د . حسين أحمد دخيل السرحان
باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية
شهدت دول عدة في مناطق مختلفة من العالم تغيرات سياسية واقتصادية هامه خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
ومن أهم هذه التغيرات هو تبني الكثير من الدول والمجتمعات لعملية التحول من نظم الحكم الدكتاتورية الى نظم حكم ديمقراطية (التحول السياسي)، ومن الاقتصاد المخطط مركزياً الى اقتصاد السوق (التحول الاقتصادي). وكانت تلك التحولات استجابة لضغوط داخلية، فضلاً عن ضغوط خارجية على تلك الدول المعنية لتجاري النمط الليبرالي الغربي في الجانبين السياسي الاقتصادي.
وفيما يخص العراق، فإن حاله لم يكن كحال أغلب تجارب التحول نحو اقتصاد السوق في دول عدة، بعيداً عن تأثير العامل الخارجي (الدولي). إذ جاء قرار التحول نحو اقتصاد السوق بتطبيق سياسات الاصلاح الاقتصادي متأثراً بضغوط الدائنين الدوليين (دولاً ومنظمات)، ورغبات صاحبة الدور الاكبر (الولايات المتحدة الامريكية) في إزالة الدكتاتورية عن نظام الحكم في العراق والانتقال الى اقتصاد السوق، فضلاً عن حاجة الاقتصاد العراقي ذاته للإصلاح.
إنّ توجه العراق نحو تحرير الاقتصاد على مختلف المستويات، وتقليص الدعم أو تغيير شروطه، ودعم القطاع الخاص، وتحرير الأسعار وغيرها من الإجراءات التي يمكن أدراجها تحت عنوان عام واحد، هو اتجاه الاقتصاد العراقي نحو اقتصاد السوق وتوسيع دور القطاع الخاص في الاقتصاد، يعني حصول تحول عن النمط الدولي الذي كان سائداً قبل العام 2003، واستبدالاً للآليات الإدارية – السياسية في إدارة الاقتصاد والمجتمع بآليات أخرى تمارس فيها عوامل السوق دوراً حاسماً.
وعرف العراق تحولاً سياسياً واقتصاديا طالا الاقتصاد العراقي، وعرف الاقتصاد العراقي واقعا مختلاً قاد الى تشوهات خطيرة وما زال هذا الواقع قائما حتى اليوم بسبب عدم وضوح الفلسفة الاقتصادية في المرجعيات القانونية والدستورية، مما قاد الى عدم وضوح دور الدولة في سعيها نحو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة ، والاندماج في منظومة الاقتصاد العالمي. والمتتبع للتحولات الاقتصادية يراها في عدة زوايا، ولكن أهمها هو التركيز على الدستور العراقي الجديد لعام 2005، والكشف عن المضامين الاقتصادية فيه كونه القانون الاعلى.
حدد دستور جمهورية العراق لعام 2005 شكل الدولة ونظام الحكم فيها. وعلى الرغم من تضمينه متضمنات النظام السياسي الديمقراطي، من تداول سلمي للسلطة وفق مبدأ الانتخابات وضمان الحريات العامة والاساسية، فضلاً عن مبدأ الفصل بين السلطات… وغيرها، إلا أنّه انطوى على عدد من التناقضات والنواقص التي اعترته في متضمناته السياسية والاقتصادية.
إذ نجد فيه مواد محددة تشير الى تحول جذري في توجهات الدولة مقارنة بما ساد قبل العام 2003. وعلى الرغم من إصدار الدولة عدة تشريعات اقتصادية، إلا أنّ تلك التشريعات شابها الكثير من التناقض والغموض؛ بسبب عدم وجود فلسفة اقتصادية واضحة لإدارة الاقتصاد العراقي، إذ إنّ الدستور لم يكن واضحاً في تحديد توجه الدولة في تنمية اقتصادها.[1]
وبهذا الصدد تنص المادة (25) ما يأتي: “تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع موارده، وتشجيع القطاع الخاص وتنميتهِ” [2] . وظاهرياً تشير هذه المادة الى أنّ الدولة عازمة على إصلاح الاقتصاد. ومصطلح “إصلاح الاقتصاد العراقي” يُفهم منه أنّ الدولة تكفل الانتقال بالاقتصاد المخطط مركزياً والنشاط الاقتصادي المسيطر عليه من قبل الدولة (القطاع العام) الى اقتصاد السوق، ولاسيما أنّ المادة تضمنت أيضاً: أن تكفل الدولة تشجيع القطاع الخاص وتنميته، وهذه الكفالة تعني إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وهذه ميزة أساسية لاقتصاد السوق، خصوصاً أنّها جاءت في عبارة تدل في مجملها على إصلاح الاقتصاد العراقي وفق ” أسس اقتصادية حديثة “، وفُسِرت هذه الاسس على أنّها آليات السوق حصراً ولا شيء سواها.
إنّ المادة المذكورة لم تشر صراحة الى طبيعة الفلسفة الاقتصادية للدولة هل هي رأسمالية أم لا؟. كما إنّ تشجيع القطاع الخاص وتنميته هو نص نمطي تضمنتهُ دساتير الحكومات المركزية – الاستبدادية، ولا يوجد دستور من دساتير الدولة العراقية لم ينص على هذا التوجه، رغم اختلاف الصياغات.[3] كما إنّ ذات المادة لم توضح ماهية هذه الأسس الحديثة وأي استراتيجية يمكن أن تعتمد في إدارة الاقتصاد العراقي، حيث إنّ ما يعد حديثاً اليوم قد يصبح قديما بعد عقد من الزمان، لذلك كان ينبغي أن يشير الدستور بشكل واضح الى الفلسفة التي تنتهجها الدولة في إدارة الاقتصاد وتطويره بما يحقق النمو والرفاهية للمجتمع. كما اهتم الدستور بتوزيع الموارد أكثر من اهتمامه بتنمية الموارد، إذ إنّ تنمية الموارد تحتاج الى استراتيجيات وبرامج جادة ليس من السهل تحقيقها. وإنّ تخصيص الموارد وإنفاقها من دون استراتيجية مالية واضحة ومحددة الأهداف والوسائل يجعل الإنفاق العام غير ذي جدوى (كما حصل خلال السنوات السابقة ) [4] هذا من جانب.
ومن جانب آخر، وفي الوقت الذي تضمن الدستور في كثير من مواده عبارة “تنظم بقانون”، إلا أنّه لم ينص على ضرورة تعديل القوانين النافذة (ولاسيما الاقتصادية منها) لتماشي التوجه الاقتصادي الجديد للدولة الذي فُهِم على أنّه توجه نحو اقتصاد السوق.
وعدم وضوح الفلسفة الاقتصادية بموجب الدستور شكل معوقاً واجه وضع السياسات والتشريعات الاقتصادية فيما بعد؛ بسبب غياب الرؤية الواضحة لدى الحكومات المتعاقبة حول الاهداف الاقتصادية، وقد يعزى ذلك الى عدم وجود تصورات واضحة لدى السياسيين، ولاسيما المساهمين في تشكيل الحكومات عن الوضع الاقتصادي وما يجب أن يكون عليه، مما جعل هذه السياسات والتشريعات الاقتصادية يشوبها الكثير من عدم التناسق مع التشريعات التي مازالت نافذة، والموروثة من النظام السابق، مع ان الاخيرة قد وُضِعت في حينه لتحقيق هدف “الاشتراكية” التي كانت الهدف الكبير لدستوري 1968 و 1970 المؤقتين. وضبابية الفلسفة الاقتصادية تقودنا الى استنتاج الآتي :
– إن ضبابية الفلسفة الاقتصادية قادت الى عدم وضوح الرؤى والتصورات حول فهم وإدراك واقع الاقتصاد العراقي وماهي الاستراتيجية الاقتصادية المطلوبة لتغيير هذا الواقع. لذا عانت التوجهات الاقتصادية من الفوضى التي ترافقت مع المتغيرات الجديدة في العراق بعد عام 2003، وانعكس ذلك بوضوح على الواقع الذي ظل يؤكد على دور الدولة الاقتصادي كما هو الحال مع مرحلة ما قبل العام 2003، وهكذا بقيت الدولة من الناحية الواقعية تمارس دورها الاقتصادي كالسابق. وحتى مع الاعتراف بأهمية هذا الدور وضرورته في هذه المرحلة، إلا أنّه يجب التأسيس لمرحلة التغيير الاقتصادي الحقيقي في المستقبل، وهذا الدور أصبح يلاقي قبولاً من أطراف سياسية واقتصادية من ناحية، كما يلاقي رفضاً من أطراف أخرى من ناحية ثانية.
– يشير الواقع الى عدم وضوح الرؤى والتصورات حول فهم وإدراك واقع الاقتصاد العراقي وماهي الاستراتيجية الاقتصادية المطلوبة لتغيير هذا الواقع.
– أُصيبت التوجهات الاقتصادية بنوع من الضبابية والفوضى، مع المتغيرات الجديدة في العراق بعد عام 2003، وانعكست بوضوح على الواقع الذي ظل يؤكد على دور الدولة الاقتصادي كما هو الحال مع مرحلة ما قبل 2003، إذ بقيت الدولة من الناحية الواقعية تمارس دورها الاقتصادي كالسابق، وحتى مع الاعتراف بأهمية هذا الدور وضرورته في هذه المرحلة، إلا إنّه يجب التأسيس لمرحلة التغيير الاقتصادي الحقيقي في المستقبل. وهذا الدور أصبح يلاقي قبولاً من أطراف سياسية واقتصادية من ناحية، كما إنّه يلاقي رفضاً من أطراف أخرى من ناحية ثانية.
د. أحمد عمر الراوي، نحو استراتيجيات جديدة لإدارة الاقتصاد العراقي في ظل اقتصاد احادي الجانب، في مجموعة باحثين، استراتيجية بناء دولة العراق بعد الانسحاب الامريكي، اعمال المؤتمر السنوي لقسم الدراسات السياسية، بيت الحكمة، بغداد، 2011 ، ص 478.
جريدة الوقائع العراقية ، الدستور العراقي الدائم 2005 ، المادة (25) ، كانون الاول/2005 ، العدد (4012) ، ص7 .
د. عماد عبد اللطيف سالم ، الدور الاقتصادي للدولة في العراق : اشكاليات ومحددات التأسيس في المرحلة الانتقالية (2003-2011)، المؤتمر العلمي السنوي لبيت الحكمة، بيت الحكمة، بغداد، 2012، ص85 . كذلك يُنظر: الدستور العراقي المؤقت لعام 1968 المادة (13) نصت على أن: ” يكون الاقتصاد القومي موجهاً يتعاون فيه القطاعان العام والخاص تحقيقاً للتنمية الاقتصادية بزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع ” . كذلك الدستور المؤقت لعام 1970 المادة (16) فقرة (ب) تنص على أن: ” الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية مكفولتان في حدود القانون وعلى أساس عدم استثمارهما فيما يتعارض أو يضر بالتخطيط الاقتصادي العام “.
د. أحمد عمر الراوي، مصدر سبق ذكره، ص 488-489.