بقلم الدكتور خالد عليوي العرداوي
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
اذار 2015
“لأن التفكير الاستراتيجي الحقيقي يحدد الاتجاه لجميع الطاقات البشرية، فالعقل يقوم بقيادة الميدان الرئيس.
وفي هذه الحالة يمكن بمقارنة الظروف السائدة في العالم الخارجي أن تكتسب أفعالك في عالمك الداخلي السرعة والجدوى الاقتصادية والتعرض لأقل قدر ممكن من المخاطر؛ لأنه في ظل تلك الظروف يصبح الكيف أكثر أهمية من الكم؛ لأنه هو الذي سيحدد لك ما لا يجب عليك أن تفعله. إنه يجعلك ترفض الكثير جدا من الاحتمالات، كما سيكون اختيارك أكثر دقة مما هو علــــــيه الآن … فإن المسؤولين عن وضع الاستراتيجية لأي نشاط عليهم التوصل إلى التوجيه الصحيح وإلا فإن جميع مجهوداتهم في هذا المضمار لن تكون سوى سرعة متزايدة في الاندفاع إلى الاتجاه الخاطئ؛ لأن معيار النجاح هنا يتوقف على نوعية التفكير الذي سيحدد بالتالي النجاح أو الإخفاق..”( عبد الرحمن توفيق . كيف تفكر استراتيجيا).
يشكل ما تقدم مقدمة مهمة لابد من وضعها في الحسبان من قبل المسؤولين عن صناعة القرار في العراق قبل فوات الأوان واكتشاف أن أفعالهم لم تكن أكثر من مجرد اندفاع متزايد في الاتجاه الخاطئ، فمثل هكذا خطأ لا يمكن احتماله في وقت تشهد المنطقة والعالم مرحلة تحول تاريخي استراتيجي بالغ الدقة والحساسية يحتاج لوقفات تأملية يشترك فيها صناع القرار، والمسؤولون عن وضع الاستراتيجيات، والأكاديميون، والخبراء، والمستشارون على مختلف المستويات… لتحليل ظروف بيئتهم الخارجية والداخلية؛ لأجل وضع رؤية استراتيجية مناسبة تحدد مسارات السياسة العامة الداخلية والخارجية. ولكن قبل تحديد هذه الرؤية من المفيد تحرير عقل صانع القرار العراقي من بعض المنطلقات الخاطئة الدافعة باتجاه مسارات غير ناضجة وخيمة العواقب.
منطلقات جديدة في التفكير السياسي لصانع القرار السياسي
قبل سقوط الموصل بيد “داعش” في حزيران من العام المنصرم وما تبعه من أحداث خطيرة مازالت تداعياتها مستمرة. ربما من الصعب إقناع صانع القرار العراقي بضرورة تغيير منطلقاته التي بنى عليها طريقة إدارة بلده، لكن اليوم يحتاج الحفاظ على وحدة وسيادة هذا البلد أن يعيد قادته النظر بهذه المنطلقات التي ثبت أنها دفعت بوصلة القيادة باتجاهات خاطئة على نحو مريع أدى إلى انحراف العملية السياسية عن مسارها السليم من جهة، وأصابها بالتخبط والشلل وعدم الوضوح من جهة أخرى. كيف ؟.
تفعيل دور الشيعة في حكم العراق
لا يمكن إنكار وجود الشيعة وتأثيرهم الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في تاريخ العراق، ولكن واقع العراق يتطلب من الساسة الشيعة المتصدين لموقع المسؤولية السياسية والاجتماعية، والراغبين في بناء بلدهم استنادا إلى الواقع الدستوري الذي تأسس بعد دستور 2005 الأخذ بالحسبان ما يلي :
أولا: التحرر من عقدة المظلومية السياسية: إن الشيعة كطائفة عانوا عبر تاريخهم الطويل من ظلم كبير ترتب عليه تهميشهم وإقصاؤهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم السياسية، وغالبا ما كانت أنظمة الحكم الظالمة لحقهم إما تحكم بفكر طائفي مغاير (الحكم الأموي، الحكم العباسي، الحكم العثماني…)، وإما بفكر استبدادي منطلق من مرجعية فكرية تاريخية معادية أو مرجعية فكرية دكتاتورية (حكم صدام حسين ..)، وإما بالاثنين معا. وكان الخطاب السياسي لهذه الأنظمة خطابا إقصائيا صريحا ينكر بشكل سافر حق الشيعة في الحكم، بل وأحيانا حقهم في حمل جنسية العراق وطمس أصولهم القومية، ولم يكن هكذا خطاب يهدف لبناء الدولة المدنية المتسعـــــة لجميع مواطنيهـــــا والتي تتكفـــــل بحمايـــة حقوقهــم وحرياتهـــم وتــمنــــع الاعتـــداء عليها.
وإزاء هكذا واقع من حق أبناء الطائفة الشيعية المناداة بشعار رفع المظلومية عنهم واسترداد حقوقهم المسلوبة والمنتهكة. ولكن بعد التغيير السياسي الذي حصل في 9/4 / 2003 وما أسفر عنه من رفع لكثير من مظاهر الحيف التي عانى منها الشيعة، ودخولهم كشركاء أساسيين في العملية السياسية التي تتمحور خطاباتها السياسية على ترسيخ المنهج الديمقراطي في الحكم، وبناء دولة القانون والمؤسسات، واتساع الحكم لكل مكونات الشعب وفئاته، مع وجود خطر إرهابي حقيقي يهدد بقاء الدولة العراقية باسم الطائفية وإثارة مشاعر الكراهية بين مكونات النسيج الاجتماعي العراقي أثبتت الأحداث بعد 10/ 6/2014 جدية مشروعه وضرره الفادح على العراق والشرق الأوسط، أصبح من غير الممكن الاستمرار برفع شعار المظلومية من قبل النخب الشيعية على اختلاف مستوياتها؛ لأسباب عدة منها:
– إن الاستمرار بطرح هذا الشعار من شأنه زيادة درجة الاحتقان الطائفي بين الشيعة وغيرهم من الطوائف، مما يدفع إلى تنامي الفكر والآيديولوجيات المتطرفة بين مكونات الشعب الواحد في وقت يتطلب وضع البلد تعاون الجميع من اجل تخفيف درجة الاحتقان وترسيخ منظومة الفكر المتسامح والمعتدل.
– إن النخب الشيعية المشاركة في الحكم لا تمثل طائفتها لوحدها في ممارسة عملها السياسي بل تمثل الشعب العراقي بكل مكوناته، وهذا الأمر يتطلب إبعاد خطابها السياسي عن معاناة تشنجات الماضي والانفتاح الفاعل على الآخر.
– إن العيش في الأجواء الفكرية للمظلومية السياسية يجعل الساسة الشيعة يتصرفون كرجال معارضة وقادة طوائف أكثر منهم رجال دولة.
ثانيا: العلاقة مع إيران علاقة شراكة لا علاقة تبعية: تشكل إيران بامتدادها الجغرافي الطويل وموروثها الثقافي والتاريخي المتميز لاعبا استراتيجيا مؤثرا في الداخل العراقي، لكن الشيعة في العالم العربي عموما وشيعة العراق على وجه خاص غالبا ما كانوا متهمين بكونهم ذراعا للسياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، ووجود هكذا تصور يتطلب من صانع القرار الشيعي بذل جهد كبير من اجل إثبات عدم دقته، وترسيخ سياسة الشراكة مع إيران لا التبعية لها لأسباب عدة منها:
– تأكيد استقلالية القرار الشيعي ومن ثم العراقي عن السياسة الإيرانية وتمثيله لمصالح شعبه وبلده وجعلها فوق كل اعتبار آخر.
– تشكل إيران لاعبا استراتيجيا مؤثرا في منطقة الشرق الأوسط. وبحكم دورها هذا وطموحاتها السياسية لديها صراعاتها الإقليمية والدولية الخاصة بها وليس من مصلحة العراق أن يكون جزءا من هذه الصراعات.
– يمثل العراق بعد 9/4/2003 دولة ديمقراطية ناشئة تعاني الكثير من مظاهر الضعف والوهن وأي اندفاع سياسي له في هذه المرحلة إلى جانب أي من الأطراف الإقليمية سيكون على حساب مصلحته الاستراتيجية؛ لأن هذه الأطراف لن تنظر له إلا بعين الجار الضعيف الذي يكون امتدادا طبيعيا لمجالها الحيوي ولن تشذ عن هذه القاعدة إيران.
– إن النظام السياسي في إيران يختلف كليا عن النظام السياسي في العراق، مما يعني أن الخطاب السياسي لكلا البلدين سيكون مختلفا تماما في طبيعة التحديات وإدارة الصراعات وبناء التحالفات.
– خطر الإرهاب الذي يهدد وحدة العراق، يجعل البلد بحاجة إلى دعم التحالف الدولي الناشئ لمحاربته، مما يقتضي حصول صانع القرار على دعم جميع القوى الإقليمية والدولية بعيدا عن أي تخندقات طائفية وقومية إقليمية أو دولية.
ثالثا: أغلبية ديمقراطية قائدة لا أغلبية طائفية قاهرة: تقوم الديمقراطية الحقيقية على أساس الأغلبية الناتجة عن تنافس سياسي نزيه من خلال انتخابات حرة وعادلة، والعراق ما زال في بداية الطريق نحو هكذا ديمقراطية، وهو طريق يتحدد مداه الزمني ببراعة القائمين على الحكم ومقدار رغبتهم في بناء دولة مدنية صحيحة. وعدم وجود مثل هذه الديمقراطية، بل وعدم وجود الوعي الشعبي والنخبوي الدافع باتجاهها هو ما جعل العملية السياسية تتمحور منذ عام 2003 ولحد الآن على ما يسمى بالديمقراطية التوافقية، والتي فشلت النخب السياسية في اللعب وفقا لقواعدها وأحكامها فسقطت في شراك المحاصصة على مختلف مستوياتها.
إن الإخفاق والسير المتعرج باتجاه بناء الديمقراطية الحقيقية ينبغي أن لا يؤثر على تصور الشيعة للمفهوم الحقيقي والصحيح للأغلبية في الحكم الديمقراطي. فهذه الأغلبية لا تعني أغلبية الشيعة – وهي أغلبية اجتماعية لا غبار عليها – لأن هكذا فهم سوف يدفع إلى مزيد من النفور والرفض للديمقراطية من بقية مكونات الشعب العراقي، وسيشجع المتصدّين للحكم من الشيعة على تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها حكام العراق السابقون عند إقصائهم وتهميشهم للمكون الشيعي، ويفتح الباب مشرعا أمام دكتاتورية في الحكم منطقها استبدادية الأكثرية الشيعية. هذه الحقائق تستدعي الحذر عند رفع شعار الأغلبية التي يجب فهمها بكونها الأغلبية السياسية لا الأغلبية الطائفية، وهي الأغلبية التي تبنى عليها الديمقراطيات الراسخة الراغبة في الاستمرار؛ لأنها تنهي مشاعر الكراهية بين المكونات، وتعزز الثقة المتبادلة، وترسخ منظومة القيم المدنية القائمة على رابطة المواطنة، التي تجعل الجميع شركاء في بناء الدولة ومواجهة التحديات التي تهدد وحدتها وسلامتها.
تفعيل دور السنة العرب في حكم العراق
أثبتت الأحداث منذ سقوط حكم البعث أن السنة العرب في العراق ممكن أن يكونوا وقودا وحطبا لنيران الحقد الطائفي والقومي، وأن الأجندات الخارجية يمكنها توظيف ارتباكهم وعدم وضوح رؤيتهم في التعامل مع مستجدات الأحداث بطريقة لا تحقق مصالحهم. وعندما يستوعب سنة العراق هذا الدرس القاسي الذي مروا به عليهم الانتباه إلى ما يلي:
أولا: عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء: ويقصد بهذا من المفيد أن يدرك السنة العرب في العراق واقع التغيير السياسي الذي تم بعد 9/4/2003. فالجميع يعلم أن المعادلة السياسية قبل هذا التاريخ كانت تميل لصالحهم بشكل مجحف على حساب العرب الشيعة والكرد وغيرهم من مكونات الشعب العراقي، مع اتصاف أنظمة الحكم التي مثلتهم بطابع استبدادي مسرف جلب الخراب والدمار إلى البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلد، ولم يسلم من هذا الضرر حتى أبناء المكون السني العرب أنفسهم. لقد سقطت هذه المعادلة السياسية بسقوط نظام صدام حسين ولن تعود مرة أخرى، وعلى قادة المكون السني إدراك ذلك والإيمان بالتغيير والعمل وفقا للحقائق الجديدة؛ لأسباب عدة منها:
– إن توقع عودة الأمور إلى ما كانت عليه سابقا أمر يخالف المنطق، فجميع مكونات الشعب العراقي الأخرى متمسكة بعناد بخيار المشاركة في السلطة وترفض تهميشها وإنكار وجودها مرة أخرى من أي طرف.
– من شأن الاعتقاد بعودة عقارب الساعة إلى الوراء أن يؤدي إلى إضعاف الفاعلية القيادية للساسة السنة العرب من جانب، ومن جانب آخر سوف يوسع الفجوة الموجودة فعلا بينهم وبين شركائهم من المكونات الأخرى، وهذا الأمر ليس في مصلحة البلد.
– إن اعتماد هكذا أسلوب تفكير سوف يدفع معتنقه إلى إنكار الواقع السياسي الجديد القائم في العراق، وعرقلة مسيرة العملية السياسية، وترويج العقلية التآمرية في السلوك السياسي للنخب الحاكمة .
– كما سيقود هكذا خطأ سياسي إلى تأزم العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، وتحطيم جسور الثقة بينها، ومنع تعزيز التعايش السلمي والحوار المتبادل.
ثانيا: الحذر من الارتماء في أحضان الدول العربية:يشكل العراق امتدادا طبيعيا وثقافيا وحضاريا وبشريا لمحيطه العربي، وهو من الدول المؤسسة للجامعة العربية، ومن أكثر الدول العربية المؤثرة في الشرق الأوسط. هذه الحقائق لا يمكن إنكارها وتجاوزها أبدا، لكن من الجيد والمفيد عدم انسياق العرب السنة كثيرا وراء السياسة العربية على حساب المصلحة الوطنية العراقية أو تحت ذريعة استجلاب الدور السياسي العربي لدعم هذا الطرف أو ذاك؛ وذلك لأمور:
– إن السياسة العربية غير مأمونة الجانب، فهي لا تتمتع باستقلالية المبادرة والقرار وغالبا ما تكون عرضة لمؤثرات دولية تجعلها تتبدل بتبدل هذه المؤثرات ولو على حساب الأشقاء أو الحلفاء.
– لا توجد سياسة عربية واحدة وإن كانت تضم العرب جامعة واحدة، بل توجد سياسات عربية مختلفة ومتصارعة تقسِّم العالم العربي إلى محاور واستقطابات عدة لكل منها أهدافها وتحالفاتها الإقليمية والدولية الخاصة، وليس من مصلحة العراق أن يكون جزءا من هذه المحاور والاستقطابات.
– إن تجربة العراق التاريخية مع السياسة العربية لم تكن جيدة وجرَّت عليه كثيرا من المشاكل، بل وورطته في أخطاء استراتيجية لا تغتفر.
– ستنظر السياسات العربية بمحاورها واستقطاباتها المتنافرة إلى العراق على أنه ساحة صراع لتصفية خصوماتها على أرضه وتحقيق مكاسب على حساب شعبه وأمنه واستقراره، وهذا ما حصل بالفعل وقاد إلى انهيار الأوضاع في مناطق بعينها من العراق سيطرت عليها عصابات داعش وحلفائها الذين تلقوا دعما مباشرا من قوى عربية عدة.
– جميع الدول العربية المحيطة بالعراق تعرف أنه رقم صعب ولاعب فاعل لا يمكن إغفاله وإنكاره، وتجد في ظروف وهنه وضعفه بعد إخراجه من الكويت عام 1991 ومن ثم احتلاله من قبل الولايات المتحدة عام 2003 وما تلا هذا التاريخ من أحداث مؤسفة فرصة مناسبة لإبعاده عن دوره الريادي من خلال إغراقه في مشاكل وأزمات داخلية وخارجية لا تنتهي، لذا لن يكون تدخلها لمصلحة طرف عراقي ما إلا من أجل تحقيق هذا الهدف غير المعلن.
– أخيرا تمر الدول العربية في الوقت الحاضر بتحولات سياسية خطيرة بين اندفاعات شعبية غاضبة، وأنظمة سياسية مغضوب عليها، وقوى اجتماعية صاعدة نواياها ما زالت غير معروفة، ووجود مشروع دولي لإعادة التقسيم وخلق الأزمات الممزِقة لوحدة الشعوب.. ومثل هذه التحولات السياسية والمجتمعية تقتضي من صانع القرار العراقي عموما وصانع القرار السني العربي بشكل خاص أن يتصف بدرجة عالية من الحكمة والتأني في رسم صورة المستقبل القريب والبعيد لتبني المواقف الصحيحة المناسبة له.
تفعيل دور الكرد في حكم العراق
القول بأن الكرد يمكنهم الشعور بالأمان بعيدا عن العراق، ربما لا يمثل المصلحة الكردية العليا، فقد انهارت دفاعات الكرد بسرعة أمام تحدي عصابات مسلحة أرادت استباحتهم ، فكيف تصمد هذه الدفاعات أمام دول طامعة تزعزع استقرارهم؟، والأمن ليس الدافع الوحيد لربط الكرد بعراق واحد، بل إن المصلحة الاقتصادية تعد رابطا عظيم الأهمية، فضلا على الثقل السياسي في المحيط الإقليمي والدولي. ومن حق الكرد أن يساهموا بفاعلية في إدارة بلادهم كشركاء حقيقيين من خلال:
أولا: ترك الاندفاع السياسي وراء حلم كردستان الكبرى: كثيرا ما جرى الحديث في الأدبيات الكردية السياسية ومنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة وحتى الوقت الحاضر عن حلم إقامة دولة كردستان الكبرى التي تمتد قوميا لتضم كل الأكراد في العراق والدول المجاورة، والحديث عن هذا الحلم هو حق قومي لهم لا يمكن لومهم عليه، كما كان وما زال للعرب حلمهم القومي في قيام دولة عربية واحدة تشمل كل العرب في آسيا وشمال أفريقيا، لكن من الجيد أن لا يتجاوز الأمر حد الحلم والأمنيات إلى الادلجة السياسية في إطار مشروع سياسي؛ وذلك للأسباب الآتية:
– إن عصر الاندفاعات القومية قد ولى زمنه ودخل العالم منذ وقت طويل إلى عصر احترام واقع الدول كما هو عليه الآن، وليس من مصلحة الكرد في العراق العمل خارج إطار المتغيرات القائمة في الوضع الدولي والإقليمي القائــم.
– سوف يستجلب العمل السياسي في إطار هذا الموضوع نقمة وعداوة الدول الإقليمية التي فيها أقليات من القومية الكردية مما قد يزعزع الأمن والاستقرار في العراق بشكل عام وفي إقليم كردستان على وجه الخصوص، وخسارة جميع المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حققها أكراد العراق بعد وقت طويل من النضال والتضحيات.
– سينمّي الاندفاع السياسي وراء هذا المشروع الأفكار العنيفة والمتطرفة في الشارع السياسي الكردي من قبل قوميين كرد متطرفين يعميهم الجري وراء المشروع القومي عن حقائق الواقع الوطني والإقليمي وسيلحقون الأذى بأنفسهم وشركائهم في الوطن كما أعمت هذه الاندفاعات القومية من قبل إخوانهم من القوميين العرب.
– لا شك أن الإيمان السياسي بالوطن القومي الكردي سيقطع الصلة بين الكرد وغيرهم من مكونات الشعب العراقي؛ لأنهم لن يشعروا بالانتماء إلى هذا البلد، بل سوف يشعرون أن وجودهم في إطاره وجودا مؤقتا وغير دائم مما سينعكس على فاعلية دورهم في بنائه، وترسيخ عدم ثقة بقية المكونات بهم، وهكذا وضع سيترك نتائج لا تحمد عقباها على الجميع .
ثانيا: ترك التفكير بإمكانية الانفصال السياسي عن العراق:- ربما يعتقد بعض الساسة الكرد أنهم ليسوا في إطار التفكير في إقامة وطن قومي لهم يحقق حلم كردستان الكبرى، ولكنهم قد يفكرون جديا بالانفصال السياسي عن العراق وإقامة دولة مستقلة في حدود إقليم كردستان الإدارية، مستفيدين من العلاقات الجيدة مع عدد من الدول الكبرى، ومن إغراءات ووعود دول إقليمية معينة، وراغبين بالنأي بأنفسهم عن المشاكل والأزمات السياسية التي عانى وما زال يعاني منها النظام السياسي في العراق. لكن هذا التفكير سيكون خاطئا تماما وغير محسوب النتائج بدقة من معتنقيه على الرغم من السيناريو الايجابي الذي سيقدمونه به للرأي العام الكردي، وذلك للحقائق الآتية :
– إن النص الدستوري الذي اشتركوا في إعداده عام 2005، وواقع الأمور في الدول الفدرالية التي أصبح العراق واحدا منها لا يسمح لهم بمجرد التفكير بالانفصال عن العراق، وخرق هذه الحقائق لن يجر إلا الدمار والخراب والألم على الجميع، ولعل الحرب الأهلية الأمريكية 1863-1865 خير مثال على ذلك .
– سيواجه الكرد في حال إعلانهم الانفصال تدخلا سافرا ونقمة عارمة من كل من إيران وتركيا وسوريا وهي دول لديها أقليات كردية ولا تريد أن يكون أكراد العراق أنموذجا لهم في المطالبة بالانفصال، ولا يتوقع الكرد أن تتغير قناعات هذه الدول على الرغم من العلاقات الجيدة معها؛ لأن القضية قضية أمن قومي على أعلى درجات الخطورة.
– إذا عمل الكرد مع شركائهم الآخرين في الحكم وهم يحملون التفكير بعقلية الانفصال من شأن ذلك أن يهز ثقة شركائهم بهم مما سيقود إلى حالة من التوتر والتأزم في العلاقة بين الجانبين.
– سيؤثر هكذا نمط من التفكير على مستوى الولاء والانتماء الذي يحمله معتنقه للعراق؛ إذ سيفقـد حبه وانتماءه ورغبته في العمل كشريــك فاعـــــــل في بناء البـلــد.
– لا يستبعد أن يندفع بعض المعتنقين لهذا التفكير إلى أسلوب متطرف وعنيف من السلوك السياسي يضر به نفسه أولا وأبناء وطنه الآخرين ثانيا.
– يجب أن لا يطمئن الساسة الكرد إلى وعود بعض الأطراف الدولية والإقليمية للاندفاع وراء هكذا توجه، فهذه الأطراف لديها صراعاتها وتحدياتها وتحالفاتها في المنطقة ولا تستطيع عند نقطة معينة أن تضحي بمصالحها الخاصة لحساب مصلحة الكرد في العراق.
ثالثا: التحرر من معاناة عقدة المظلومية السياسية:- لا شك أن الكرد في العراق تعرضوا لكثير من الظلم والإقصاء والتهميش من قِبل أنظمة الحكم التي قامت في بغداد قبل عام 2003، شأنهم شأن مواطنيهم الشيعة العرب، وهذا الأمر شكل صدمات اجتماعية وسياسية تركت تأثيرها على العقل الجمعي والفردي والوضع النفسي لهم. لكن الوضع تغير بعد 9/4/2003 واستعادوا كثيرا من حقوقهم، وأصبحوا شركاء رئيسيين في حكم البلد، وعليهم الآن التحرر من عقدة المظلومية السياسية ووضع البرامج المناسبة لمعالجة الآثار الاجتماعية والسياسية التي تركتها عليهم معاناتهم في العهود السابقة، والاندفاع باتجاه تكييف وجودهم في إطار مجتمع عراقي معافى من العقد والأزمات السابقة، أما إذا لم يتحرروا من الشعور بعقدة المظلومية السياسية، فستكون لذلك انعكاسات سلبية عليهم تماثل تلك الانعكاسات التي ذكرناها آنفاً عند دعوتنا الساسة الشيعة إلى التحرر من عقدة المظلومية السياسية، لذا نكتفي بما قلناه هناك ولا حاجة إلى تكرار ذكره هنا مرة أخرى.
هدف الحكم في العراق
بعد أن تحددت في الفقرات السابقة المنطلقات المهمة التي لا بد أن يؤمن بها الساسة في العراق لإدارة بلدهم بصورة صحيحة ومأمونة واختيار المسار الذي يتقدمون عليه بخطوات ثابتة، لا بد الآن من توضيح الهدف الاستراتيجي النهائي الذي يجب أن يقودهم إليه المسار الذي اختاروه، فمن دون تحديد هذا الهدف لن تكون إدارتهم للحكم إلا عبثاً عديم الجدوى وسلوكاً سياسياً يثير الاشمئزاز والحَنَق. وحتى لا يقعوا في هذا الخطأ القاتل أو يتورطوا باختيار هدف غير صحيح يلحق الأذى والدمار بشعبهم، عليهم التركيز على هدف واضح، وغير مثالي، ويمكن الركون إليه، ألا وهو بناء دولة مدنية عراقية تتسع لكل أطياف ومكونات الشعب العراقي أساسها رابطة المواطنة والأخوة، تكفل للجميع الرفاه الاقتصادي والعيش الكريم والحقوق والحريات في الداخل، والاحترام والكرامة في الخارج، ويكون نظام الحكم فيها مستجيبا لرغبات وتوقعات وتطلعات المحكومين.
آليات الوصول إلى هذا الهدف
عند تحديد ساسة العراق لمنطلقات عملهم السياسي الصحيحة والهدف الاستراتيجي الذي ستؤول إليه إدارتهم لبلدهم، بقي عليهم أن يختاروا الآليات المناسبة التي تمكنهم من تحقيق هذا الهدف، وهذه الآليات يمكن ترتيبها حسب الأهمية بالشكل الآتي:
أولا: اعتماد البعد الأخلاقي للسياسة:-ينظر المهتمون بالسياسة إليها من منظارين مختلفين: الأول يعدها فن الحيلة والخداع والمكر للهيمنة والاستيلاء على السلطة من قبل فرد أو جماعة ما وفقا للمبادئ الميكافيلية التي محورها الغاية تبرر الوسيلة، فتصبح الأخلاق والقيم وحياة الناس ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم أدوات يتلاعب بها السياسي للوصول إلى غايته، وتكون المقياس على نجاحه وأهليته. أما المنظار الآخر فيفهم السياسة على أنها علم وفن إدارة الدولة هدفها النهائي خدمة الناس وتحقيق مصالحهم وضمان حقوقهم وحرياتهم، وهكذا فهم للسياسة ينسجم مع تعريفها الإسلامي الذي يقول: السياسة هي تدبير شؤون الأمة ورعاية مصالحها بما يصلحها، فالإصلاح بين الناس من خلال الحكم يمثل بوصلة عمل السياسي ومقياس نجاحه في دوره المناط به، ولخطورة تأثير السياسة في حياة المجتمعات عدها الأقدمون تاج العلوم. وقد عانى العراقيون على مر تاريخهم من سياسيين يفهمون ويمارسون السياسة بمنظارها الأول، ونتائج أعمالهم معروفة للجميع، فإذا أراد ساسة العراق بعد عام 2003 على اختلاف مشاربهم تحقيق هدف بناء الدولة المدنية الحقيقية، فإن عليهم الأخذ بالمنظار الثاني للسياسة؛ لأنه يشكل المعيار الأخلاقي الضابط لعملهم والمحفز على البناء والتقدم.
ثانيا: العدل والعدالة الاجتماعية:- لا يمكن قيام نظام حكم صالح من دون التركيز على مبدأي العدل والعدالة الاجتماعية: فالعدل يخلق الشعور بالمساواة الحقيقية بين الناس بصرف النظر عن قوتهم أو ضعفهم، غناهم أو فقرهم، علمهم أو جهلهم .. مما يولد الاطمئنان بينهم من خلال قناعتهم بعدم وقوع الظلم عليهم كون القانون كفيل بمنع ذلك من خلال نظرته المتساوية العادلة للجميع، ولأهمية العدل في الحكم نجد أن ذلك الملك الذي سأل فلاسفة عصره عن أيهما أسبق العدل أم الشجاعة، أجابوه بالقول: أيها الملك إذا استُعمل العدل استُغني عن الشجاعة، أما رسول الإنسانية صلى الله عليه وآله فقد جعل غياب العدل قاعدة لهلاك الأمم عندما قال: إنما أُهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. نعم إذا ساد العدل بين العراقيين سيجد الساسة أن كثيرا من نفقات الدولة على القوى الأمنية والعسكرية لم يعد هناك حاجة إليها، وأن كثيرا من الجرائم ستنخفض ولن تعود هناك حاجة أيضا إلى كم كبير من القوانين المسطرة في قانون العقوبات العراقي النافذ، لذا قال القدماء عن العدل بأنه أساس الملك. أما مبدأ العدالة الاجتماعية فلا تقل أهميته عن العدل في النتائج الإيجابية التي سيتركها بين الناس، ولاسيما في مجال توزيع الدخل والثروة؛ لأن العدالة في حالة شيوعها سوف تنتج ثقة وقناعة عالية من المجتمع بنظامه السياسي ككل، ونظام حكمه بشكل خاص، وستضيق الفجوة الهائلة بين الحكام والمحكومين في بلد كان وما زال يشكو أفراده من اتساع هذه الفجوة، وسيندفع الناس نحو البناء والعمل بثقة وجدية وفاعلية بدلا من مشاعر الإحباط واللامبالاة والكسل والحنق التي تسودهم؛ لإحساسهم بعدم العدالة والظلم الذي يتعرضون له من أنظمة حكم لم تفعل شيئا يذكر لمعالجة هذا الإحساس ورفع أسبابه، ومن دون اعتماد هذين المبدأين فإنه لا جدوى من عمل السياسيين وشعاراتهم المتعلقة ببناء الدولة المدنية؛ لأنهم سينحرفون عن هذا الهدف حتما ولن يصلوا إليه قطعا.
ثالثا: رجال دولة لا رجال سلطة:- يختلف رجل السلطة عن رجل الدولة بكافة المقاييس، فغالبا ما تتقدم لدى رجل السلطة المصلحة الخاصة: الشخصية، الفئوية، الحزبية، الطائفية.. على المصلحة العامة لعموم الشعب، ويكون في بعض الأحيان متعثرا في أداء عمله ويفتقر إلى المهارة المطلوبة، وتستحوذ عليه عقلية التآمر والتسقيط والصراع، ويغرق المجتمع في دوامة من الفوضى والإرباك واللايقين، ويوظف مؤسسات الدولة العامة: الجيش، الشرطة، الإعلام، المال العام .. لمصلحته بدلا من وظيفتها الطبيعية لمصلحة الناس.. أما رجل الدولة فهو يمثل مستوى أرقى في العمل السياسي يتجاوز كل سيئات رجل السلطة ويوظف أحكام وقواعد ومبادئ السياسة بمهارة وفاعلية لتحقيق غرض الخدمة العامة التي يقوم بها. إن رجل الدولة موظف من طراز خاص عالي الكفاءة، والفرق بينه وبين رجل السلطة كالفرق بين موظف مبتدأ كثير الأخطاء والمشاكل وموظف لديه خدمة طويلة عرف خلالها كل خفايا وأغراض ومتطلبات وظيفته، وأهم ما يميز رجل الدولة شعوره بأنه يؤدي وظيفة عامة يخدم من خلالها شعبه لمدة معينة يعود بعدها ليكون فردا اعتياديا بين مواطنيه. ونحن في العراق نحتاج من أجل كفاءة إدارة السلطة وتحقيق أهدافها إلى مثل هكذا رجال ولا نحتاج إلى هواة جهلة بمتطلبات عملهم، يلحقون الأذى بشعبهم لضمان مصلحتهم الخاصة.
رابعا: اعتماد مبدأ الكفاءة في الإدارة :- عندما سُئل الحكيم الساساني (بزر جمهر) عن سبب سقوط الإمبراطورية الساسانية أجاب بالقول: لأنهم استخدموا صغار الرجال في عظام الأمور، وهذه الإجابة هي إشارة مباشرة إلى تلك النصيحة التي نسمعها دوما وهي (لا تضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب)، والدول المعاصرة بما تنطوي عليه من تشابك وتعقيد في وظائفها الإدارية هي أحوج ما تكون إلى قيادات إدارية قادرة على فهم دورها، والنهوض بأعباء مسؤولياتها، وتفعيل إداراتها لتكون إدارات منتجة ذات قدرة تنافسية عالية. ولكي ينجح صناع القرار في العراق ويضمنون وصول العملية السياسية إلى تحقيق أهدافها عليهم الإيمان بهذه الحقيقة، فلا يُغلِّبون الولاء والمحسوبية والمنسوبية على الكفاءة بأي حال من الأحوال؛ لأنهم في حال قيامهم بذلك إنما يحكمون على أنفسهم وأحزابهم وقواهم السياسية بالفشل، بسبب وجود أشخاص محسوبين عليهم على رأس إدارات لا يعرفون كيف يوفرون النجاح لها، وهذا الخطأ القاتل هو الذي أدى إلى الانهيار المريع أمام عصابات داعش في العام الماضي، وأوجد مؤسسات حكومية مترهلة لا تعمل بكفاءة.. لذا من المهم جدا جعل الكفاءة معيارا لتولي المناصب الإدارية، فمن خلال هذا المعيار يمكن ضمان وصول آمن إلى أهداف النظام، وجعل إدارة السلطة في البلد رشيقة وفاعلة. وإذا كانت كل مستويات الإدارة بحاجة إلى هذا الأمر، فإن تلك المستويات ذات الطبيعة المهنية كالتعليم والقضاء والمالية والدفاع والداخلية والخارجية هي أحوج ما تكون إلى ذلك؛ لأن الفشل فيها لا يغتفر ولا يمكن إصلاحه بسهولة، وله تأثيرات آنية ومستقبلية خطيرة جدا.
خامسا: بناء الإنسان قبل بناء العمران:- مثلت العهود الاستبدادية السابقة، والأعمال الإرهابية الفظيعة، والعنف الطائفي المفزع في العراق صدمات اجتماعية عنيفة تركت تأثيرها الخطير على سيكولوجية الإنسان العراقي، فهو إنسان معقد، مأزوم، وخائف، وغير مطمئن للمستقبل، وغير واثق من الآخر، وهو بكل المقاييس إنسان محطم الذات، ولا يمكن لومه على حاله هذه فما تعرض له عبر تاريخه البعيد والقريب لا يمكن احتماله أبدا. إن هذا الواقع الاجتماعي العراقي يجب إدراكه بحكمة وتفهم من قبل الساسة في البلد وهم يتوجهون لبناء الدولة على أسس جديدة؛ لأن مجتمعهم يحتاج فعلا إلى إعادة تأهيل ليتجاوز مشاكله النفسية العميقة، من خلال برامج اجتماعية مناسبة يتم فيها الاستعانة بكل الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال، وخطاب سياسي جديد مغاير لما كان يسمعه الشارع من خطابات في العهود السابقة، وجعل كل إمكانات الدولة المادية تصب في تحقيق هذا الهدف الذي يجب إعطاؤه الأولوية على البناء العمراني، فمهما ارتفع العمران وزادت مظاهره لن تكون له قيمة إذا كان ساكنه غير مؤهل نفسيا له، ولنأخذ عبرة من حقائق الحضارة المعاصرة التي بات فيها الاستثمار في تنمية الموارد البشرية أكثر فائدة وإنتاجية من الاستثمار في الموارد المادية، إذ كما يقال وفقا لمبادئ هذه الحضارة إن إنسان جيد وكفوء واحد قادر على إنجاز ما لا يستطيعه ألف إنسان غير كفوء. إن تأهيل الإنسان العراقي وإعادته إلى إطاره السيكولوجي الإنساني الصحيح هو الضمانة الوحيدة لعلو العمران وتحسين مظاهره ودوام الحفاظ عليه وما عدا ذلك من أفكار ورؤى غير صالحة البتة ولا يرتجى منها شيء، وهنا يتطلب الأمر من صانع القرار الالتفات الى أهمية عناصر القوة الناعمة التي يرسخها الفن والإعلام والتربية والتعليم وعلم النفس وعلم الاجتماع.. فيوظفها من خلال خطة استراتيجية مدروسة تصل في النهاية الى تحقيق هدف بناء الإنسان العراقي.
سادسا: الإيمان بمرجعية النص الدستوري:- عندما يتولى القادة السياسيون إدارة الدولة، فإنهم يستلهمون مبادئهم، وينظمون العلاقات المتبادلة فيما بينهم وبينهم وبين شعوبهم، ويحددون شكل الحكم القائم، ومن ثم الحكم على مقدار نجاحهم وفشلهم من خلال واحدة من مرجعيتين: الأولى هي المرجعية الثورية إذا تأسس نظام الحكم الجديد بواسطة ثورة تطيح بالنظام السابق حيث تصبح المبادئ الثورية التي حملها الثوار قبل وبعد توليهم السلطة هي المرجعية الأساس والمرشد الوحيد لقناعاتهم ورؤاهم وممارساتهم. والمرجعية الأخرى هي المرجعية الدستورية إذا لم يكن العمل الثوري أساس قيام نظام الحكم، إذ تصبح عندها نصوص الدستور النافذ نصوصا مقدسة يحتكم إليها الساسة والأفراد، ويجعلونها المرتكز في مطالبتهم بحقوقهم أو دفاعهم عنها، والمرشد لتخطيط حاضر الدولة ومستقبلها، وتحديد نمط المؤسسات السائدة والعلاقة المتبادلة بينها. وطالما أن العملية السياسية الجارية في العراق منذ عام 2003 لا يمكن أن تستمد وجودها من المرجعية الثورية، عليه لم يبقَ أمام ساسة البلد إلا جعل المرجعية الدستورية المبنية على دستور عام 2005 الأساس الوحيد لبناء الدولة وتنظيم القوانين والأنظمة والتعليمات السائدة فيها، بل والفيصل النهائي للحكم على مشروعية خلافاتهم ومطالباتهم، وتحديد إدارتهم لمؤسسات الدولة وتنظيم العلاقة بينها، فما قاله الدستور فعلوه والعكس صحيح، كما يجب تطبيق نصوص الدستور بالكامل وتجنب الانتقائية في الأخذ بها أو تعمد خرقها؛ لأن الدستور بُني بإرادة شعبية سواء من خلال جمعيته التأسيسية المنتخبة أو من خلال القبول الشعبي العام به في الاستفتاء الذي جرى لهذا الغرض. أما إذا حاول الساسة نسف المرجعية الدستورية فإنهم حقيقة ينسفون العملية السياسية برمتها، وينسفون مشروعية وشرعية وجودهم السياسي، ويعرضون البلاد والمواطنين إلى دوامة من الفوضى والارتباك لا يمكن التنبؤ بعواقبها، ولن يتمكنوا من تحقيق تطلعات وطموحات الشعب في قيام دولة مدنية صالحة، وإذا كان لدى البعض من الساسة أو الأفراد والجماعات اعتراض أو رفض لبعض النصوص الدستورية، فإن عليه أن يؤسس اعتراضه هذا على أساس النص الدستوري مستخدما آلياته للوصول إلى مبتغاه.
سابعا: ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي:- إن الأنظمة السابقة التي حكمت العراق لم تترك تأثيرها السلبي فقط من خلال الخراب والدمار للبنية التحتية، والتعذيب والقتل لأبناء الشعب، والدخول في مغامرات عسكرية خاسرة.. بل إن من أكثر التأثيرات خطورة لهذه العهود هو ما تركته من شرخ كبير في النسيج الاجتماعي العراقي، وطبيعة العلاقة المتبادلة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، حتى باتت هذه العلاقة يشوبها كثير من التأزم والتنافر والشك وعدم الثقة مما انعكس على طبيعة الاندفاعات السياسية لديها. وللخروج من هذا الواقع الاجتماعي غير الصحي، وجعل التنوع بين مكونات الشعب العراقي عامل إثراء وقوة للفعل السياسي لابد من العمل المخلص والدؤوب من قبل النخب السياسية الممثلة لهذه المكونات لترسيخ وتعزيز مبدأ التعايش السلمي وخلق منظومة قيم معتدلة تكون بديلا للمنظومة الحالية المتأزمة في كثير من مفاصلها، وقد أثبتت السوابق التاريخية في البلدان التي عاشت مثل تجربة الشعب العراقي أنه من دون ترسيخ مبدأ التعايش السلمي لن يكون هناك استقرار سياسي أو أمني، ولن يكون هناك نهوض اقتصادي ومجتمعي، كما لا يمكن لطرف ما عد نفسه رابحا وغيره خاسر بل إن جميع الأطراف ستكون خاسرة في لعبة شد القوى بين الطوائف والقوميات المتنازعة. علما أن التحول من ثقافة الصراع الى ثقافة التعايش لا يتم بجرة قلم، بل يحتاج الى صبر وجهود مضنية قد تستغرق أكثر من عقدين من الزمن، مع تجنب ارتكاب الأفعال المضرة التي يمكن أن تعيد العلاقة بين الأفراد الى المربع الأول أو تقود إلى زيادة الشرخ والنفور والكراهية المتبادلة.
ثامنا: معالجة الفساد الإداري والمالي بحزم وقوة:- يعد الفساد الإداري والمالي آفة العصر والسوسة التي تنخر جسد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدول كافة، وقد عانى العراق منه كثيرا قبل عام 2003، ولا غرابة في ذلك، فأنظمة الحكم كانت استبدادية والحكام أغلبهم جهلة بمتطلبات الإدارة السديدة وتستشري بينهم الولاءات الضيقة على حساب الولاء للوطن والمواطن، فضلا على اعتبارات المحسوبية والمنسوبية والاستهانة بالمال العام.. التي أنتجت إدارات هزيلة غير نزيهة تزخر بالفاسدين والمفسدين ومحط سخرية وتذمر الرأي العام العراقي. لكن استمرار وجود الفساد وتنامي معدلاته بعد التاريخ أعلاه يعد مشكلة حقيقية لا بد من تلافيها؛ لأن بناء دولة مدنية صالحة في العراق يتطلب ابتداءً معالجة مشكلة الفساد الإداري والمالي؛ إذ مهما كانت القيادات السياسية جيدة وحسنة النية وراغبة في الإصلاح، فإنها لن تنجح في مهمتها من دون وجود إدارة تنعدم فيها مظاهر الفساد أو تقل إلى حدودها الدنيا، فالفساد يشوّه الإدارة، ويتلف المال العام، ويعطل مشاريع التنمية، ويضيع حقوق الناس، وينتقص من سمعة الدولة – داخليا وخارجيا – ويفرّخ المتملقين والانتهازيين والخونة .. لذا لا بد من وقفة حازمة بوجهه من قبل صناع القرار من خلال تفعيل آليات المراقبة، والمحاسبة، والتنظيم القانوني الرادع، والاختيار الصحيح للكفاءات النزيهة والقوية ووضعها في موضع المسؤولية.
تاسعا: التوازن في علاقات العراق الدولية والإقليمية:-إن المنطقة والعالم تقف على مفترق طرق تاريخي خطير ومهم جدا لا يمكن توقع ما سيؤول إليه من نتائج سواء على مستوى التحالفات والصراعات أو على مستوى توجهات القوى الاجتماعية والسياسية الصاعدة، وإذا كان مبدأ التوازن حسن للدولة في علاقتها مع الآخرين في الظروف الطبيعية، فما بالك عندما تكون هذه الظروف استثنائية وشديدة التعقيد. إذن يجب على صناع القرار في العراق أن يكونوا على مستوى الأحداث ولا يتورطوا في تداعيات التقلبات الدولية والإقليمية، ولا يكونوا طرفا في سياسة المحاور والاستقطابات السائدة في الوقت الحاضر؛ لأن العراق في مرحلة بناء تحتاج توفير معظم جهوده لها أولا، وقدراته ضعيفة وغير متكاملة وغير متناسقة مما يجعله من بين الأطراف الأضعف في التوازنات القائمة ثانيا، ولا يريد أن يكون ساحة تصفية للصراعات الدولية والإقليمية ثالثا، كما لم تكن تجاربه السابقة مع هكذا توازنات وتحالفات متصارعة ذات مردود ايجابي عليه رابعا. إن اعتماد مبدأ التوازن يتطلب اعتماد خطاب سياسي عراقي خارجي واحد، وخطاب سياسي داخلي متناغم، فالعراق يتواجد في بيئة شد وجذب شديدة التعقيد ومن دون هكذا خطاب سيكون أمنه الداخلي مُخترَقا مما سينعكس سلبا على استقراره السياسي، وتعطيل توجهه نحو بناء دولة المواطنة.
عاشرا: تحديد ثوابت للسياسة الخارجية العراقية:- لا يمكن أن تكون سياسة العراق الخارجية بلا ثوابت تحدد بوصلتها، فهذا سيوقع صانع القرار الخارجي في فوضى وارتباك يعجز فيه عن تحديد معسكر الاعداء والحلفاء، ويضعف عن تحقيق الفاعلية والتأثير في محيطه، والثوابت غالبا ما تحددها الفلسفة السياسية العامة للنظام السياسي، إذ يتطلب الحال أن تكون فلسفة النظام واضحة، لتكون ثوابته واضحة، ولتنطلق سياسته الخارجية من هذه الثوابت لبناء علاقاتها الخارجية.
خلاصة القول
يتضح من خلال ما تقدم أن إدارة السلطة في العراق ليست أمرا سهلا بحيث يمكن تركه للصدفة والمغامرات السياسية الطائشة وغير الواعية، بل هو عملية معقدة وصعبة وكثيرة التحديات والمخاطر، تحتاج أن يتصف الساسة فيها بمستوى عال من الوعي الاستراتيجي الذي يؤهلهم إلى أن يكونوا رجال المرحلة لقيادة شعبهم إلى شاطئ السلم والأمان والرفاهية من خلال بناء الدولة المدنية التي تحتوي كل أطياف الشعب، وتضمن تحقيق كل طموحات وأحلام أبنائه. ويمكن القول: إن أفضل الرجال ليسوا أولئك الذين يكتنزون الأموال أو يستحوذون على السلطان، أو يقودون الجيوش والأعوان، بل إن أفضلهم هم أولئك الذين يديرون الحكم في بلدانهم بحكمة ومعرفة ومهارة تسمح ببناء نظام سياسي صالح يحقق السعادة للشعب ويستمر في الوجود طويلا بعدهم.