأحكام قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم ١٨٨ لسنة ١٩٥٩ وتطبيقاته في المحاكم، سنجد جلياً أنَّ المشرع تنبأ منذ البداية إلى ما ذكرناه آنفًا، لذلك وضع آلية واضحة لكيفية استنباط الحكم القضائي عند غياب النص التشريعي، تتمثل في ايجاد مصادر احتياطية واسترشادية لفهم النص التشريعي وتفسيره، والوصول إلى الحكم.

ومن المصادر الاحتياطية التي ذكرت في المادة الأولى من القانون، مبادئ الشريعة الأكثر ملاءمة لنصوص القانون، كما تسترشد المحاكم فضلا عن ذلك بأحكام الفقه الإسلامي.

لذلك اعتادت محاكم الأحوال الشخصية في العراق، استفتاء مكتب المرجعية الدينية لأطراف الدعوى، كلًا حسب مذهبه الفقهي، حول المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص قانوني واضح، لاسيما أنَّ للمرجعية الدينية في العراق الجديد دورًا في كتابة الدستور الدائم لعام ٢٠٠٥، وذُكر ذلك صراحة في ديباجة الدستور “عرفانًا منا بحق الله علينا، وتلبية لنداء وطننا ومواطنينا، واستجابة لدعوة قياداتنا الدينية وقوانا الوطنية وإصرار مراجعنا العظام“.

لذلك فليس غريباً أن نرى محاكم الأحوال الشخصية توّجه كتابًا رسميًا إلى مكتب المرجعية الدينية، للاستفتاء عن مسألة فقهية ذات أثر في وقائع الدعوى وأدلتها، فمثلا قررت محكمة الأحوال الشخصية في الكفل، بموجب كتابها المرقم /٧٨٤/ش/ ٢٠٢٢ بتاريخ ٧/ ١٢ / ٢٠٢٢، توجيه كتاب إلى مكتب سماحة المرجع الديني السيد علي الحسيني السيستاني) (دام ظله) بعنوان (استفتاء)، جاء فيه:

 

وصدر قرار المحكمة مستندًا إليه، إذ ذهبت المحكمة إلى أنَّ:

“محكمة التمييز في العديد من قراراتها الحديثة، وجهت المحاكم بموجب أحكامها وقراراتها، بالرجوع لأحكام المذهب والمرجع، للوقوف على الحكم الشرعي، ولقرار هذه المحكمة بمفاتحة مكتب سماحة السيد علي السيستاني، للوقوف على الحكم الشرعي فيما يتعلق بالطلاق، سيما أنّه تعذر تدوين أقوال الزوج والشاهدين ورجل الدين، فضلا عن حكم الزواج الثاني للمدعية بعد الطلاق، ولورود فتوى مكتب سماحة السيد علي السيستاني بالتسلسل ١٥٦ في ٢٦/ جمادى الأولى ١٤٤٤هـ، والذي جاء فيها بأنَّه: …. يحكم بصحة وقوع الطلاق في التاريخ المذكور لهما شرعاً، وبصحة زواجها الثاني والله العالم (…)، عليه ومن كل ما تقدم تجد المحكمة أنَّ المدعية اقامت دعواها لتصديق زواجها من المدعى عليه، واثبات نسب ولدهم كاظم، وكذلك تصديق الطلاق الخلعي الواقع بينهما، فقد ثبت للمحكمة عن طريق الاستماع لأقوال البيئة الشخصية صحة الزواج، وكذلك نسب المدعو كاظم لهما من فراش الزوجية، كذلك ثبت للمحكمة صحة وقوع الطلاق الواقع بينهما بتاريخ ٢٠٠٤/٤/٢٧، وعلى وفق ما جاء بفتوى مكتب السيد علي السيستاني المؤرخة في ٢٦/ جمادى الاولى/ ١٤٤٤هـ، والتي أشارت إلى صحة وقوع الطلاق ووفق المعطيات أعلاه، ومن كل ما تقدم نكون أمام مسألتَين: المسالة الأولى تتعلق بالمادة ٢/٣٤ من قانون الاحوال الشخصية رقم ۱۸۸ لسنة ۱۹۵۹ المعدل، والتي أشارت بأنَّه لا يعتد بالوكالة في اجراءات البحث الاجتماعي والتحكيم وفي ايقاع الطلاق، وحيث إنَّ الطلاق الواقع في ٢٠٠٤/٤/٢٧ هو طلاق خلعي، وكان بحضور الزوج، وكذلك وكيل عن الزوجة عمها، والذي قام بالبذل عنها، وإنَّ ما استقر عليه قضاء محكمة التمييز الاتحادية في العديد من قراراتها، بأنَّه لا يجوز الطلاق بالوكالة، واستناداً للمادة ٢/٣٤ من قانون الأحوال الشخصية، وإنَّ حضور عم الزوجة كوكيل عنها، لا يغني عن حضورها في مجلس الطلاق الخلعي، الذي يتطلب حضور الطرفين إلى مجلس العقد شخصيًا، وتلفظهما بصيغة الطلاق، وانصراف ارادتهما لإيقاعه، ومنها القرار التمييزي المرقم (۱۱۵۰۲/ هيئة الأحوال الشخصية والمواد الشخصية/ ۲۰۲۲) في ۲۰۲۲/۸/۲۲ وهو ما ينطبق حرفياً على وقائع هذه الدعوى، التي لم تكن الزوجة حاضرة في مجلس الطلاق، ووقع البذل من قبل عمها، وحسب ما بينته المدعية في أقوالها المدونة أمام هذه المحكمة. أمّا المسألة الثانية فهو ما ورد في المادة ۲/۱ من قانون الأحوال الشخصية، التي أجازت الرجوع إلى مبادئ الشرعية الاسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون، وبالرجوع إلى ما جاء بفتوى المرجع الديني الأعلى سماحة السيد علي السيستاني، بالتسلسل ١٥٦ في ٢٦/ جمادى الأولى ١٤٤٤هـ، والذي جاء فيها بأنّه: …. يحكم بصحة وقوع الطلاق في التاريخ المذكور لهما شرعاً، وبصحة زواجها الثاني والله العالم (…) والتي بموجها وحسب المعطيات، بينت من الناحية الشرعية يعدّ الطلاق صحيحًا، وواقع شرعاً مراعاة كون الزوجة قد تزوجت بعد وقوع الطلاق من رجل آخر، ولديها منه أربعة أطفال، وحيث إنَّ طرفي الدعوى هم من معتنقي المذهب الجعفري ومن مقلدي السيد علي السيستاني، وقد صادقت محكمة التمييز عليه بموجب قرارها ٢٢٤٥  في ٥/ ٢/ ٢٠٢٣. إلى غير ذلك من الأحكام القضائية الصادرة في هذه المسائل، مما يدل على أنَّ الفتوى الدينية أضحت رأيًا لخبراء الفقه الاسلامي تصلح أن تكون دليلًا للحكم القضائي، شأنها شأن تقارير الخبراء وآرائهم في المجالات كافة، وهذا يتلاءم مع منطق العلم والاختصاص وهذه غاية المشرع. ايضا حينما فرض في المادة (92) من الدستور في تشكيلة المحكمة الاتحادية العليا، بأن تتكون من عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة بقانون، اذن أضحى الفقه الاسلامي علمًا ضروريًا للحياة، وذا تأثير في العمل الحكومي والقضائي، وهذا يدعونا إلى دراسته بشكل جدي أكثر من أي وقت مضى، وعقد المزيد من الندوات وورش العمل والدراسات في استجلاء مضامينه وتفاصيله.