بقلم الدكتور خالد عليوي العرداوي
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية
إيران والسعودية نظامان رئيسان في منطقة الشرق الأوسط الإسلامي، بينهما عناصر تقاطع كثيرة، إذ يتقاسمان عداوة سياسية متبادلة تتصاعد تارة وتفتر تارة أخرى، ولكن تجمع بينهما قواسم مشتركة عدة، أبرزها عدم تحملهما لوجود معارضة
سياسية حقيقية، فتجربة إيران منذ عام 1979، تؤكد أن حظوظ المعارضة داخل هذا البلد سيئة جدا، ولاسيما عندما توجه نقدها أو مخالفتها لرأي مركز القرار في النظام، إذ عمل النظام على منع معارضيه من أبسط حقوقهم السياسية، من مثل حقهم في الترشيح للانتخابات وترك اختيار الأصلح للشعب، ولم يتردد في تقييد المعارضة حتى عندما تصدر من شركائه في الحكم، كما هو الحال في الموقف من أبي الحسن بني صدر الذي هرب متخفيا إلى باريس، ومير حسين موسوي ومهدي الكروبي اللذين أصبحا رهن الإقامة الجبرية، وإبراهيم يزدي الذي أودع السجن وهو في الثمانين من العمر، والشيخ منتظري الذي تعرض للسجن والإقامة الجبرية، فضلا عن الكثير ممن تعرضوا للإعدام والسجن تحت تهمة تهديد الأمن والنظام، وكانوا في يوم ما من جنود النظام وصناع ثورته. كما حرص النظام على إلحاق أبشع النعوت بمعارضيه، ولعل منها وصفهم بالفرقة المنحرفة ، والعمالة للغرب وهلمّ جرّا ، وقيام بعض وسائل الإعلام الرسمية بتشويه صورة المعارضين بأرخص صورة، ومثال على ذلك ما قام به علاء رضائي مذيع قناة الكوثر بوصفه بعض المعارضين أنهم رؤوس الحمير وقرون الشيطان وعملاء الأجانب، ومن يجرؤ على المعارضة والنقد للنظام حتى ولو بصورة بسيطة يتعرض للجلد والإهانة والنفي أو التحقيق والاعتقال، ولا يسمح بتشكيل أحزاب معارضة حقيقية إذا غردت خارج فلك النظام، بل حتى المظاهرات التي تخرج مطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد والانحراف استنادا إلى مبادئ الثورة الإسلامية يواجه أصحابها الاعتقال كما هو الحال مع الشيخ علي رضائي جهانشاهي ورفاقه…
أما السعودية، فلا تختلف الصورة فيها كثيرا، إذ مع اختلاف نظام الحكم فيها عقائديا وبنيويا مع النظام الإيراني، إلا أنه أيضا لا يحتمل المعارضة السياسية وبدرجة أكثر حدة وعقدية، فيمنع مكونات مهمة من شعبه من ممارسة طقوسها بحرية ( الشيعة مصداقا )، ويقيد حقوق وحريات شعبه بشكل صارم (الموقف من المرأة، والموقف من الأحزاب السياسية …)، ويلصق أبشع الصفات بمعارضيه ( رافضة، شعوبيون، عملاء الخارج، الفرقة الضالة، مخادعون …)، وينفق الأموال بسخاء لتضخيم أجهزة قمعه، وتتبع معارضيه وتصفيتهم، حتى وصل الأمر إلى توظيف القضاء بشكل سافر لمصلحته، ومثال ذلك الحكم الأخير بإعدام الداعية الشيعي المعارض الشيخ نمر باقر النمر …
وعلى الرغم من العداوة المعلنة والصراع على النفوذ بين النظامين، فإن كليهما يحقق فائدة كبيرة من وجود الآخر في تعبئة الأتباع، والامتداد لمناطق نفوذ جديدة، وإسكات المعارضين وتخوينهم، ومنع الحديث عن القضايا الملحّة لوظيفة أي دولة، من مثل حق الإنسان فيها بالتمتع بحقوقه وحرياته، ووجود نظام الحكم العادل، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحييد المؤسسات العسكرية والأمنية، والاختيار على أساس الكفاءة لا الولاء، ومحاربة الفساد والمفسدين … وبما إن النظامين ينطلقان من نظرية الحكم الإسلامي، ولكن من رؤيتين مختلفتين، فالأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل إن نظام الحكم في الإسلام يقيّد المعارضة السياسية ابتداء ويحجم دورها لمصلحة الحاكم ونظام الحكم، أم إن ما يحصل في النظامين تجاوز مقصود للتشريع الإسلامي في العمل السياسي؟. وهل من مصلحة العالم الإسلامي أن يتجسد نموذج الحكم الشيعي بإيران ونموذج الحكم السني بالسعودية؟. وهل ستستمر هذه اللعبة بين النظامين بشكلها الحاضر الآمن عليهما أم أن تداعيات غير متوقعة سترتد على مركز النظام فيهما وتطيح به في وقت ما؟.
الإجابة الوافية على هذه التساؤلات لن تحتويها هذه المقالة القصيرة، لكن يمكن القول أن الإسلام كدين عرفه المسلمون بأروع صوره من خلال تجربة الحكم في عهد رسول الله (صلى عليه وآله) ، وفي تجربة حكم الإمام علي (عليه السلام)، وفي نصوص القرآن الكريم وصحيح السنة التي تحدثت عن الحقوق والحريات، وحددت شروط الحاكم، ونظمت علاقته بالمحكومين، لا يمكن أن يدعم موقف النظامين الإيراني والسعودي المتخوّف أحيانا والمعادي في أحيان أخرى للمعارضة السياسية، فهذا الأمر يتطلب إعادة النظر فيه داخل بنية نظام الحكم في البلدين لتكون أكثر انسجاما وتوافقا مع سماحة الإسلام واتساع شرعته في باب الحقوق والحريات من جهة. ومن جهة أخرى من الخطأ الجسيم تمحور النظرية الشيعية في الحكم حول تجربة الجمهورية الإسلامية، وتمحور النظرية السنية حول التجربة السعودية؛ لأن هذا سيقود إلى إسقاط أخطاء التجربتين، وسوء تقديرهما، وتقاطع مصالحهما، على العلاقة بين الشيعة والسنة كمكوّنين رئيسين في عالمنا الإسلامي، مما يعزز أسباب الصدام بين الطرفين من جانب، ويغلق المجال أمام العقل السياسي الإسلامي في البحث الحر عن تجارب أخرى في الحكم، ربما تكون أكثر عصرية وقدرة على تحقيق التعايش داخل مجتمعات شديدة النزاع والتصارع كالمجتمعات الإسلامية من جانب آخر. والنصيحة التي يمكن تقديمها لصانعي القرار في النظامين، هي أنهما سيواجهان – الآن وفي المستقبل – معضلة صعبة تتمثل في تصاعد الحماسة السياسية الراغبة بالتغيير لقطاعات عريضة من شعبيهما من جهة، مع عدم قدرتهما المؤسساتية على الاستجابة لمتغيرات الواقع ومتطلبات التغيير من جهة أخرى، وهذا سيحتم الصدام بين إرادة الشعب وإرادة النظام في مرحلة ما، فهكذا تطور إن حصل ستكون عواقبه كارثية بشكل لا يمكن احتماله وتوقع نتائجه. وما يجنيه النظامان من فوائد متبادلة نتيجة الصراع بينهما يمكن أن تنسفها تطورات مهمة تحصل في داخلهما، وتجنب هذا المصير ممكن إذا تحلى مصدر القرار في البلدين بحكمة أكثر في مجال الحقوق والحريات، وتمتع برؤية استراتيجية أكثر واقعية للعب دور فاعل في تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
العراق والفرصة التاريخية
على الرغم من كل ما يجري في العراق من محن ويلاقيه من تحديات، فإن نظام الحكم فيه بعد 9 / 4 / 2003، كان ولا يزال لديه فرصة تاريخية كامنة في طرح بديل سياسي لنظام الحكم في المنطقة يكون أفضل انفتاحا على المعارضة، وأكثر إيمانا وثقة بالناس على اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم، وأكثر فاعلية في العمل والأداء وتوزيع الدخل والثروة، وأكثر خضوعا لمراقبة ومحاسبة صاحب الولاية الحقيقي ( أي الأمة )، كما يمتلك قدرة أكبر على الانتقال السلمي للسلطة بما يعزز فرص ومقومات بقائه وديمومته…
نعم إن العراق عجز لحد الآن عن اغتنام هذه الفرصة لأسباب عدة، منها ما يرتبط بطبيعة القيادة التي أمسكت بزمام الأمور بعد التاريخ أعلاه، والتي كانت دون المستوى في الاستجابة للتحديات، والتخلص من الصراعات الآنية ضيقة الأفق الفكري، لخلق الرؤية الاستراتيجية المشتركة لبناء وتنمية بلدها وتحفيز واستنهاض شعبها، فضلا عن إرث الدكتاتورية والاستبداد المقيت، والثقل الثقافي التاريخي الذي تنوء بحمله جميع المكونات العراقية، مما سبب انغلاقها وتمحورها السيئ حول نفسها، وغير ذلك من الأسباب الداخلية. ولكن عند تحليل ما يجري في العراق في إطار التحليل للنظامين السعودي والإيراني ستكتشف أن خراب العراق وفشل نموذجه في الحكم يخدم كثيرا كلا النظامين؛ لأنه يمنع إيجاد بديل ثالث يتحدى أطروحاتهما الفكرية – الأيدلوجية وممارساتهما السياسية في الحكم، فلو وجد هذا البديل ونجح يعني أن نظرية الدومينو المعروفة ستترك ارتداداتها السلبية عليهما، ولتحركت ساحتاهما السياسية بقوة تفوق قوة داعش الهدامة اليوم في العراق.
هذه القراءة لدور العراق المفترض في هذه المرحلة التاريخية المهمة التي تمر بها المنطقة تلقي عبئا كبيرا على العراقيين حكاما ومحكومين للخروج بسرعة من فوضى الإرباك والاستقطاب المسلطة عليهم، للنظر بايجابية أكثر لدورهم المحوري في المنطقة والعالم، وبقدرة أقوى على الفعل في الحاضر والمستقبل، وتوظيف كل الإمكانيات والظروف لمنع ضياع الفرصة التي يحرص جميع الشركاء الإقليميين على ضياعها منهم، واستثمار جسامة الخطر المحدق حاليا بالبلد وتداعياته المهددة لجميع مكوناته؛ لإنتاج مخرجات ايجابية تعزز التعايش السلمي بينها، وترسخ الثقة المتبادلة، وترسي مقومات العدل والعدالة الاجتماعية والشفافية والكفاءة لبناء الحكم الرشيد. هذا ما يحتاجه العراق، وما تحتاجه جميع شعوب المنطقة. والسؤال الذي يتحدى الجميع، هو هل هناك من يستطيع الإمساك بهذه الفرصة التاريخية بقوة وحكمة ورؤية استراتيجية ثاقبة ؟.