الكاتب: مايكل آيزنشتات
عرض وتلخيص: ميثاق مناحي
إن الانتصار على تنظيم “داعش” يستلزم قيام العراق والتحالف الدولي بالتحرك استناداً إلى تقييم نقاط القوة والضعف، يتسم بفطنة مماثلة.
ومن أجل انتصارها على تنظيم “داعش”، يتعين على قوات الأمن العراقية أن تغير فكرة أنها تخدم أجندة سياسية طائفية.ويتعين على المستشارين الأمريكيين أن يحثوا نظراءهم في قوى الأمن العراقية على الصبر وتحيّن الفرصة القادمة من خلال التخطيط والاستعداد بشكل مكثف للعمليات المقبلة. وفي الوقت نفسه، ينبغي عليهم أن يعملوا على إعادة ثقة قوى الأمن العراقية من خلال سلسلة من الانتصارات الصغيرة تمهيداً لشنّ هجمات لاحقة أكثر طموحاً.
يرى مايكل آيزنشتات أنه (من المتوقع) أن تحظى الجهود التي يبذلها التحالف الدولي لإعادة بناء قوات الأمن العراقية والحفاظ عليها باحتمالات أفضل للنجاح إذا حث المستشارون الأمريكيون نظراءهم على الاتعاظ من دروس الجيوش العربية الأخرى التي مُنيت بالهزيمة، وتعلمت من فشلها، لتتغلب في النهاية على أعدائها. فهذه الجيوش – الجيش المصري في حرب 1973 ضد إسرائيل، والجيش العراقي في المراحل الأخيرة من حرب 1980-1988 مع إيران، وحتى الأطراف الفاعلة الهجينة أمثال تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”) حققت النجاح من خلال بلورة أساليب للالتفاف على العيوب المستمرة التي أظهرتها الجيوش العربية التقليدية ومن خلال تكييف المفاهيم والممارسات الأجنبية مع احتياجاتها المحددة. وتشكّل الدروس الآتية أهمية خاصة لقوات الأمن العراقية في مواجهتها مع “داعش”:
اعرف عدوك، اعرف نفسك
يشكّل التقييم الدقيق لقدرات وقيود المرء الشخصية ولتلك الخاصة بالعدو خطوة أساسية لبلورة استراتيجية نجاح قابلة للتطبيق. فقد وضعت القاهرة الخطة الأصلية لحرب 1973 بالتعاون مع السوفييت بصورة عكست عقيدتهم العسكرية، فقد كان من المقرر القيام بعملية لاختراق التحصينات بعد عبور قناة السويس واستغلال الثغرة الناتجة عن ذلك لاستعادة السيطرة على شبه جزيرة سيناء بأكملها. لكن المصريين عدوا هذه الخطة في النهاية غير واقعية وقرروا التخلي عنها.
أما الخطة التي نفّذتها مصر في نهاية المطاف فقد وُضعت دون مساهمة سوفيتية، وجسدت مقاربة حرب محدودة استغلت نقاط ضعف العدو الإسرائيلي وأبطلت نقاط قوته. وعلى وجه التحديد، انطوت على شن هجوم منظّم ومطبّق بدقة للاستحواذ على موقع للتقدم يلعب دور رأس جسر في الجانب الأقصى من القناة وتكبيد تكاليف باهظة لدحر القوات الإسرائيلية التي تردّ الهجوم (مستغلةً ضعف هذه القوات من جراء وقوع إصابات في صفوفها). كما استخدمت الخطة الأنظمة المضادة للدبابات وأنظمة الدفاع الجوي بطريقة مبتكرة لشلّ نقاط قوة إسرائيل الأساسية وهي: المدرعات والقوة الجوية. وكان هدف العملية، فضلا على استعادة الشرف المصري، هو تقويض الافتراض الإسرائيلي بإمكانية الحفاظ على الوضع الإقليمي القائم وتمكين القاهرة من استعادة شبه جزيرة سيناء من خلال المساعي الدبلوماسية التي تأتي في أعقاب الحرب. وفي الواقع سار هذا المنهج إلى حد كبير وفق المخطط له.
لذلك، فإن الانتصار على تنظيم “داعش” يستلزم قيام العراق والتحالف الدولي بالتحرك استناداً إلى تقييم نقاط القوة والضعف، يتسم بفطنة مماثلة. على سبيل المثال، بإمكانهم أن ينفذوا ما يأتي: القيام بعمليات تستدعي توسيع انتشار قوات “داعش” إلى حد الإفراط والإجهاد، الأمر الذي يجعل التنظيم عرضة لاندلاع انتفاضات داخلية واعتداءات خارجية؛ تشجيع السكان الذين أصبحوا يشعرون بالانزعاج من حكم هذه الجماعة على الانقلاب ضدها؛ إحداث صدع في صورة القوة التي لا تقهر التي تلف التنظيم من خلال سلسلة من الانتصارات التي تحرزها قوات التحالف، وخلق الانطباع بأن أيام التنظيم باتت معدودة.
بلورة سياسةٍ ملائمة
إذا كانت السياسة والعلاقات المدنية – العسكرية تتضارب مع متطلبات الحملة العسكرية، فعندئذ تقل فرص النجاح. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على عمليات مكافحة التمرد، التي تمثل بالدرجة الأولى شكلاً سياسياً من أشكال الحرب.
عندما واجه صدام حسين احتمال الهزيمة بعد خسارته شبه جزيرة الفاو خلال الحرب مع إيران في شباط/فبراير 1986، أذعن لطلب جنرالاته بشن عمليات هجومية محدودة بدلاً من الالتزام بالاستراتيجية الدفاعية الثابتة القائمة على الاستنزاف والتي اتبعها العراق منذ انسحابه من إيران عام 1982. كما منح قادته العسكريين أيضاً قدرة أكبر في التحكم بالعمليات ليسرّع بذلك من المنحى الذي سبق أن بدأ بإلغاء الطابع السياسي للقوات العسكرية وترقية الضباط بناءً على الاستحقاق وإعطاء القادة/[آمري الفصائل] حرية أكبر للتصرف. ونتيجةً لذلك خطرت لهيئة الأركان مقاربة عراقية فريدة تضمنت شن هجمات منظمة ومطبّقة بدقة ومفصلة تفصيلاً مكثفاً بحيث مهّدت الطريق في النهاية لاستعادة الأراضي التي خسرتها.
لذا فمن أجل انتصارها على تنظيم “داعش”، يتعين على قوات الأمن العراقية أن تزعزع الفكرة بأنها تخدم أجندة سياسية طائفية. ومن المرجح أن يكون من الصعب إنجاز ذلك، نظراً إلى الدرجة التي يُعد فيها العديد من السياسيين العراقيين البارزين عناصر طائفية لم تتراجع عن مواقفها السابقة، وإلى الدور الرئيس الذي تلعبه الميليشيات الشيعية في الحملة على “داعش”، ومدى النفوذ الإيراني في بغداد.
لا تحاولوا استنساخ الجيش الأمريكي
لا يجدر بالجيش الأمريكي أن يحاول تشكيل قوات الأمن العراقية على صورته – أي قوة قادرة على تطبيق الأوامر الصادرة [من المسؤولين] بتنفيذ مهام محددة، وعلى العمل دون توجيه أو بقدر ضئيل منه، وعلى الارتجال متى دعت الحاجة لذلك بناءً على التطورات في ساحة المعركة. وعوضاً عن ذلك، يجب على الجيش أن يدرب قوات الأمن العراقية على خوض المعارك بطريقة تتناسب مع تفضيلاتها الثقافية ومتطلباتها العملياتية.
وفي أطروحة الدكتوراه التي كتبها كينيث بولاك تحت عنوان “تأثير الثقافة العربية على الفعالية العسكرية العربية” (“معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” 1996)، أشار إلى أن الجيوش العربية التقليدية غالباً ما فشلت في حرب المناورات لأن القادة التكتيكيين افتقروا إلى المرونة، ولم يأخذوا المبادرات، ولم يكونوا مستعدين للتبليغ عن الأخبار السيئة. وهذه ميول مترسخة في نواحي الثقافة العربية، وعلى الأخص احترام عادات وسلطة الجماعة/العشيرة، والتركيز على التعلم عن ظهر قلب والتمسك بـ “الحلول الملقّنة” عوضاً عن تنمية مهارات التفكير الناقد، والاهتمام بحفظ ماء الوجه، الأمر الذي يؤدي إلى التكتم عن وقائع غير مستساغة.
وقد توصّل كل من العراق ومصر إلى حلول مماثلة لهذه المشاكل خلال حربيهما مع إيران وإسرائيل على التوالي. فكما ذُكر أعلاه، نفّذ كلاهما عمليات منظمة بشدة ومطبّقة بدقة مبنية بشكل مكثف على خطط مفصّلة، ألغت الحاجة إلى أخذ المبادرات أو الارتجال أو تنسيق الجمع بين الأسلحة. كما أجريا تمرينات شاملة على نماذج مفصلة عن الأهداف. وقد أُلقيت على كل جندي مهمة واحدة تعلّم تأديتها عن ظهر قلب. وبذلك تدربت القوات المصرية على عبور قناة السويس خمسة وثلاثين مرة قبل اندلاع الحرب. وقد اتكلت مصر على استخبارات الإشارات المستمدة من الاتصالات الإسرائيلية التكتيكية من أجل تقييم دقة التقارير عن الأوضاع التي كانت تقدمها قواتها الخاصة. أما العراق فتمكّن بدوره من استعادة الأراضي التي خسرها خلال المراحل النهائية من حربه مع إيران بفضل عدد من العوامل وهي: التحسينات المتواضعة في الأداء التكتيكي بفعل التخطيط الدقيق والتفصيل المكثف، وكثافة نيران المدفعية التقليدية والكيميائية، فضلاً عن التفوق العددي الكبير عند لحظات القرار. وقد أدّت هذه العوامل، مقترنةً بالقصف المكثف على الأهداف المدنية والاقتصادية في إيران، على إجبار طهران أخيراً على القبول بوقف إطلاق النار.
ومن هذا المنطلق، يجب أن يركز التدريب الأمريكي لقوى الأمن العراقية على العمليات المنظمة تنظيماً عالياً والمطبّقة بدقة والتي يتم التخطيط لها بعناية وتفصيلها بشكل كبير، وعلى التمرينات المكثفة التي تتضمن تكرار كيفية تنفيذ الأدوار الخاصة بالمهمة لحفظها عن ظهر قلب، والاتكال على الأعداد والحشود والقوة النارية الكاسحة لهزيمة العدو. لكن ذلك لا ينفي احتمال اللجوء إلى عمليات استغلال أو ملاحقة مرتجلة ومندفعة حين يختل توازن قوات تنظيم “داعش” أو تتشتت. ومع ذلك، فبشكل عام، تعيق نقطة ضعف العمليات المنصوصة، القدرة على الارتجال عندما تستدعي أعمال العدو ذلك. لذلك، يجب على قوات التحالف أن تقدم الدعم لمساندة عمليات قوى الأمن العراقية وتفادي انحرافها عن مسارها.
أما فيما يتعلق بمشكلة التبليغ غير الدقيق من قبل قوى الأمن العراقية، فيجب على المخططين العسكريين الأمريكيين أن يفكروا في استخدام استخبارات الإشارات الصادرة عن اتصالات “داعش” كمصدر بديل للمعلومات المتعلقة بأداء قوى الأمن العراقية. وفي النهاية لا يجدر بواشنطن أن تستبعد إمكانية تشكيل عدد صغير من وحدات هذه القوى التي تتحلى بقدرات أكبر وتستطيع المحاربة على نمط الوحدات الأمريكية، لأن بعض وحدات قوى الأمن العراقية – على غرار “قوات العمليات الخاصة” العراقية – أثبتت قدرتها على القيام ذلك.
تحلّوا بالصبر واستندوا على الانتصارات الصغيرة
احتاجت القوات المسلحة المصرية عدة سنوات لإعادة بناء نفسها بعد الهزيمة التي منيت بها في حرب عام 1967، فانهمكت في التخطيط والتمرين المكثفين لمدة عام قبل عبور قناة السويس. وعلى النحو نفسه، أمضى الجيش العراقي عامين في التخطيط والتدريب للهجمات النهائية التي حددت مصير الحرب مع إيران. وكذلك أمضى تنظيم “داعش” سنوات في تحضير ظروف معركته في غرب وشمال العراق قبل أن يشن هجماته الناجحة في كانون الأول/ديسمبر 2013 وحزيران/يونيو 2014، على التوالي.
ونظراً لهذه السوابق، يتعين على المستشارين الأمريكيين أن يحثوا نظراءهم في قوى الأمن العراقية على الصبر وتحيّن الفرصة القادمة من خلال التخطيط والاستعداد بشكل مكثف للعمليات المقبلة. وفي الوقت نفسه، ينبغي عليهم أن يعملوا على إعادة ثقة قوى الأمن العراقية من خلال سلسلة من الانتصارات الصغيرة تمهيداً لشن هجمات لاحقة أكثر طموحاً. لكن من المرجح أن تطالب القيادات السياسية في العراق بعملية كبيرة قبل أن تصبح قوى الأمن جاهزة، لربما في الموصل: وهنا يجدر بالقادة الأمريكيين أن يتصدوا لها. فالتحضير الجيد والمتقن لضمان النجاح أفضل من التسرع نحو الخسارة.
ومن الممكن أيضاً أن تطمع حكومة بغداد باحتمال تحقيق انتصارات سريعة، والتي يبدو أن الحشد الشعبي تحققها. فقد يكون هذا الخيار مغرياً لأنه يؤمّن على ما يبدو حلاًّ سريعاً لإصلاح الأمور ويلغي الحاجة إلى أخذ سنّة العراق بعين الاعتبار. ولكن نظراً لاعتماده على التكتيكات الوحشية كالتطهير العرقي، من المستبعد أن يشكل أساساً لسلام مستدام.
تحديات القتال في المناطق المدنية
ستنطوي جهود استعادة شمال وغرب العراق على نسبة ملحوظة من القتال في المناطق الحضرية حتماً ولا محالة، لأن معظم سكان الأراضي الخاضعة لسيطرة “داعش” يعيشون في المدن كالفلوجة وتكريت والموصل. لكن المعارك في المدن تطرح تحديات جمة حتى لأفضل الجيوش، ناهيك عن قوة متعثرة مثل قوى الأمن العراقية؟ فهي تتطلب نسبة كبيرة من القوة البشرية والعتاد، كما أنها تتسبب بتجزئة ساحة المعركة عبر عرقلة الاتصال المرئي واللاسلكي. ويعدّ هذا الأمر نقطة ضعف لقوات مثل قوى الأمن العراقية التي تجد صعوبة في اتخاذ المبادرات أو العمل بطريقة لامركزية.
فضلاً على ذلك، فبينما سبق وأن هرب العديد من السكان من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم “داعش”، ما تزال الحرب في المدن تحمل إمكانية سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين وإلحاق ضرر هائل بالبنى التحتية، الأمر الذي قد يعقّد الجهود لكسب الدعم الشعبي السني ضد “داعش”. لهذا السبب سيكون من الأفضل تفادي معركة تسفر عن تدمير مدن كبرى مثل الموصل. وعوضاً عن ذلك، يجدر بقوى الأمن العراقية أن تحاول استعادة المناطق المدنية عبر اتباع مزيج من العمليات النفسية والانتفاضات المدنية لتزعزع بذلك دفاعات تنظيم “داعش” وتقسّم قوات التنظيم إلى جماعات مقاومة صغيرة يمكن التغلب عليها بقوة نارية مكثفة.
إن الكيفية التي ستتعاطى بها حكومة بغداد مع مساعي استعادة المناطق الحضرية الخاضعة لسيطرة “داعش” ستترك وقعاً كبيراً على مستقبل البلاد. ولكن النصر العسكري وحده لن يكون كافياً، ففي غياب أي مسعىً ذي مصداقية لمعالجة مظالم السنّة، قد يربح العراق المعركة مرة أخرى لكنه سيخسر الحرب.