الكاتب : مايكل نايتس
عرض وتلخيص: ميثاق مناحي
اكتسبت كركوك رمزية سياسية على مدى السنوات الخمسين الماضية، بالقدر الذي تمثّل فيه الموصل مركزاً
سياسياً واقتصادياً لكثير من سنّة العراق.لعلّ أحدث تحدٍّ يظهر في كركوك هو التوتر بين “وحدات الحشد الشعبي” ذات الغالبية الشيعية والحكومة المحلية بزعامة الأكراد. وتتقدّم “وحدات الحشد الشعبي” تدريجياً على الطريق بين بغداد وكركوك منذ أيلول / سبتمبر 2014، وقد حرّرت بلدات التركمان الشيعة التي اجتاحها تنظيم “داعش” وتقوم بحماية المستوطنات السنية بشكلٍ حازم.
يستهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى الأنظار التي تتجه كلها صوب مدينة الموصل العراقية – عاصمة التنظيم الذي أطلق على نفسه اسم (الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، أو الدولة الإسلامية) – والتي يمكن أن تهاجمها القوات العراقية في وقت قريب – أبريل / نيسان، أو مايو / أيار 2015 – وفقاً لبيان موجز وزّعته الحكومة الأمريكية على الصحفيين في 19 / شباط / فبراير. ولكن عندما تتعرّض الموصل للهجوم فعلياً، لن ينتهي التحدي الرئيس لقوات التحرير بطرد مقاتلي تنظيم “داعش”. فحكم مدينة الموصل – المتعددة الأعراق – سيشكّل اختباراً – بنفس القدر من الأهمية – للقيادات العراقية والكردية، وكذلك لحلفائهم الدوليين.
إن إحدى الطرق لقياس مدى التعقيد في تحقيق الاستقرار بعد انتهاء الصراع، هي النظر إلى مدينة كركوك العراقية اليوم. فكركوك تقع في مكانٍ وسطي بين بغداد وأربيل. كما يشكّل موقعها تقاطعاً بين المرتفعات الكردية والبلدات التركمانية والأراضي الزراعية العربية المحاذية لنهر دجلة، وقد توسّعت كركوك إلى حدٍّ كبير بعد أن بدأ إنتاج النفط في المحافظة في عشرينات القرن الماضي.
يجدر بالذكر، أن تعداد النفوس الذي جرى عام 1957 – الذي يُعد الأقلّ تسييساً – قد قسّم سكان كركوك وفقاً للغة الأم، ووجد أنّ (48.3) في المائة من سكانها أكراد و (28.2) في المائة عرب و (21.4) في المائة تركمان، بينما تتوزّع البقية على الكلدانيين والآشوريين وغيرهم. ومنذ ستينات القرن العشرين، تعرّض التركمان والأكراد في المناطق الحضرية لعنف متزايد مارسته الحكومات العراقية المتعاقبة. وفي عام 2003، تحولت الأمور مرة أخرى باتجاه معاكس، وعاد الأكراد ليشكّلوا القوة المهيمنة داخل المدينة.
جغرافية كركوك الاستراتيجية
تشكل كركوك النقطة الأقلّ التي تتمتع فيها كردستان العراقية بالنفوذ. فطوال القرن الماضي، كانت كركوك تُستخدم كنقطة انطلاق لتوغلات الحكومة في المرتفعات الكردية. وتمتدّ المدينة عبر أكثر الطرق السريعة المباشرة التي تربط بين أربيل والسليمانية، المدينتان الرئيستان في “إقليم كردستان”. ومن ثم، عندما تسيطر قوّة معادية على كركوك، فيعني ذلك قطع المنطقة الكردية إلى شطرين.
واليوم، ما تزال منطقة كركوك تمثّل نقطة استراتيجية للأكراد العراقيين، والنقطة الضعيفة المحتملة في دفاعهم. وتكاد كركوك – المتعددة الأعراق – أن تكون فريدةً من نوعها؛ بسبب الأعداد الكبيرة من العرب الذين يعيشون ضمن الخطوط الأمامية التي تقوم قوات البيشمركة الكردية بتأمين حمايتها. وتتّصل كركوك بـ”إقليم كردستان” عن طريق الطرق السريعة، وما زالت تشهد تدفّقاً يومياً كبيراً للحركة التجارية وحركة الركاب بينها وبين مدن “حكومة إقليم كردستان”.
وقد جعل ذلك من كركوك النقطة الوحيدة الأكثر أهمية، المتاحة لمفجّري السيارات و (إرهابيي) الخلايا المهاجمة من تنظيم “داعش” الذين يحاولون الدخول إلى “إقليم كردستان”. ففي 30 يناير / كانون الثاني، شن تنظيم “داعش” هجوماً موضعياً كبيراً على خطوط البيشمركة الأمامية في جنوب غرب مدينة كركوك، وفي الوقت نفسه سهّل التنظيم على مجموعة من المهاجمين الانتحاريين أن تتمركز على سطح فندق في المدينة. إلا أنه تجري حالياً عمليات تمشيط واسعة النطاق ومداهمات تقودها المخابرات في المناطق العربية السنية في كركوك بحثاً عن خلايا إرهابية تعمل في صفوف هذه المجتمعات.
الأحزاب الكردية وكركوك
اكتسبت كركوك رمزية سياسية على مدى السنوات الخمسين الماضية، بالقدر الذي تمثّل فيه الموصل مركزاً سياسياً واقتصادياً لكثير من سنّة العراق. وتتنافس الأحزاب السياسية الكردية على النفوذ في كركوك، وتهرع للدفاع عن المدينة كلما تعرضت لهجوم. ويقال: إن تدفّق قوات البيشمركة الكردية إلى كركوك في آب / أغسطس 2014، أدّى إلى تجريد الجبهات الأخرى من القوى المدافعة إلى حدّ أنّ هجوم “الدولة الإسلامية” أوصل التنظيم إلى أربيل تقريباً.
ويسيطر “الاتحاد الوطني الكردستاني” على مدينة كركوك حالياً، وهو الحزب الأصغر بين أكبر حزبين سياسيين كرديين، ولكنّ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” المنافس، يعمل على تعدّيه تدريجياً. ففي تموز / يوليو 2014، استفاد “الحزب الديمقراطي الكردستاني” من الفرصة المتاحة ووسّع سيطرته العسكرية على غرب كركوك، بما في ذلك حقلي النفط باي حسن وأفانا التابعين لـ “شركة نفط الشمال”.
يتعيّن على محافظ كركوك نجم الدين كريم، المقرّب من زعيم “الاتحاد الوطني الكردستاني” جلال طالباني، تحقيق التوازن بين الاحتياجات المزدوجة التي تقضي بالحفاظ على الوحدة الكردية للدفاع عن المدينة، وفي الوقت نفسه تقييد توسّع نفوذ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بصورة أكثر في كركوك.
نفط كركوك مفعم بالحيوية أكثر من أي وقت مضى
بالمقارنة مع حقول النفط الضخمة في جنوب العراق بعد خمسينات القرن الماضي، والتي ما تزال توسّع إنتاجها، كانت حقول كركوك القديمة الكبرى تشهد تدهوراً لفترة من الوقت. ومع ذلك، فإنّ السيطرة على حقول النفط في غرب كركوك هي الآن أهمّ من أي وقت مضى؛ بفعل الضائقة المالية الحادّة التي يعاني منها العراق بسبب احتياجات الإنفاق الحكومي المرتفع وانهيار أسعار النفط منذ تشرين الثاني / نوفمبر 2014.
لقد لعب نفط كركوك دوراً محورياً في إقرار موازنة عام 2015، واتفاق تقاسم العائدات بين بغداد و “حكومة إقليم كردستان” الذي تضمّنته. وبموجب هذا الاتفاق، يتعيّن على كردستان أن توفّر لبغداد (250) ألف برميل يومياً من النفط الخام المنتج في كردستان، وهذا ممكن جزئياً من خلال سيطرة “حكومة إقليم كردستان” على حقلي باي حسن وأفانا. وبالمثل، فإن “حكومة إقليم كردستان” ملتزمة بمساعدة العراق على تصدير (300) ألف برميل يومياً من نفط كركوك الخام الذي تنتجه “شركة نفط الشمال”، وذلك عن طريق خطّ أنابيب كردستان إلى تركيا. وستحصل المحافظة على دولارين إضافيين عن كلّ برميل نفط يتمّ شحنه، في إطار مخطط “الدولارات البترولية”.
وفي العام القادم، قد يردم نفط كركوك هوّةً حيوية في ميزانية العراق (ويوفّر الاستثمار لمحافظة كركوك)، أو قد يصبح مصدر خلاف بين بغداد وأربيل. وتتطلّع الحكومة العراقية بالفعل إلى عودة حقلي باي حسن وأفانا إلى حضن خزانة الدولة الاتحادية.
وفي الوقت نفسه، يوسّع الأكراد سيطرتهم على “شركة نفط الشمال” من خلال برنامج توعية فعّال يتضمّن تقديم الدعم الفني وبناء خطّ أنابيب، مما قد يساعد “حكومة إقليم كردستان” على ضمّ صناعة النفط في كركوك إليها بشكلٍ كامل في حال انهيار صفقة تقاسم العائدات مع بغداد.
“وحدات الحشد الشعبي” الشيعية
لعلّ أحدث تحدٍّ يظهر في كركوك هو التوتر بين “وحدات الحشد الشعبي” ذات الغالبية الشيعية والحكومة المحلية بزعامة الأكراد. وتتقدّم “وحدات الحشد الشعبي” تدريجياً على الطريق بين بغداد وكركوك منذ أيلول / سبتمبر 2014، وقد حرّرت بلدات التركمان الشيعة التي اجتاحها تنظيم “داعش”، وتقوم بحماية المستوطنات السنية بشكلٍ حازم.
وقد وصلت “وحدات الحشد الشعبي” الآن إلى المشارف الجنوبية لمدينة كركوك، وهي أوّل قوات أمن اتحادية تعود إلى كركوك منذ تفكك الفرقة الثانية عشرة في الجيش العراقي في حزيران / يونيو الماضي. وقد أقسم الأكراد في ذلك الوقت بعدم عودة أيّ قوات اتحادية إلى كركوك، ولكنّ الميليشيات الشيعية زادت وجودها بنجاح – ويرجع ذلك جزئياً إلى الدعم الإيراني لها – وظهرت معسكرات تدريب كبيرة لتسليح التركمان الشيعة والعرب المتطوعين المحليين من كركوك.
ولا يشكّل هؤلاء المسلحين الشيعة خبراً جديداً في كركوك. فسابقاً، قام شيعة من كركوك تابعون لمجموعتي “كتائب حزب الله” و “عصائب أهل الحق” المدعومتين من إيران بإطلاق صواريخ على القاعدة الجوية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الأمريكي، وهاجموا باستمرار مركبات أمريكية في كركوك حتّى مغادرة القوات الأمريكية البلاد في عام 2011.
والآن بدأت هاتان المجموعتان تتحدّيان الهيمنة الكردية. ففي 8 شباط / فبراير، قام هادي العامري، زعيم “منظمة بدر” وقائد “وحدات الحشد الشعبي” في الجزء الأكبر من شمال العراق، بزيارة محافظ كركوك برفقة حراسة أمنية مهيبة تضمّ (50) سيارة. وفي 17 شباط / فبراير، أعلن زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي أنّ مقاتليه سيدخلون مدينة كركوك لتحدي البيشمركة إذا ما طلب سكان كركوك من تنظيمه القيام بذلك.
وتشير هذه المخاطر الناشئة إلى التعقيدات المحتملة التي يمكن أن تشكّل تحدياً لحكم العراق في مرحلة ما بعد تنظيم “داعش”, وخاصة في مدينة الموصل التي يؤمل أن تكون محررة عندئذ، والتي هي بوتقة عرقية متفجرة تضمّ ما يقرب من مليون نسمة. ولا تكمن الأهمية النهائية لهجوم “داعش” في العراق في سيطرة التنظيم قصيرة المدى على المدن العراقية، بل في ظهور الميليشيات العرقية وقوات لامركزية انبثقت إثر فقدان سيطرة الحكومة على المناطق التي استولى عليها تنظيم “داعش”.