ننشر في هذا العدد مقالتين استراتيجيتين مهمتين تتعلقان بالتغيرات المستمرة التي تصيب قوة الولايات المتحدة وتتناولان مظاهر ضعف وأُفول هذه القوة العظمى، الأمر الذي يهم صانع القرار العراقي الاستراتيجي ويسلط الضوء الكاشف على إمكانية ومدى التحرك والمناورة في سبيل المصلحة الوطنية العليا.
ففي مقالة الكاتب “روبرت كيغن” المنشورة في صحيفة الواشنطن بوست هناك إشارة إلى أنه وفقاً لأغلب التقارير فإن قوة أمريكا تتراجع نسبة إلى بقية دول العالم، إلا أنه مع ذلك فإن الولايات المتحدة ما تزال الأكثر أمناً وجاذبية للاستثمارات في العالم، وان ثورة الغاز الصخري تعمل على تحويل أمريكا إلى عملاق الطاقة في المستقبل، ويبدو أن الدولار الذي كان على وشك النسيان، قد قُدّر له أن يبقى عملة الاحتياطي العالمي لبعض الوقت في المستقبل، أما القوة العسكرية فماتزال لا مثيل لها من حيث الكمية والجودة، على الرغم من تخفيضات الموازنة الحالية، وان هناك عودة بُشّر بها كثيراً لعالم متعدد الأقطاب من القوى العظمى أقرب ما يكون إلى الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أنه في ظل غياب التغيير الدراماتيكي غير المتوقّع، سيظل النظام العالمي مرتكزاً على قوة عظمى واحدة مع عدد من القوى الكبيرة، أو كما سماه صموئيل هنتنغتون لاحقاً بعالم “أحادي متعدد الأقطاب”، وان تفسير سبب ضرورة استمرار لعب أميركا لدور القوة التي لا غنى عنها اليوم أكثر تعقيداً منه خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة أو في أعقاب هجمات 11/أيلول، فقد كان وجود النازيين والسوفييت كفيلاً بتبسيط الأمور، وان مهمة أمريكا منذ عام 1945 كانت تعزيز الدفاع عن النظام العالمي الليبرالي ووقف كل الفوضى الدولية، لا مجرد مواجهة التهديدات ثم العودة إلى الوطن،وهناك تناقض كبير في جميع أنحاء العالم بشأن الولايات المتحدة، فالبعض يتمنى أن يتراجع نفوذها، وآخرون يريدون منها أن تنغمس أكثر في الشؤون العالمية، بينما ما يزال آخرون يرغبون بكلا الأمرين بشكل متزامن،وان نوعية النظام الذي يمكن أن يحل محل النظام العالمي اليوم لم تتضح بعد، فإن لم تكن الولايات المتحدة القطب الأوحد فيه، فمن إذن؟ يرى الكثيرون أن الأمم المتحدة لم تلتزم بالوعد الذي قطعته في السابق؛ فرفض السعودية الأخير لقبول مقعد مجلس الأمن الدولي هو إحدى العلامات الكبيرة على اليأس من تلك المؤسسة التي يعدّها الكثيرون مأزقاً، والمؤسسات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي بدأت قبل عقد من الآن تُقدّم مساراً لنوع جديد من النظام العالمي المختلف، في الوقت الذي تقوم فيه جهود أخرى لبناء مؤسسات مماثلة في آسيا لمنافسة القوة العظمى.
وأما في المقالة الثانية “عشرة أسباب أدّت إلى انحسار نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية” فيعتقد الكاتب “بريان مايكل جنكيز/من كبار مستشاري مؤسسة راند البحثية” بأن الولايات المتحدة بدأت تتخبط في منطقة الشرق الأوسط ولايمكن للأطراف الإقليمية أو الدولية لعب دور أفضل منها، فالاتحاد الأوروبي له تأثير ضئيل ويخشى عودة المقاتلين من سوريا، أما تركيا فقد انحسر دورها كقوة إقليمية وهي الآن ليس لديها سوى القليل من الأصدقاء، أما روسيا فإن موطئ القدم الوحيد لها في المنطقة سيكون الاعتماد على مستقبل النظام السوري الهش، أما النظام الإيراني فقد خسر شريكين؛ الأول في مصر وربما الثاني الحليف الاستراتيجي في سوريا، وان معظم التقديرات أشّرت انحساراً ملحوظاً في نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في أعقاب الربيع العربي عام 2011 إذ ألقى النقاد باللائمة على الدبلوماسية غير الكفوءة للإدارة الأمريكية الحالية وهذا لا يُفصح عن التفسير الكامل لسبب خسارة الولايات المتحدة نفوذها في المنطقة، ويرى العديد من النقاد في المنطقة بأن الولايات المتحدة الأمريكية حليف لايمكن الوثوق به إذا ما هُدد النظام من الداخل، فهي بدلاً من دعم أصدقائها القدامى في الشرق الأوسط راحت تقدم محاضرات في الديمقراطية وتطلق التصريحات الجوفاء حول حقوق الإنسان والأسوأ أنها تضع خطوطاً حمراء ثم تتراجع وتبدو أنها تبنت فكرة جديدة وهي استراتيجية الصمت، إذ لم يتمكن قادتها من الدفاع وسط بيئة حزبية تغمرها وسائل الإعلام، الأمر الذي يحتم على الولايات المتحدة القبول بنتائج الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من أن هناك تراجعاً ملحوظاً في الكفاءة الدبلوماسية الأمريكية بوصفها قوة عالمية،ووفقاً للكاتب فإن انحسار الدور الأمريكي في المنطقة لايعني فشل سياساتها بالمجمل فالعلاقات مع إسرائيل ما تزال قوية، وهي لم تعلق مساعداتها لمصر، والأردن تتطلع إلى مساعدتها، كما يحتاج العراق أيضاً دعمها للتعامل مع العنف المتصاعد، ويشيرالكاتبإلىأنالولاياتالمتحدةقامتبجولةمفاوضاتفيالشرقالأوسطمنأجلنجاحدبلوماسيتهاعلىالرغممنأنالنجاحاتالتيتحققهاستكون مستبعدة، إلا أن الظروف من الممكن أن تتغير، إذ إن جلَّ ما قامت به الولايات المتحدة في سوريا قد غيّر وبشكل مفاجئ التصورات بشأن انحسار نفوذها في الشرق الأوسط، لكن مع ذلك قد يُنظر إليها على أنها غير حاسمة وضعيفة، وقد يُنظر إلى الولايات المتحدة بأنها تتخبط لكن لايمكن تجاهل حقيقة كونها عملاق خطر. ٍ