الكاتب : جورج فريدمان
ترجمة وتلخيص: مؤيد جبار حسن
مراجعة : حسين باسم عبد الأمير
يرى الكاتب جرائم قتل رسامي الكاريكاتير، الذين سخروا من الإسلام في باريس ، أنها حفزت للعالم وطغت على
مسامعه.وفي الحقيقة فإنالعالم المُحفز هو خطير دائما، كما أن الأشخاص المتحفزين قد ينخرطوا بأفعال من دون مبالاة بعواقبها. وفي تلك اللحظات المتطرفة والمحملة بالعاطفة يكون التحفظ والهدوء الأكثر حاجة. ومن بعد أن يهدأ الغضب، يمكن وضع خطط العمل. الغضب له مكانه، ولكن الإجراءات يجب أن تؤخذ في جو من الانضباط والفكر.
لقد وجد فريدمان أن التفكير في الأشياء من الناحية الجغرافية – السياسية، يمكن أن يُهدأ الغضب و يُفسر مثل هذه الأحداث. وأشار إلى كتابه الجديد: الأزمات المتصاعدة في أوروبا، والذي يتناول فشل التجربة الأوروبية الكبيرة (الاتحاد الأوروبي)، ويناقش مسألة إعادة ترسيم الحدود والمناطق الساخنة في أوروبا، ويثير احتمال فشل محاولة أوروبا لإنهاء الصراع. وفي هذا الكتاب فصل عن حدود البحر الأبيض المتوسط والصراع القديم جدا بين الإسلام والمسيحية.
غزا المسلمون أوروبا مرتين من البحر الأبيض المتوسط، الأولى في أيبيريا (أسبانيا)، والثانية في جنوب شرق أوروبا، كذلك الاستيلاء على صقلية وغيرها. كما وغزت المسيحية الإسلام مراتعدة، المرة الأولى في الحروب الصليبية، والثانية في معركة لطرد المسلمين من أيبيريا (أسبانيا). بعد ذلك أُجبر الأتراك على التراجع من أوروبا الوسطى، وعبر المسيحيون أخيرا البحر الأبيض المتوسط في القرن التاسع عشر، وسيطروا على أجزاء كبيرة من شمال أفريقيا. الديانتانكلتاهما حاولتا السيطرة على الأخرى، وكلتاهما بدتا قريبتين من تحقيق هدفها، لكن لم تنجح أي واحدة. الذي ما زال صحيحا هو أن الإسلام والمسيحية كانا قلقين من بعضها منذ اللقاء الأول، فروما ومصر تاجرتا مع بعضهما البعض وشنتا الحرب على بعضهما البعض. ويشير الكاتب إلى أن المسيحيين والمسلمين كانا عدوين لدودين، ومع ذلك، فقد تمكنا من أن يكونا حليفين أيضا، ولاسيما في القرن السادس عشر، إذ تحالفت تركيا العثمانية مع البندقية للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. ليس باستطاعتنا تلخيص العلاقة بين الديانتين في عبارة واحدة باستثناء هذه: “إن الديانتين تتبادلان القلق من بعضهما البعض، وفي نفس الوقت متناقضتان جدا، وهذا مزيج متفجر”
الهجرة والتعددية الثقافية والعزل
يـُرجع فريدمان الأزمة الحالية إلى انهيار الهيمنة الأوربية على شمال أفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية وحاجة الأوربيين لليد العاملة الرخيصة. ونتيجة للطريقة التي انتهت بها علاقاتهم الإمبراطورية، كانوا مضطرين للسماح بهجرة المسلمين إلى أوروبا. وبما إن حدود الاتحاد الأوربي مفتوحة فقد تمكنوا من الاستقرار أينما شاءوا. أما المسلمون – فمن جانبهم – لم يأتوا للانضمام إلى التحول الثقافي، وإنما جاءوا للعمل والمال ولأبسط الأسباب. إن اجتماع شهية أوربا للأيدي العاملة الرخيصة وشهية المسلمين للعمل ولدت حركة سكانية واسعة.
الذي عقد المسألة – بنظر الكاتب – أن أوروبا ببساطة لم تعد مسيحية، فالأخيرة فقدت هيمنتها على الثقافة الأوروبية خلال القرون السابقة لصالح العقيدة العلمانية الجديدة، إن لم تحل محلها. ووضعت العلمانية تمييزا جذريا بين الحياة العامة والخاصة، والتي فيها الدين مجرد احساس تقليدي، تم نفيه إلى المستوى الخاص وإلغاء قبضته على الحياة العامة. للعلمانية الكثير من السحر، ولا سيما حرية الاعتقاد الفردي، لكنها أيضا تطرح مشكلة عامة. هناك الذين يرون أن معتقداتهم تختلف كثيرا عن معتقدات الآخرين، وأن إيجاد أرضية مشتركة أمرٌ مستحيل. ثم هناك من يميزون بشدة بين الخاص والعام هو إما بلا معنى أو غير مقبول. كان للعلمانية سحرها، ولكن ليس الكل مفتونا بها.
أوروبا حلت المشكلة عبر إضعاف المسيحية، وهذا جعل المعارك القديمة بين الفصائل المسيحية بلا معنى، لكنها شجعت جميع الناس – ليس فقط الذين لم يشتركوا في المذاهب الأساسية للعلمانية – على رفض المسيحية. ما اعتقدت به الأخيرة، أنه تقدم بعيد عن الصراع الطائفي، والمسلمين (وبعض المسيحيين) رأوا فيه مجرد انحطاط، ضعف إيمان وفقدان القناعة.
ويؤكد جورج فريدمان، أن وجود أكثر من مليار مسيحي وأكثر من مليار مسلم وعدد لا يحصى من العلمانيين، خلط كل شيء. فمن الصعب أن تقرر ما تقصد عندما تقول أي من هذه الكلمات، ومن السهل الادعاء أن أي شخص آخر يقصد (أو لا) الموضوع ذاته. هناك عدم تحديد موجود في استخدامنا للغة، يتيح لنا بإلقاء مسؤولية ما جرى من أحداث في باريس بعيدا عن الدين إلى أقلية غريبة عن الدين، أو لتصرفات أولئك الذين ضغطوا على الزناد فقط. هذه هي مشكلة العلمانية العالمية، التي تتجنب التبسيط، وتترك الأمر غير واضح حيال من يتحمل المسؤولية. وبإلقاء اللوم على الأفراد، تعفي العلمانية الأمم والأديان من المسؤولية.
ويستدرك الكاتب، أن هذا ليس بالضرورة خطأ، ولكنه يخلق مشكلة عملية هائلة. فلو كان المسلحون وأنصارهم هم المسؤولين عن الحادثة، وجميع من يتبنى عقيدتهم أبرياء، عندها سوف نقوم بتوفير حكم أخلاقي يمكنهم الدفاع عنه. وعمليا، فإن هذا يعني شل قدرتنا على الدفاع عن أنفسنا. حيث سيتعذر الدفاع في مواجهة عنف عشوائي وفرض المسؤولية الجماعية.
كما وشهدت أوروبا – ومنذ مدة طويلة – عملية تشكيل التعقيد الأخلاقي، بحيث أصبحت مشكلة لا يمكن حلها بسهولة. ليس كل المسلمين – ولا حتى معظمهم – مسؤولين عما حصل، ولكن الذين ارتكبوا هذه الأفعال كانوا مسلمين يدعون أنهم يتحدثون باسم الإسلام. يمكن للمرء أن يقول هذه مشكلة المسلمين وهم مسؤولون عن حلها، ولكن ماذا سيحدث لو لم يفعلوا ذلك؟، وهكذا يدور النقاش الأخلاقي بلا نهاية.
وهناك معضلة يسلط فريدمان الضوء عليها: فالأوربيون لا يعدون المسلمين من شمال أفريقيا أو تركيا أوربيين، كما لا ينوون السماح لهم أن يكونوا كذلك. وقد كان الحل الأوروبي لعزلهم هو مفهوم التعددية الثقافية، وعلى السطح فإن الفكرة تبدو ليبرالية، غير أنها عمليا، تعني التشرذم الثقافي والعزل. ولكن وراء هذا تقبع مشكلة أخرى جيوسياسية. إن في بؤر التوتر تلك واجهت التعددية الثقافية ومؤسسة المهاجرين تحديا آخر، هو اكتظاظ أوروبا، خلافا للولايات المتحدة، التي لا تملك مجالا لدمج ملايين المهاجرين. مذهب التعددية الثقافية شجع بشكل طبيعي على تنامي مشاعر الاستقلال أو الانفصال. التمايز الثقافي ينطوي على رغبة العيش مع أبناء جلدتك. وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي للمهاجرين حول العالم، وإقصائهم الذي لا مفر منه – وإن كان عن غير قصد تحت عنوان التعددية الثقافية ورغبة العيش مع المثيل – وجد المسلمون أنفسهم يعيشون في ظروف مزدحمة للغاية وبائسة. في جميع أنحاء باريس هناك مباني سكنية شاهقة تفصل الفرنسيين عن المسلمين الذين يعيشون في أماكن أخرى.
وبطبيعة الحال، فإن عمليات القتل تلك لا علاقة لها بالفقر، حيث إن المهاجرين الجدد هم دائما فقراء، وهذا هو سبب هجرتهم، وسوف يبقون معزولين وغرباء حتى يتعلمون اللغة والعادات في موطنهم الجديد. إنه الجيل القادم الذي يتدفق في الثقافة المهيمنة، ولكن السر القذر الكامن في التعددية الثقافية كانت من عواقبه إدامة عزلة المسلمين، وكذلك لم يكن في نية المسلمين أن يصبحوا أوربيين، حتى لو كان باستطاعتهم، فقد جاءوا لكسب المال، وليس ليصبحوا فرنسيين. إن مدى ضحالة نظام القيم الأوروبية لما بعد الحرب هو المسؤول عن العرض المرعب الذي وقع في باريس الأسبوع الماضي.
دور الفكر
في الوقت الذي يكون فيه للأوربيين قضايا معينة مع الإسلام لأكثر من ألف سنة، كانت هناك مشكلة أكثر عمومية. المسيحية استُنزفت نتيجة حماسها الإنجيلي ولم تعد تستخدم السيف لقتال أعدائها وتنصيرهم، وعلى الأقل جزء من الإسلام احتفظ بتلك الحماسة، كما أن الاعتراض بأن ليس جميع المسلمين يتشاركون هذه الرؤية لا يحل المشكلة. هناك عدد كاف من المسلمين متحمسون إلى تعريض حياة من يخالفهم للخطر، وهذا الميل نحو العنف لا يمكن السكوت عنه من قبل أي من المستهدفين الغربيين أو من قبل المسلمين الذين يرفضون الاشتراك في الفكر الجهادي. كما أنه لا توجد طريقة للتمييز بين أولئك الذين قد يُقدمون على القيام بالقتل من أولئك الذين لن يقومون بذلك. الجالية المسلمة قد تكون قادرة على القيام بهذا التمييز، خلافا للشرطي الأوروبي أو الأمريكي البالغ من العمر (25) سنة، والمسلمون إما لا يستطيعون أو لا يريدون القيام بدور الشرطي، ولذلك، تـُركنا في حالة حرب، وهذا ما جعل رئيس الوزراء الفرنسي “مانويل فالس” يدعو للحرب على الإسلام الراديكالي المُتطرف. وفيما لو كان أولئك المُتطرفون يرتدون زيا موحدا أو يضعون علامات مميزة، فإن قتالهم لن يكون صعبا، غير أن التمييز بالنسبة لـ “فالس” هو: إما أن يتقبل العالم استمرار تعرضه لهجمات دورية، أو أن يرى المجتمع المسلم بأكمله تهديدا محتملا إلى أن يثبت العكس. الحقيقة: إن هذه خيارات رهيبة، ولكن التاريخ مملوء بها. الدعوة إلى الحرب على الإسلاميين المتطرفين مثل الدعوة إلى الحرب على أتباع جان بول سارتر.
إن عدم قدرة أوربا على التصالح مع الواقع الذي أوجدته لنفسها في هذه المسألة وغيرها لا يعطيها المبرر دون رؤية الحروب التي تنخرط فيها القوات في العديد من البلدان الإسلامية. الوضع معقد، والأخلاق هي مجرد سلاح لتبرئه النفس وإثبات أن الآخر مذنب. الأبعاد الجيوسياسية لعلاقة الإسلام مع أوروبا أو الهند أو تايلاند والولايات المتحدة، لا تذعن للوعظ الأخلاقي.
وهنا يعود “فريدمان” ويقول: يجب القيام بشيء، إلا إنني لا أعرف ما يجب القيام به، ولكنني أعرف ما هو القادم. أولا، إذا كان صحيحا أن الإسلام فقط يرُد على الجرائم التي ارتكبت ضده، فإن تلك الجرائم ليست بجديدة، وبالتأكيد لم تنشأ مع قيام دولة إسرائيل، أو غزو العراق، أو الأحداث الأخيرة، وإنما جرت منذ مدة أطول من ذلك بكثير، على سبيل المثال، كان “الحشاشون” – وهم فرقة إسلامية سرية تمارس القتل باسم الجهاد الإسلامي – قد أمروا بشن الحرب على الأفراد الذين يعتقدون بأنهم زنادقة مسلمين، أي (مختلقو البدع). الحقيقة لا يوجد شيء جديد فيما يجري، وإنه لن ينتهي إذا ما حل السلام في العراق، واحتل المسلمون كشمير أو دمروا إسرائيل. ليس العلمانية على وشك اجتياح العالم الإسلامي. هناك بالتأكيد ليبراليون وعلمانيون في العالم الإسلامي، ومع ذلك، فهم لا يتحكمون بصناعة الأحداث، ولا أي مجموعة بمفردها تقوم بذلك، وهذه الأحداث – وليس نظرية ما – هي من تشكل حياتنا.
إحساس أوروبا بأنها أمة متجذر في أنها تتشارك التاريخ واللغة والعِرق وأيضا في المسيحية ووريثتها العلمانية. لا يوجد مفهوم الأمة في أوروبا خارج هذه الأمور، ولا يشترك المسلمون معها في أي منها. إنه لمن الصعب تصور نتائج آمنة لجولة أخرى من العزل والترحيل، كما إن هذا مثير للاشمئزاز بالنسبة لمشاعر الأوربيين الآن، غير أن مثل هذه الممارسات بالتأكيد ليست غريبة على التاريخ الأوربي. وبسبب عدم قدرة أوربا على التمييز بين المسلمين المتطرفين من المسلمين الآخرين، فإنها ستتحرك بشكل متزايد وبغير قصد في هذا الاتجاه.
ومن المفارقات هنا، أن هذا هو بالضبط ما يريده المسلمون المتطرفون، إذ أنه سوف يعزز موقفهم في العالم الإسلامي بشكل عام، وشمال أفريقيا وتركيا على وجه الخصوص، غير أن البديل الذي يستهدف عدم تعزيز موقف الإسلاميين المتطرفين، هو منحهم حقالحياة ممزوجا بالتهديد بالقتل فيما إذا أساءوا فيها، وهذا الأمر لن تتحمله أوروبا.
ربما سيتم العثور على جهاز سحري يمكننا من خلاله قراءة عقول الناس لتحديد ما هي عقيدتهم في الواقع، ولكن نظرا لتصاعد الاستياء في الغرب تجاه الحكومات لقراءتها البريد الإلكتروني للأشخاص؛ لذا أشك في أنهم سوف يسمحون باستخدام تكنولوجيا كهذه، ولا سيما بعد بضعة أشهر من الآن، عندما يتم نسيان الجريمة والمجرمين، وسوف يقنع الأوربيون أنفسهم بأن الجهاز الأمني يحاول اضطهاد الجميع. وبالطبع، لا نقلل من احتمال النزعة القمعية لدى قوات الأمن.
الولايات المتحدة مختلفة في هذا السياق، إذ إن نظامها مصطنع وليس طبيعي، اخترع من قبل آبائنا المؤسسين على مبادئ معينة ومفتوحة لمن يريد اعتناقها. القومية في أوروبا هي خيالية طبيعية، وذلك يعتمد على روابط تمتد عبر الزمن ولا يمكن كسرها بسهولة. إن فكرة مشاركة مبادئ الآخرين الغير خاصة بنا هو فكرة ينفر منها المتدينون في كل مكان، وفي هذه اللحظة من التاريخ، فإن هذا النفور شائع بين المسلمين. هذه الحقيقة يجب مواجهتها.
لقد كانت حدود البحر الأبيض المتوسط مسرحا للصراع قبل وجود المسيحية والإسلام، وسوف تبقى كذلك حتى إذا زال تعلقهم بمعتقداتهم الخاصة. ومن الخطأ الاعتقاد أن الصراعات المتجذرة في الجغرافيا يمكن إلغاؤها، كما إنه من الخطأ أيضا أن نضع فلسفات وهمية حول التحرر من الخوف البشري من تعرض المرء للقتل حتى ولو كان جالسا في مكتبه؛ وذلك بسبب أفكاره وانتمائه. نحن ندخل مكانا لا يوجد فيه حلول، وفي مثل هذا المكان يجب صناعة قرارات، وجميع الخيارات ستكون سيئة. إن ما جرى في السابق، سوف يستمر فعله مجددا، وأولئك الذين رفضوا اتخاذ خيارات سوف يرون أنفسهم أكثر أخلاقية من أولئك الذين فعلوا. إن هناك حربا – ومثل كل الحروب – غير أن هذه الحرب تختلف كثيرا في الطريقة التي يحكم عليها عن الحروب السابقة، إلّا أنها حرب على الرغم من ذلك، ومن ينكرها إنما يُنكر ما هو جلي وواضح.
http://www.stratfor.com/weekly/war-between-two-worlds#axzz3OWHY7rvm