الكاتب: د. سرحات سها كوبكجو غلو
الناشر: تريندز للبحوث والاستشارات
تاريخ النشر: 13/ آذار/ مارس 2024
ترجمة: د. نصر محمد علي
https://trendsresearch.org/insight/the-iraq-turkey-development-road-project/
أدى تحول التوازنات الاقتصادية، منذ الأزمة المالية في عام 2008، إلى انتقال القوة من المحيط الأطلسي إلى منطقة آسيا -المحيط الهادئ، وتطور النظام العالمي الأحادي القطب، الذي تقوده الولايات المتحدة، و”النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد”، إلى التعددية القطبية. وقد أدى صعود الصين ومكانتها، منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بوصفها أكبر اقتصاد في العالم، من حيث تعادل القوة الشرائية، وجهود روسيا للظهور مرة أخرى، بوصفها قوةً كبرى، والدور المحوري للهند في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، إلى تغيير كل من التوازنات التجارية، والطرق على السواء. لقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية، على وجه الخصوص، تثبيت نوع من الستار الحديدي فوق القارة الأوراسية، كما أدى الخطر المحتمل المتمثل، في امتداد الصراع بين الكيان الصهيوني وغزة، إلى المنطقة الأوسع، مما يؤثر في التوازن في مثلث البحر الأحمر، وعدن، والخليج العربي، إلى تعطيل التجارة البحرية العالمية. فقد كان هناك انخفاض بنسبة (60%) في حركة السفن، بعد مسارات مضيق باب المندب وقناة السويس، ابتداءً من شباط/ فبراير 2024. وبسبب هذا الوضع الحرج في البحر، لم يقتصر الأمر على زيادة وقت سفر السفينة، على سبيل المثال، من ميناء شانغهاي في الصين، إلى ميناء روتردام في هولندا، بمقدار (10) إلى (14) يومًا فحسب، بل ارتفعت أسعار النقل، والشحن، والتأمين أيضا. ويؤكد هذا الوضع كذلك، على أهمية الطرق البديلة، والبلدان الواقعة في مناطق حرجة جغرافياً.
إنَّ أول ما يتبادر إلى ذهننا، عندما نتحدث عن الطرق البديلة، هو “مبادرة الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين في عام 2013. فقد استثمرت الصين في هذا المشروع، الذي سيُحدث نقلة نوعية، والذي يهدف أيضاً إلى إحياء طريق الحرير القديم، والطرق البحرية، تريليون دولار في (150) بلدًا حتى الآن. وتحظى آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، بنصيب الأسد من صادرات الصين من السلع الأساسية. وتركز معظم الاستثمارات الصينية في قطاعات الطاقة، والنقل، والاتصالات. لكن، بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت مشاريع بديلة أو مكملة لمبادرة الحزام والطريق، في الظهور بعد إغلاق “الممر الشمالي”، الذي كان من المقرر أن يصل إلى أوروبا، عبر آسيا الوسطى، وروسيا. وعلى الرغم من أنَّ المتمردين الحوثيين المتموضعين في اليمن، يمنحون حرية المرور للسفن التي ترفع العلم الصيني/المملوكة للصين، على طول طريق البحر الأحمر، فإنَّ تحول حركة ناقلات السفن نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، يثير صعوبات في العثور على السفن المتجهة إلى أوروبا. في حين أنَّ أسعار الحاويات مقبولة نسبيًا (تتراوح من 1500 دولار إلى 4000 دولار)، مقارنة بمستوى (14000) دولار الذي شوهد خلال جائحة كوفيد-19 2020-21، فقد وصل تصور المخاطر الجيوسياسية إلى أعلى مستوى له، على مدار الأربعين عامًا الماضية، ويؤثر سلبًا في المزاج العام في السوق. إلى جانب الزيادة في أقساط التأمين، وأقساط مخاطر الائتمان، فإنَّ انخفاض مستويات المخزون، وأسباب مثل نظام التسليم في الوقت المناسب اللازم لتحقيق الكفاءة اللوجستية، وقصر المهل الزمنية للطلبات، تتسبب أيضاً في حدوث اضطرابات في الإنتاج الصناعي في أوروبا؛ وهذا ينعكس حتماً على معدلات التضخم والنمو. وبإزاء ذلك، كان هناك تباين إيجابي في صادرات تركيا، في الأشهر الخمسة الماضية. وتؤدي دول مثل باكستان وتركيا، على “الممر الأوسط” لمبادرة الحزام والطريق على وجه الخصوص، دورًا حاسمًا بوصفه بديلاً “للممر الشمالي”.
اقترحت روسيا وإيران والهند، بديلاً للطريق بين الشرق والغرب، إنشاء “الممر بين الشمال والجنوب”، بوصفه وسيلة للتحايل على العقوبات الاقتصادية الغربية. وقد أدى الانخفاض الكبير في تجارة روسيا مع الغرب، إلى رفع العلاقات الاقتصادية بين موسكو وطهران، إلى مستوى أعلى. ومن الحقائق المعروفة جيداً، أنَّ نيودلهي كانت لها منذ مدة طويلة، علاقات اقتصادية وعسكرية مكثفة مع موسكو. وعلى الرغم من الإشارة إلى العلاقة بين روسيا والصين، على أنَّها “شراكة بلا حدود”، إلا أنَّ ثمّة حقيقة أخرى مفادها، أنَّ الصين تهيمن على هذا التوازن. وبالمثل، على الرغم من أنَّ العلاقات بين تركيا وروسيا، اكتسبت زخمًا كبيرًا بعد الحرب الأوكرانية، فإنَّ عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، وسياستها القائمة على التوازن والتحوط بين الولايات المتحدة وروسيا، تحول دون اكتساب علاقاتها مع موسكو بعدًا استراتيجيًا. وفي هذا السياق، تخطط روسيا، التي تعد إيران الشريك الوحيد في الوصول إلى البحار الجنوبية، لتصدير بضائعها إلى الشركاء التجاريين، عبر طريق بحر قزوين- الخليج العربي، باستخدام الطرق البحرية، والسكك الحديدية، والطرق السريعة؛ إلا أنَّ هذا الممر لم يكتمل بعد. فضلا عن هذا الطريق، وبوصفه منافسًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية، ينبغي للمرء أيضاً أن يأخذ في الحسبان، “ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، الذي اتفقت عليه الولايات المتحدة والهند، في قمة مجموعة العشرين الأخيرة في أيلول/ سبتمبر 2023، والذي يعد جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء الصين. ومع ذلك، فإنَّ هذا الطريق، الذي يركز في الهند، يتضمن عمليات نقل متعددة الوسائط (برياً وبحرياً)، تمر عبر العديد من البلدان، ويتطلب عمليات نقل شحن متعددة عدة مرات، الأمر الذي يجعله استثمارًا مكلفًا ومحفوفًا بالمخاطر.
وأخيرا، ينبغي الإشارة إلى مشروع “طريق التنمية بين العراق وتركيا وأوروبا” بوصفه بديلاً، والذي تمت الإشارة إليه مرارًا وتكرارًا في الأشهر الأخيرة. ويعد “مشروع طريق التنمية” مبادرة مهمة، تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية، والبنية التحتية بين البلدين. ومن المعروف أنَّ أنقرة تسعى جاهدة إلى تطبيع علاقاتها مع دول الجوار، منذ عام 2021 لأسباب مختلفة، مثل: الجهود المبذولة لتحديث اقتصادها، والحاجة إلى الاستثمار في التقنيات الجديدة، وتثقيف الشباب، واستبدال المقامرة الجيوسياسية بسياسات عقلانية. وفي هذا السياق، فإنَّ الغرض الرئيس من المشروع، هو تعزيز التنمية الإقليمية، عبر زيادة التجارة، وحركة عوامل الانتاج. ويهدف المشروع إلى المساهمة في الاستقرار الإقليمي، عن طريق تعزيز التنمية الاقتصادية في المناطق الحدودية بين العراق وتركيا، فضلاً عن تقديم فرص التعاون في القطاعات المختلفة، مثل: الطاقة، والتجارة، والسياحة، والخدمات اللوجستية.
يعد الممر، بدءًا من ميناء الفاو الكبير بجنوب العراق، والذي من المقرر أن يصبح أكبر ميناء في الشرق الأوسط، عند اكتمال المرحلة الأولى في عام 2025، مشروعاً ضخماً بقيمة (17) مليار دولار، مع وصلة برية وسكك حديدية بطول (1200) كيلومتر، يربط الخليج العربي بأوروبا عبر تركيا، مما يقصر طريق البحر الأحمر. تم الكشف عن المشروع في اجتماع دولي عقد في بغداد العام الماضي، ويجذب اهتمام الصين بوصفه مستثمراً، وهو ذو طبيعة مكملة لهذه الممرات كافة، بما في ذلك “الممر الأوسط”. ويمكن عدّ “مشروع طريق التنمية” خطوة استراتيجية لتركيا، لتنويع شراكاتها الاقتصادية، وتعزيز العلاقات الإقليمية القوية. ومع ذلك، هناك حاجة إلى إرادة سياسية حازمة، وتعاون لتنفيذ المشروع. وسيعتمد نجاح المشروع على مدى فعالية أصحاب المصلحة، في التغلب على القضايا المعقدة، مثل: التمويل، والمخاوف الأمنية، وعدم الاستقرار السياسي، وأوجه القصور التي تعتري البنية التحتية، والحواجز السياسية.
يمكن أن يمثل المشروع عند اكتماله في عام 2028، إذا تقارب مع “الممر الأوسط” عبر بحر قزوين إلى تركيا، أحد الأمثلة الأكثر جدوى لربط الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، وأوروبا على طريق واحد. إن تسهيل تجارة السلع، وحركة الأشخاص اقتصاديًا وأمنيًا وعلى نحو سريع، سيؤثر تأثيرًا إيجابيًا في التنمية طويلة المدى في المنطقة. وأهم شرط مسبق لتحقيق ذلك هو الاستقرار السياسي. لجمع دول المنطقة حول هدف مشترك، وتوليد التمويل، وإكمال المشاريع، والأعمال الهندسية بشكل جماعي، وتوفير الضمانات الأمنية، يشكل الخطوتين الثانية والثالثة على التوالي. وكما يقول المثل: “عندما توجد الإرادة، تتوفر الوسيلة”.