ننشر في هذا العدد مقالة استراتيجية مهمة لها علاقة جوهرية بالقرار الاستراتيجي العراقي وبكيفية رسم السياسة الخارجية، للكاتب “ليون هادر” الذي يعد من كبار المحللين في ويكيستارت وزميل معهد كاتو لدراسات السياسة الخارجية، وقد سبق وأن نشرنا مقالات أخرى في السياق نفسه المرتبط بالنقاش الدائر الآن في أروقة صناعة القرار الأمريكي حول المدى المطلوب للاهتمام والانشغال الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وظهور من ينادي بترك المنطقة أو خفض الوقت المخصص لها والتركيز بدلاً من ذلك على التحدي الصيني، وسنخصص لاحقاً عدداً خاصاً بهذا الملف والنقاش المرتبط به.
يستهل الكاتب مقاله بالحديث عن الجدل الدائر في الآونة الأخيرة داخل الأروقة الأمريكية بين الداعين إلى ضرورة تدخّل الولايات المتحدة في الشؤون العالمية وأولئك الذين يجنحون إلى تبنّي منهج العزلة ووجوب نأي أمريكا بنفسها عن بقية العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، ويرى أن إثارة مثل هكذا مواضيع وتبادل الاتهامات بين جميع الأطراف يستدعي إعادة تقييم سياسات الولايات المتحدة الحالية في الشرق الأوسط وتخفيض النفقات الجيوستراتيجية وهو جزء من محاولة لإيقاف الجدال والحفاظ على الوضع الراهن، إذ إن التشكيك في جدوى هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، يتجاوز الحسابات الاستراتيجية والاقتصادية التي تجري مناقشتها من قِبل خبراء السياسة الخارجية في واشنطن.
ويؤكد الكاتب أن معظم الأمريكيين لديهم معلومات محدودة حول الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية هناك، (النفط وإسرائيل والإرهاب) هذه الكلمات التي تثير القلق، وفي استطلاع للرأي اتضح أن معظم الأمريكيين يريدون انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان في أقرب وقت ممكن، وكذلك يشككون في جدوى تبنّي واشنطن لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإن تزايد الشعور الشعبي المناهض للتدخل العسكري في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون بديلاً عن الجدل في واشنطن حول سياسة الولايات المتحدة في المنطقة؛ فالرأي العام يميل إلى التقلب، فأي هجوم إرهابي آخر مثل هجمات 11 أيلول أو مواجهة عسكرية مع طهران قد تقلب الاتجاه الحالي الداعي لعدم الانخراط في الصراع، ومن المفترض أن تتيح نهاية الحرب الباردة فرصة للولايات المتحدة لإعادة تقييم منطقة الشرق الأوسط؛ فلم يعد هناك وجود للاتحاد السوفيتي الذي كان يسعى للسيطرة على الشرق الأوسط، وكان حلفاء واشنطن من الأوربيين والآسيويين الذين يُعدون من القوى الاقتصادية القوية التي كان ينبغي الاستعداد لحماية وارداتها النفطية بدلاً من الاستمرار بالاعتماد على الحماية العسكرية. وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل منخرطة في عملية مفاوضات السلام مع الفلسطينيين (عملية اوسلو) والتحوّل إلى قوة اقتصادية وعسكرية قوية.
ولفت الكاتب النظر إلى أن تأثير النخبة العسكرية بالتحالف مع جماعات المصالح الفاعلة كالمجمّع الصناعي – العسكري واللوبي الإسرائيلي وشركات النفط دفع بالولايات المتحدة إلى الانغماس في الشرق الأوسط وفجّر الإرهاب وزجّ بها في تدخلات عسكرية محدودة (حرب العراق الأولى) وموسعة (حرب العراق الثانية)، وإن استمرار التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة ساعد على انتشار التطرف في العالم العربي، وتآكل سلطة الحكام العسكريين المستبدين والملوك المتحالفين مع واشنطن، وأضعف موقعها المهيمن ولاسيما مع ظهور قوى عسكرية في مناطق أخرى من العالم، وخاصة شرق آسيا، حيث برزت الصين بوصفها تحدياً عالمياً رئيساً لمصالح الولايات المتحدة.
إن الانسحاب الأمريكي من العراق وتقليل التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط سيكون له معنى فقط – وفقاً للكاتب – إذا كان جزءاً من الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، وإن هذا المنهج الجديد يجب أن يشجّع القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران ومصر ودول الخليج وإسرائيل على العمل لافتراض أن الولايات المتحدة لن تكون هناك لتتعامل مع تفاصيل توازن القوى في المنطقة، كذلك يجب أن توفر حوافز لحلفاء واشنطن الأوربيين لحماية مصالحها في المنطقة التي تعد في عقر دارها الاستراتيجي، وفضلاً على ذلك، فإن الاقتصاد الأمريكي لا يعتمد على النفط الوارد من الشرق الأوسط (يتلقّى ما يقارب 14% من إمدادات الطاقة من المنطقة)، لذلك لا يوجد أي سبب لاستمرار أمريكا بإنفاق مواردها لتسهّل للمنافسين الاقتصاديين مثل الصين الحصول على نفط الشرق الأوسط مع توفير الحماية العسكرية بالمجّان، وكذلك على إسرائيل التكيف مع الحقائق الجديدة المرتبطة بنفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فالإسرائيليون عليهم أن يدركوا بأن واشنطن لن تكون قادرة على إنقاذهم إذا ما تصرفوا بطريقة غير مسؤولة، كذلك لا يمكن أن يكون دعم الولايات المتحدة بديلاً عن التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، ويمكن أن تستمر الولايات المتحدة بالقيام بدور الموازن كملاذ أخير في الشرق الأوسط، والعمل مع القوى الإقليمية والعالمية للمساعدة في تعزيز الاستقرار وتعزيز الرخاء الاقتصادي في المنطقة، ولكن لايمكن ولاينبغي الحفاظ على الوضع الراهن هناك بعد الآن.