البعد السياسي لمفهوم حرية الارادة الانسانية عند المعتزلة

      التعليقات على البعد السياسي لمفهوم حرية الارادة الانسانية عند المعتزلة مغلقة

أ . م . حيدر خضير مراد
مركز الدراسات الاستراتيجية
قسم الدراسات السياسية
شباط 2012 م
لا يمكن أغفال أهمية العامل السياسي في نشوء الفرق والمذاهب الاسلامية ، ومنها فرقة المعتزلة ، فقد لعبت الظروف والمشكلات السياسية التي عاشها المسلمون منذ مصرع الخليفة عثمان بن عفان دوراً كبيراً في تكوين الفرق الدينية والسياسية في تاريخ الاسلام ومنها فرقة المعتزلة التي ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي ، وكان لها دور كبير في تطوير الفكر الاسلامي ، والانفتاح على فكر الأخر وبالذات الفكر اليوناني ، واستخدامه في نقاشاتهم ومحاججاتهم وتمتين فكرهم ، وكان لهم الفضل الأكبر في الجمع بين الدين والفلسفة(1) واذا كانت فرقة المعتزلة تبدو في ظاهرها فرقة دينية عقائدية تدافع عن الدين الإسلامي بالحجج العقلية ، إلا أنها في جوهرها ذات طابع سياسي (2) ، بحيث يمكن القول عن الفكر الاعتزالي بأنه ازدواجي بين ما هو سياسي وعقائدي ، على عكس ما هو شائع بأنه عقائدي محض(3) .
ومن الأفكار المهمة التي نادت بها المعتزلة فكرة حرية الارادة الانسانية والتي تبدو في ظاهرها أحد الافكار الكلامية – العقائدية لكنها في باطنها ذات بعد سياسي عميق ، وترتبط هذه الفكرة بمبدأ العدل الالهي الذي هو أحد الأصول الخمسة الاساسية لمذهب الاعتزال (4) ، فلو كان الله غير عادل لصح مذهب الجبر ، إذ يثيب من لا يد له في حسن ويعاقب من لا قدرة له على معصية ، أما : والله تعالى عادل فإنه لا يثيب ولا يعاقب الا على الأفعال التي قام بها الانسان حّراً ، مختاراً، مستطيعاً (5) ، وقد رأى المعتزلة ان الحكام الجائرين استغلوا مبدأ الجبر استغلالاً خبيثاً ، وكانوا يظلمون ويسفكون الدماء بوحي من هذه الفكرة التي وجدت عند العامة والبسطاء قبولاً واستجابة (6) ، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من قال بالجبر وأظهره ، ليوهم الناس ان حكمه قدر محتم من الله ، وارادة الله تعالى هي التي قضت بأن يكون خليفة المسلمين ، وعلى هذا الاساس ، فمن نازعه في الحكم ، فهو غير راض بحكم الله وهو آثم ظالم يعاقب في الدنيا والاخرة ، وهنا تبرز العلاقة واضحة بين الجبر والاستبداد (7) ، فقد اشاع معاوية هذا اللون من الفكر حتى يدعم سلطته وسلطانه ، ويوهم الناس ان انتقال الخلافة اليه والى أهل بيته إنما هو قدر الله وقضاؤه الذي يجب التسليم به والرضى عنه ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية “وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان الدمشقي (8) ” (9) .
وقد وقف المعتزلة من خلال فكرة حرية الارادة الانسانية موقفاً مناوئاً من فكرة الجبر التي تبنتها السلطة الأموية ونادت بها لتدعيم نفوذها وتوطيد سلطانها ، حيث يقول الشهرستاني عن المعتزلة :
” واتفقوا على ان العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الاخرة ، والرب تعالى منزه عن ان يضاف إليه شر وظلم وفعل ما هو كفر ومعصية ، لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً واتفقوا على ان الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح و الخير ” (10) ، وهكذا أجمعت المعتزلة على ان العباد خالقون لأفعالهم مخترعون لها ، وأن الله تعالى ليس له في أفعال العباد المكتسبة صنع ولا تقدير ، لا بإيجاد ولا بنفي ، وبذلك أكدت المعتزلة حرية الانسان وأهمية العمل بالفرائض وضرورة اجتناب المحرمات (11) .
والبعد السياسي في هذه النقطة يكمن في ان المعتزلة بهذه المقولة ترفض أفعال ائمة الجور والظلم ، وان ما يفعله اولئك ليس مقدراً سلفاً من الله على الانسان ، وإنما ذلك من افعالهم وبمحض اختيارهم وارادتهم .
ان امتداد مفهوم العدل الالهي الى مفهوم العدل البشري لم يكن إلا لتحديد المسئولية عن الظلم ، وتنزيه الله عن الظلم ، لم يكن يعني سوى اسناد هذا الظلم للبشر ، وأن هذه الرؤية حين تنسحب الى دائرة السلطة السياسية تعني مسئولية الحاكم عن مظالمه (12) ، وهذا الفهم الاعتزالي يؤكد الطبيعة السياسية لأصل العدل المرتبط بفكرة حرية الارادة الانسانية المناقضة لفكرة الجبر التي نادت بها السلطة السياسية الأموية واتخذتها اساساً لشرعيتها خلال تلك الفترة من التاريخ الإسلامي .
وبذلك يتبين ان المعتزلة كانوا أصحاب فكر حر مستقل الى مدى بعيد ، ورؤية سياسية عميقة تعبر عنها افكارهم الكلامية ، فهم رواد النظر العقلي في الاسلام ، ونحن اليوم وفي عصرنا الراهن بحاجة ماسة الى عقلانية المعتزلة وافكارهم المستنيرة التي تعطي للعقل أهمية كبيرة وتدعوا الى احترام حرية الفكر وتبني رؤية موضوعية عقلانية تجاه الدين ، والتوفيق بين العقل والشرع ، من أجل معالجة مشاكل واقعنا الإسلامي الراهن ، ومحاربة الفكر الإرهابي المتطرف ومواجهة الغزو الثقافي الغربي .
الهوامش :
(1) مراد ، حيدر خضير ، مدرسة المعتزلة ودورها في الدفاع عن العقيدة الإسلامية خلال العصر العباسي ، مجلة جامعة كربلاء العلمية ، مج 12 ، العدد الأول / انساني ، (جامعة كربلاء ، 2014م ) ، ص114 .
(2) خوني ، فاطمة ، الفكر السياسي عن القاضي عبد الجبار المعتزلي ، ، رسالة ماجستير غير منشورة ، (الجزائر : جامعة محمد بوضياف بالمسيلة ، 2017م ) ، ص ب .
(3) المرجع نفسه ، ص ج .
(4) وهذه الأصول هي التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ينظر : الخياط ، عبد الرحيم بن محمد ( ت بعد 300هـ/ 912م ) ، الانتصار و الرد على ابن الروندي الملحد ، تح : نيبرج ، ط 2 ( بيروت : مطبعة أوراق شرقية ، 1413 هـ / 1993 م ) ، ص126- 127 .
(5) خليفان ، سحبان ، فلسفة الحرية في كتابات الشيخ المفيد ، مجلة رسالة التقريب ، العدد 37 ، (قم : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ، د . ت ) ، ص8 .
(6) محسن ، نجاح ، الفكر السياسي عند المعتزلة ، ( القاهرة : دار المعارف ، د . ت ) ، ص53 .
(7) ينظر : القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (415 هـ / 1024 م )، المغني في أبواب التوحيد والعدل ، تح : محمود محمد قاسم ، مراجعة : ابراهيم مدكور ، ( القاهرة : مطبعة دار الكتب ، 1382 هـ / 1962م) ، ج 8 ، ص 4 ؛ الشوايثي ، سليمان ، واصل بن عطاء وآراؤه الكلامية ، ( ليبيا : الدار العربية للكتاب ، 1993م) ، ص167 – 168 .
(8) وهو من رؤساء القدرية وهي فرقة سبقت المعتزلة زعموا ان الله تعالى لم يقدر أفعال العباد ولم يكتبها . ينظر : جارالله ، زهدي حسن ، المعتزلة ، ( القاهرة : مطبعة مصر ، 1366 هـ / 1947 م ) ، ص6-7 .
(9) محسن ، الفكر السياسي عند المعتزلة ، ص54 .
(10) الشهرستاني ، محمد بن عبد الكريم (ت 548 هـ / 1153 م ) ، الملل والنحل ، تح : أحمد حجازي ومحمد رضوان ، ( المنصورة : مكتبة الأيمان ، 1427 هـ / 2006 م ) ، ج 1 ، ص43 .
(11) جارالله ، المعتزلة ، ص92 ؛ حسن ، سهيلة مزبان ،الحركة الفكرية في العراق ( 132 – 247 هـ / 749 – 861 م ) ، أطروحة دكتوراه غير منشورة ، ( بغداد : مكتبة كلية الآداب ، 1412 هـ / 1992م)، ص308 .
(12) محسن ، الفكر السياسي عند المعتزلة ، ص55 .