إشكالية بناء الدوَّل الضعيفة: قراءة في النموذج العراقي

      التعليقات على إشكالية بناء الدوَّل الضعيفة: قراءة في النموذج العراقي مغلقة

 

ميثاق مناحي العيسى

حزيران/ يونيو 2021

يعد مفهوم بناء الدولة من المفاهيم التقليدية والحديثة، فهو قديم حينما نشير به إلى حقبة الاستعمار، أي مرحلة ما بعد الحربين العالميتين وحتى نهاية الحرب الباردة، المفهوم الذي تزامن مع موجة استقلال الدول من الاستعمار الغربي، إذ يراد به التحرر من هيمنة الاستعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن تحقيق التنمية السياسية، سواء بتنمية الفرد أو المؤسسات الهادفة لذلك، وتحقيق الأمن وصياغة الدساتير. أما المفهوم الحديث لعملية بناء الدولة، فقد شاع بعد الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، وسيادة الفلسفة الليبرالية والعولمة، إذ ارتبط بالتركيز على عملية بناء الدول الضعيفة؛ لكونها أصبحت تمَّثل مركز التهديد للاستقرار والأمن الدولي والعالمي، وأخذ المفهوم الحديث يشير إلى القضايا الأساسية التي انبنت عليها الدولة القومية الحديثة والفلسفة الليبرالية، كالتنمية وحقوق الإنسان والديمقراطية وتمكين النساء والشفافية والمشاركة السياسية والإصلاح الاقتصادي… وغيرها من المفاهيم المعاصرة.

إن التغيير السياسي الذي حصل في العراق عام 2003، ربما نستطيع أن نقول فيه، بأنه نقل الدولة العراقية من المفهوم القديم إلى المفهوم الحديث، على الرغم من السلبيات والتداعيات الكبيرة التي ترتبَّت على عملية الانتقال، أو على النموذج العراقي الجديد، سواء تلك التي ارتبطت بنشأة الديمقراطية والتحديات الإرهابية أو تلك التي ترتبط بالتحديات الداخلية وسلوكيات الأحزاب والقوى السياسية العراقية وتنامي الجماعات المسلحة. وفي ضوء ذلك، سنحاول أن نبين إشكالية بناء الدولة في النموذج العراقي من خلال المتطلبات الأساسية لعملية بناء الدولة في نظرية العالم الأمريكي والت ويتمان روستو(*):

أولاً: الهوية، وهي ضرورية للأمة، إذ تعتبر اساس وجود الدولة ومحركها ورمزها، فهي بمثابة الانتماء القومي للدولة، التي تتجاوز الولاءات الفرعية، لتكون الدولة الهوية القومية لكل أفرادها، وتشير الهوية بشكل دقيق إلى مفهوم المواطنة في المجتمع، وأن غياب هوية الدولة، يعني بروز الهويات أو الولاءات الفرعية (الطائفة، العرق، القومية، الدين، اللغة، القبيلة والعشيرة). وأن ضعف الدولة في الحفاظ على هويتها، سيزيد من حالة التقلبات السياسية وعدم الاستقرار، كما ان الحفاظ على هوية الدولة، يقترن بعملية بناء الأمة، وهي عملية دعم التكامل القومي/الوطني بأنشاء مؤسسات قومية/وطنية مشتركة ورموز للوحدة. وهي بحسب ألموند: “تلك العملية التي ينقل بها الأفراد ولائهم وارتباطهم من الجهات المحلية ليصبح هذا الولاء نحو السلطة المركزية المتمثلة في النظام السياسي”. فالتحديث السياسي بالنسبة لروستو يرتبط بمصطلح القومية وأهم جوانب التحديث في رأيه هو تطور الشعور القومي وظهور الدولة القومية؛ لأن التحديث السياسي يتضمن التغيرات التي تحدث في القيم والاتجاهات والنظم والبناءات بهدف إيجاد نظام سياسي متكامل وبناء دولة المؤسسات. في ضوء ذلك، نلاحظ بأن التجربة العراقية بعد عام 2003 تعثرت في الحفاظ على الهوية العامة للدولة (داخلياً وخارجياً)، فالنموذج الجديد أصبح يتعامل مع المجتمع والدولة بلغة المكونات الفرعية (القومية، العرقية، الدينية، المذهبية، فضلاً عن الحزبية). )، وقد امتد هذا التعًّثر إلى العالم الخارجي (الدولي والأممي). فنجد على سبيل المثال العلاقة بين المركز والإقليم، علاقة مشوهة غير خاضعة إلى قواعد أو قوانين أو دستور، واتساع الهوة والتفاوت الطبقي بين المجتمع العراقي، فضلاً عن التباينات العرقية والأثنية، والنفور من الإرث الثقافي للدولة العراقية؛ مما ادى إلى ضعف المفهوم القومي/الوطني للدولة.

ثانياً: السلطة، وهي ضرورية للدولة، إن طبيعة السلطة في العراق ما بعد 2003 كانت وما تزال أحد الإشكاليات في عملية بناء الدولة، فمن بين الأمور التي جرى تأشيرها على السلطة السياسية في العراق ومن قبل كافة المشتركين بها منذ التغيير وحتى الآن، هو عدم الحرص في “الالتزام المطلق” بنصوص الدستور وتطبيق العدالة بشكل يتجاوز الانتقائية في الممارسات، وتبعا لرأي بعض المختصين، فإن أغلب الأحزاب السياسية العراقية اهتمت في تعزيز نفوذها داخل السلطة السياسية على حساب الدولة، بما أضعف من أداء المؤسسات الحكومية، الأمر الذي ولَّد تحديات مجتمعية كبيرة، كاجتياح تنظم داعش للعراق، او تنامي حركات الاحتجاج الشعبي بشكل غير مسبوق.

ثالثاً: المساواة، وهي أساسية للحداثة، إن التجربة الديمقراطية العراقية بعد عام 2003، وبسبب منهج “المحاصصة” لم تتمكن من ان تعالج بصدق عملية التفاوت المجتمعي والفقر وعدم المساواة، الذي خلفه النظام السياسي السابق، وكذلك بسبب “المحسوبية” لم تضع العراقيين بشكل متساوي أمام القانون، بل على العكس من ذلك، ساعدت “المحاصصة والمحسوبية” في زيادة الفجوة الاقتصادية والسياسية بين طبقات المجتمع بشكل كبير جداً، وأدت إلى عدم تكافؤ الفرص بينهم، فضلاً عن غياب المساواة في تطبيق القانون، وفي هذا السياق يرى بعض الباحثين بأن مناخ المحاصصة في العراق وفّر للمسؤول إمكانية التهرب من الحساب في حال ارتكابه للمخالفات القانونية خلافا للمواطن البسيط. وهو ما انعكس سلباً على طبيعة ومسار بناء الدولة العراقية ومجاراتها لمشروع الدولة الحديثة؛ لذلك تعد (المساواة والسلطة والهوية) من الأسس السياسية المهمة في بناء الدولة القومية الحديثة.

فضلاً عن ذلك، فأن إشكالية بناء الدولة لدى العديد من الدول الضعيفة تكمن في ضعف الحكم والإدارة والتنظيم وقصور المؤسسات على مستوى الأمة الدولة. فبناء الدولة بحاجة إلى بناء المجتمع أولاً، ورأب التصَّدع الحاصل بين السلطة والمجتمع من خلال التنمية البشرية والسياسية الصحيحة وتقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي، فقوة الدولة تكمن في قوة قدراتها المؤسساتية والإدارية على تصميم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ؛ لأن قوة الدولة تقاس بمدى كفاءة وفعالية وقدرة مؤسسات الدولة على أداء وظائفها والأهداف المختلفة التي تضطلع بها.

 

——————————

(*). هو والت ويتمان روستو (المعروف أيضًا باسم والت روستو أو دبليو روستو )7  أكتوبر 1916 / 13 فبراير 2003) خبيرًا اقتصاديًا ومنظوراً سياسياً أمريكيا، عمل مساعدًا خاصًا لشؤون الأمن القومي للرئيس الأمريكي ليندون جونسون من عام 1966 حتى عام 1969. كان بارزًا لدوره في تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا خلال الستينيات من القرن الماضي، وكان معارضًا قويًا للشيوعية ، ولاحظ إيمانه بفعالية الرأسمالية والمشاريع الحرة، ودعم تورط الولايات المتحدة بقوة في حرب فيتنام. يشتهر روستو بكتابه “مراحل النمو الاقتصادي: بيان غير شيوعي” (1960)، والذي استخدم في العديد من مجالات العلوم الاجتماعية. للمزيد أنظر: موسوعة اللغة العربية (Mimir)، شبكة معلومات دولية: https://mimirbook.com/ar/52ceee3127e