البابوات وإعادة رسم صورة الكنيسة الغربية

      التعليقات على البابوات وإعادة رسم صورة الكنيسة الغربية مغلقة

أ.م. د. حيدر خضير مراد اليساري

باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء

آذار 2022م

    أصبح الفاتيكان إحدى القوى الناعمة المهمة، التي تسهم في رسم السياسة الدولية في العصر الراهن، وأحد الأطراف المساهمة في منظومة السلام العالمي. وللمحافظة على سمعة الفاتيكان ودوره الأخلاقي والأدبي، الذي يمارسه بوصفه مركز القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية في العالم،التي يقدَّر اتباعها من المسيحيين الكاثوليك بأكثر من مليار شخص، كان لابد للبابوات من العمل على إعادة رسم صورة الكنيسة الغربية، والتعامل مع الأرث التاريخي الطويل لها، بما ينطوي عليه من صور للعنف والتعصب المسيحي،والتنظير الايديولوجي المبرر للحرب سابقاً من قبل الكنيسة، ولاسيما مع التحولات والتغيرات التي شهدتها أدوات السياسة الخارجية ووسائلها، والعلاقات بين الدول والمجتمعات، لذلك قام البابا يوحنا بولس الثاني اثناء قداس له في ربيع عام 2000م، بالاعتذار عن العنف الذي ارتكبته الكنيسة الكاثوليكية في الماضي، إذ ألقى بيانًا اعتذاريًاعن سائر خطايا الكنيسة، التي ارتكبت باسم الدين طوال الألفي سنة الماضية، وسمى بيانه هذا باسم (الذكرى والمصالحة)، وقد جاء هذا الإعلان بعد اعتذار عام 1992م عن اضطهاد غاليليو، والذي كان عملاً آخر من أعمال الكشف عن الحقب المظلمة في تاريخ الكنيسة على رأس الألفية الثالثة، وقد اطلق البابا على عملية المراجعة هذه اسم: “التطهير التاريخي”. ومن بين الأعمال الشنيعة التي ارتكبت بحق اليهود والمسلمين والنساء والجماعات الإثنية، فإن الحروب الصليبية خُصّت بالذكر في ذلك البيان، وقد تلقى العرب والمسلمون في الشرق الأوسط بيان البابا المذكور بابتهاج شديد، ففي سياق الاعتذارات الدينية التي اصدرها البابا، صارت الحروب الصليبية مدانة كما دينت المحرقة ضد اليهود(1).

  كما أنَّ البابا المذكور قدَّم اعتذاراً عن تورط الكاثوليك في تجارة الرقيق بأفريقيا عام 1993م، واعتذر أيضاً عن الاضطهادات والحروب الدينية التي تلت قيام البروتستانتية في القرن السادس عشر، وقد أعلن ذلك من جمهورية التشيك في عام 1995م، وعن طريق الرسالة البابوية “إلى كل امرأة” قدّم البابا اعتذارًا عن انتهاك حقوق المرأة، خلال العصور الوسطى على يد محاكم التفتيش في سنة 1995م. وفي عام 1998م اعتذر لليهود عن تقاعس الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا عن مساعدتهم خلال الهولوكست(2)، وكرر هذه الاعتذارات بعض البابوات اللاحقون ومنهم البابا فرانسيس، الذي تقدم باعتذار علني، وطلب المغفرة عن الخطايا الجسيمة التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية، لخدمة الاستعمار في الماضي(3).

   إنَّ جميع هذه الاعتذارات جاءت بهدف الحفاظ على سمعة الفاتيكان وصورته الأخلاقية، وتعزيز دور البابوات الذين تبنوا سياسة الانفتاح على القوى العالمية كافة، ومحاولة تقليل الخلافات التاريخية مع اتباع الديانات الأخرى كالمسلمين واليهود وغيرهم، بالانفتاح على تلك الأديان والمذاهب والتعايش معها، وتجاوز طروحات الصراع والصدام بين الحضارات والاديان، وفي هذا المضمار تتضح أهمية وثيقة الأخوة الانسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، التي تم التوقيع عليها بحضور شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب وبابا الفاتيكان فرنسيس يوم 4 شباط 2019م، في ختام منتدى حوار الاديان بدولة الإمارات العربية المتحدة، إذ إنَّ الوثيقة تدعو إلى التسامح والتصالح بين اتباع الديانات المختلفة، والتمسك بقيم السلام، وقبول الآخر، والتعايش بين الناس، مما يسهم في احتواء كثير من المشكلات، التي تحاصر جزءًا كبيرًا من البشر(4).

  لذلك فإنَّ سلسلة الاعتذارات المقدمة من قبل بابوات روما، عن أخطاء الكنيسة اللاتينية في الماضي، أسهمت إسهامًاكبيرًا في تحسين صورة الفاتيكان في نظر اتباع الديانات الأخرى، مما أسهم في إرساء أسس التفاهم والحوار، ونشر ثقافة التسامح بين المسيحية الكاثوليكية وابناء تلك الديانات، وهذا عزز من دور الفاتيكان كمساهم أصيل في صنع السلام العالمي، وأحد أهم القوى الناعمة المؤثرة في السياسة الدولية، وان استمرار الدور الذي يقوم به الفاتيكان في السياق العالمي، مرتبط إلى حد كبير بقدرته على الحفاظ على صورته الأخلاقية والأدبية، بوصفه أحد الأقطاب التي تعمل بشكل دؤوب، من أجل إرساء أسس التعايش السلمي، والتفاهم بين شعوب عالمنا المعاصر.

الهوامش:

1) جيمس رستون، مقاتلون في سبيل الله ( صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية الثالثة)، ترجمة: رضوان السيد، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 1423هـ/2002م)، ص20.
2) يوحنا بولس الثاني، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة،

https://ar.wikipedia.org/wiki/

3) محمد بسيوني، الأدوار المتعددة للفاتيكان في بناء السلام العالمي، 6 شباط 2019م، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، مقال منشور على الرابط الالكتروني:

https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/4530/

4) ينظر: وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، 4 فبراير 2019م، على الرابط:

https://www.vaticannews.va/ar/pope/news/