البيئة الأسرية وأثرها في جنوح الأحداث

      التعليقات على البيئة الأسرية وأثرها في جنوح الأحداث مغلقة

الباحثة : م. هناء جبوري محمد / جامعة كربلاء – مركز الدراسات الإستراتيجية

4/1/2022

لا يخفى على الجميع أهمية اللبنة الأولى في المجتمع ألا وهي شريحة الأطفال، التي عن طريقها يوضع الأساس القوي للمجتمع، إذا أريد لمجتمع أن يكون متطوراً، فمن تلك اللبنة يصنع قادة المستقبل ورجالاته. ويُعد جنوح الأحداث في العالم من الظواهر الخطيرة، والتي تمثل تهديداً لأمن المجتمع واستقراره وبنائه، وهذه الظاهرة ليست بالجديدة، كما أنّها توجد على مستوى دول العالم كافة، ولا ترتبط بالدول النامية فقط، لكنها تزداد في المجتمعات النامية لعدة أسباب، منها: سياسية واجتماعية واقتصادية، ولعل ما يعمق خطورة هذه الظاهرة في الدول النامية، أنّ أكثر من (50%) من سكان الدول النامية هم من فئة الأطفال.

يولد الطفل البشري وهو خالٍ تمامًا من أي خصائص أو سمات نفسية أو اجتماعية، باستثناء ما نقلته الوراثة إليه نقلا عن آبائه وأجداده، وحتى مثل هذه الخصائص لا تظهر عليه مباشرة، بل تظل مجرد إمكانات داخلية، أو مادة خام في حاجة إلى من يتعرف عليها أو يكشفها، وإلى ظروف وعوامل ومناخ يسمح لها بالظهور والنمو السليم، ولكي يتحول هذا الوليد الذي هو في حقيقة الأمر مجرد كائن حي بيولوجي، لا يعوم إلا بالسلوك الذي يحافظ على بقائه على قيد الحياة. وهو في تلك يتشابه مع أمثاله في أسابيعه الأولى مع باقي الكائنات الحية الراقية، إذ تنحصر استجاباته وسلوكياته كافة في حدود إشباع الجوانب البيولوجية والفسيولوجية. ولكي يتحول هذا الكائن الحي الوليد إلى إنسان يعيش في ثقافة معينة، وينتسب لمجتمع معين، لابد أن يمر عن طريق مواقف وخبرات نفسية واجتماعية في تفاعله مع أمه ثم باقي أفراد الأسرة من بعد ، وعن طريق ما يطلق عليه أساليب التطبيع الاجتماعي. إنَّ نظرة إلى المجتمع العراقي تشير إلى أنه أصبح يعاني من انتشار وتفاقم ظاهرة جنوح الأحداث، مثله في ذلك مثل باقي المجتمعات المعاصرة، ولكن هذا لا يعني بأنَّ هذه الظاهرة لم تكن موجودة من قبل، إذ إنّها كظاهرة اجتماعية مثلها مثل بقية الظواهر الاجتماعية، التي تعدّ من صميم الصفة الاجتماعية لأي مجتمع بشري. وفي الفترة الأخيرة لمجتمع العراق غدت هذه الظاهرة مشكلة حقيقية يعاني منها المجتمع، كما أصبحت تقلق رجل الأمن والسلطات الرسمية، وأمست هما ًمن هموم الرأي العام، ذلك أنها وصلت في حدتها إلى درجة عالية لم تكن عليها من قبل، إذ انتشرت بين أفراد المجتمع بصورة حيرت الآباء وأولياء الأمور، لأنهم لم يعهدوها على هذه الصورة من قبل. وإذا ما استمرت الحال على هذا المنوال في التزايد والانتشار والتنوع والتكرار، فإن الأمر قد يؤدي إلى مخاطر كثيرة اجتماعية ونفسية وصحية، قد تنعكس على التماسك والأمن المطلوب للمجتمع والأسرة، وقد يصعب بعد ذلك احتواؤها أو التصدي لها والسيطرة عليها. معنى ذلك أن النمو السوي للطفل يتوقف على أنماط تفاعله مع بيئته النفسية والاجتماعية دون أن نتناسى دور العوامل الوراثية، فالأسرة بوصفها ممثلة المجتمع أمام الطفل، وناقلة القيم والعادات والتقاليد، وبوصفها الجهاز الأول الذي يكشف إمكانات الطفل وقدراته المختلفة، وبوصفها المجال الاجتماعي الأول الذي يخبره الطفل ويكتسب عن طريق هذه الخبرة مفهومه عن ذاته وعن العالم، فهي بذلك المسؤول الأول والرئيس عن تشكيل شخصية هذا الطفل، الذي سينمو ليصبح عضواً مسؤولًا في المجتمع، يؤثر فيه ويتأثر به. فسواء كان فيما بعد صالحاً أو طالحا ً فإن الأسرة هي التي وضعت قدميه على بداية أي من هذين الطريقين. وعندما ينمو الطفل ويبدأ في الخروج عن دائرة الأسرة إلى دائرة الأصدقاء والمدرسة والمجتمع الأكبر، يواجه هذا الطفل النامي بسيل متدفق من المؤشرات والخبرات والعوامل الجديدة عليه، والتي لم يألفها عندما كان في حضانة أسرته، وعليه أن يستجيب ويتعرف، ويتخذ قرارات بمفرده إزاء هذه المواقف الجديدة، من دون توافر الحماية والرعاية الأسرية، ومن دون وجود الدعم الأسري، ومن دون وجود من يوجهه أو يستشيره، كما كان يحدث في مراحل سابقة من نموه. وقد يقوم الطفل باستجابات سوية أو غير سوية في مواجهة هذه المواقف أو الضغوط، ويتوقف ذلك على مجموعة متعددة من المتغيرات، بعضها نفسي وبعضها الآخر اجتماعي، فمنها مدى تماسك بناء النفس، ومدى قوة الأنا وطبيعة مفهومه عن ذاته، ونوع حيله الدفاعية التي يلجأ إليها في التوافق مع المواقف المتغيرة، إلى جانب نوع القيم والاتجاهات التي تواجه سلوكه والعادات والتقاليد التي أكتسبها، وتصوره لأدواره الاجتماعية … ألخ، كل ذلك يعتمد على ما حدث له في مرحلة الطفولة المبكرة داخل الأسرة، فإذا ما توافرت لديه مثلاً الثقة الأساسية في العالم ومن ثم في ذاته، فانه سيتعامل مع العالم بشكل سوي، وإذا اهتزت هذه الثقة الأساسية، فإن استجابته سوف تتسم بالاضطراب نتيجة الشك والخوف والعدوان المتوقع من العالم الخارجي. وكذا أيضا ًما يحدث بالنسبة لشعور الطفل بالأمن والاطمئنان والحب والتقدير في هذه المراحل المبكرة من حياته في أسرته. وبالنظر إلى السلوك غير السوي أو غير المتوافق، أو السلوك المضاد للمجتمع أو السلوك الجانح الذي يصدر من بعض الصغار وهم في سن الحداثة، نجد أنه نتاج للأوضاع المعيشية والظروف الأسرية والبيئية، وغيرها من العوامل والأسباب التي تدفعهم إلى هذا السلوك المخالف للمعايير والقيم الاجتماعية. ومن أهم العوامل الأسرية المتعلقة بجنوح الأحداث، هي: العلاقات الأسرية، وطبيعة الترابط الأسري، والسلوك غير السوي داخل الأسرة، وأخيراً السلوك الديني داخل الأسرة. فبالنسبة للعلاقات الأسرية، فقد اتفق علماء الاجتماع والنفس الاجتماعي، على أنّ الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى، المسؤولة عن الأمور الأخلاقية والعقائدية؛ فالطفل في أولى مراحل حياته لا يعرف سوى الوالدين ولاسيما الأم، لارتباطه العاطفي والنفسي الشديد بهما، فهما يؤديان دورًا مهمًا في تنشئة الطفل ورعايته تربوياً، ومعنويا ً، ومادياً، وبذلك يتعلم الطفل في أسرته أولى عمليات تكوين الوعي الاجتماعي، وكذلك الخبرات السلوكية. إذن الأسرة هي التي تشكل شخصية الطفل واتجاهاته وميوله ونظرته للحياة، فالطفل داخل أسرته يتعلم كيف يسيطر على رغباته الداخلية، وكيف يشبع حاجاته الفطرية، وفق قواعد وضوابط تتصل بمكان وزمان وظروف مناسبة لها، وعن طريق وسائل وطرق وممارسات مقبولة اجتماعياً . . ووفقا ً لقواعد المجتمع ومعاييره. فالطفل يتلقى تدريبه الأول لمواجهة بعض المواقف المنبعثة عن النظام والسلطة والضبط، وتطوير استجاباته الأولى نحو الآخرين، وذلك في محيط الأسرة؛ لذا فإن الأسرة بهذا المعنى تشكل الجماعة الأولية الأساسية المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية في المجتمع، وهي القاعدة الأولى التي ينطلق منها الطفل إلى حياة البالغين وإلى مواجهة المجتمع. وفيما يخص التـرابط الأسـري، فمن الضروري أن يتوافر داخل الأسرة كل ما يكفل خلق الحدث وتنشئته بصورة صحيحة وسليمة؛ فالحدث يتأثر بأي خلل يوجد سواء أكان هذا الخلل ماديا ً ام خلقياً أم عاطفياً، فإذا كانت الأسرة سليمة وصحيحة، يكون الطفل فيها ذو شخصية سوية وسليمة، أما إذا كانت الأسرة مفككة لا شك في أن يؤدي إلى انحراف الأحداث أو تحويلهم إلى مجرمين عتاة، ومن أهم العوامل التي تؤثر في تنشئة الطفل، وتؤدي به إلى الانحراف، التفكك الأسري والتوتر الأسري، ويقصد بالتفكك الأسري: انفراط عقدها، وذلك بانفصال الزوجين عن بعضهما بالطلاق، أو ما في حكمه أو هجر العائلة من احد الزوجين، وقد تتعقد تلك المشكلة في حالة الطلاق بزواج أحد الوالدين أو كلاهما من زوج آخر،  مما يجعل الحدث أو الطفل يشعر بنقص شديد في الجانب العاطفي والمادي، ويطلق على هذه الحالة التفكك المادي للأسرة أو (الانهيار المادي)، ويدخل في مضمون هذا التعبير أيضا ً تفكك العائلة أو الأسرة بفقد أحد الوالدين بالوفاة أو السجن أو المرض الطويل، كما يدخل في مضمونه أيضا ً العجز عن الكسب سواء بالبطالة أو التقاعد، أو سيطرة أحد الأعضاء على الآخر أو على الجميع، وهيمنته على شؤون الأسرة ومقاديرها، أو كما يبدو كذلك في حالات المحاباة بين أفراد الأسرة الواحدة، وتفضيل البعض على الآخر، والتجنيب أو العزل والاضطهاد أو السخرية تجاه أحد أفرادها، أو كما يحدث حينما تشيع روح الغيرة والعداوة والحقد بين الأخوة، أو حينما يتدخل الأقرباء بثقل في شؤون الأسرة والأبناء فيفسدون حياة هذه الأسرة. أما السلوك غير السـوي داخل الأسرة فيحاول هذا الجانب التعرف على وجود أفراد داخل الأسرة يمارسون بعض أنواع السلوك غير السوي، مثل: تعاطي الخمور والمخدرات أو أي سلوك مضاد – أو مخالف للقانون، على اعتبار أن وجود هذه النماذج السلوكية، قد تشكل بيئة مناسبة أو دافعة لانحراف الحدث، وفي الوقت نفسه هي مؤشر على طبيعية المناخ النفسي داخل الأسرة، والسمات الشخصية السائدة بين الكبار داخل الأسرة، والتي ينشأ في ظلها الحدث، فالأسرة بعدّها النواة الأولى للمجتمع، وهي الوعاء الاجتماعي الأول للطفل، الذي يشكل شخصيته عن طريق إشباع حاجاته العاطفية والنفسية والجسمية والتربوية، فإذا كانت الأسرة سليمة وصحيحة تكون شخصية الطفل سوية ومستقيمة والعكس صحيح. أما السلوك الدينـي، فالتمسك بالقيم الدينية وممارسة السلوك الديني داخل الأسرة من قبل الكبار، ومدى اهتمامهم بغرس هذه القيم بين الأبناء، يشكل من بين مجموعة من العوامل ضمانا ً ووقاية ضد انحراف الصغار وحصانة لهم، باعتبار هذه القيم الدينية تشكل ركيزة نفسية وأخلاقية، بما تتضمنه من فضائل ومعايير اجتماعية صالحة. إذن الأسرة التي تفقد القيم الأخلاقية والعقائد الدينية السليمة، تكون الحياة فيها مجردة من معاني الخلق والفضيلة والسلوك الطيب الحسن وتصبح غضاضة، ولا يحسون فيه بمعنى الخطيئة، بل قد يصل الأمر بهم إلى حد التفاخر بهذه الخطيئة، فتنعدم معايير الأخلاق ويكون الطريق أمام الحدث مفتوحًا على مصراعيه نحو الانحراف، من دون أدنى رادع أخلاقي أو حتى ديني .

– النتائـج

  • يُعد جنوح الأحداث في العالم من الظواهر الخطيرة، والتي تمثل تهديداً لأمن المجتمع واستقراره وبنائه، وهذه الظاهرة ليست بالجديدة، كما أنها توجد على مستوى دول العالم كافة، ولا ترتبط بالدول النامية فقط، لكنها تزداد في المجتمعات النامية لعدة أسباب، منها: سياسية واجتماعية واقتصادية .
  • إنّ التصاعد المذهل في جنوح الأحداث اقلق العالم بأسره، ودعا دوله إلى توجيه اهتمامها نحو هذه الظاهرة، وبذل جهودها لإيجاد الحلول الكفيلة بالقضاء عليها، حتى أخذت طابعا دوليا تعقد من اجلها المؤتمرات، وترصد لها الأموال بقصد دراستها ومقاومتها، فانكب الاختصاصيون في مختلف العلوم القانونية و الاجتماعية والنفسية على بحثها من جميع وجوهها.
  • تتصف ظاهرةانحراف الأحداث بخطورة ذات بعدين اثنين على كيان المجتمع، فمن جهة يصبح الأحداث طاقات معطلة لا تفيد المجتمع بشيء، بل تتسبب له في ضرر مؤكد، و من جهة أخرى يعدّون طاقات معيقة من جراء ما ينتج عن ارتكابهم لمختلف أنواع الجرائم، من آثار وخيمة على المجتمع،  إذ يعد جنوح الأحداث كإجرام الكبار، يعود بالضرر المباشر على كيان المجتمع و حياة أفراده و سلامة أعراضهم وأموالهم، إذ يرتكب الأحداث جميع ألوان الانحراف، وإذا ما بدأ الحدث حياته الأولى بالإجرام ثم اعتاد عليه، فإنه يصبح من العسير إصلاحه عندما يبلغ سن الرشد  .

 

– التوصيات:

1- إنّ للبيت أثرا كبيرا في تكوين خلق الإنسان وعاداته ولغته وذوقه ومعاملاته مع الآخرين، فالطفل الذي ينشأ في أسرة موسيقية، من الممكن أن يكسب ميلا إلى الموسيقى أكثر من ميله الوراثي إليها، وكذلك ابن الطبيب والمهندس. والطفل الذي تربى في المنزل على تحمل المسؤولية ينشأ أباً أو أماً يحمل أو تحمل المسؤولية، لهذا كانت التربية الخلقية في المنزل ضرورة لا عوض عنها، فهي المعاملة الأولى التي يتلقاها الطفل، لذلك ينصح التربويون بحسن المعاملة والتأديب والتهذيب للأطفال .

2- إنّ ظاهرة جنوح الأحداث تعدّ من أهم الأمراض الاجتماعية التي تواجه الأمم وتهددها، في كيانها واقتصادها ومستقبل أبنائها، وإن مواجهة هذه الظاهرة يعدّ من أولى الأولويات التي تقع على عاتق الدولة والمجتمع، وصولا ً إلى الأسرة التي تعدّ نواة المجتمع وأساس تكوينه، ولذلك كان لابد من وضع سياسة جنائية منبثقة من الواقع الذي يعيش فيه الحدث، وصياغتها صياغة عملية تحد بالفعل من الظاهرة الإجرامية، كما يجب أن تهتم السياسة بعوامل الوقاية من الانحراف عند الأحداث، وأن تتبنى في ذلك وسائل ملائمة وكافية لمكافحة الإجرام، لأن عدم نجاح السياسة الجنائية في ذلك، سيؤدي إلى زيادة عدد جرائم الأحداث، ومن ثَمَّ تفاقم المشكلة أكثر فأكثر .

3- كما يجب عدم إغفال دور الأسرة في بناء شخصية أطفالها، عن طريق إتباع أساليب التربية السليمة في تربيتهم وتوجيههم التوجيه السوي. وتعدّ أيضاً تدابير الإصلاح التي يتم فرضها على الأحداث الجانحين من الوسائل المهمة والفعالة في إصلاحهم وتقوميهم وإعادة تأهيلهم اجتماعياً، ليكونوا عناصر فاعلة في المجتمع .