الكاتبان: محمد نوار، و غلادا لاهن
ترجمة وتحليل: مؤيد جبار حسن
نهر الفرات ذو أهمية حاسمة للمياه والغذاء وأمن الطاقة في تركيا وسوريا والعراق. يتدفق من الجنوب الشرقي
لمسافة 2.700 كيلو متر من شرق تركيا إلى الخليج (الفارسي)، وهو يغذي أكثر من 60 مليون شخص، جنبا إلى جنب مع نهر دجلة، الذي يجري تقريبا بالتوازي معه. هذه الموارد المائية الشاسعة هي الآن في أزمة.
وقد تدهور النهر بسبب الاستغلال المفرط والنمو السكاني والتلوث وعوامل أخرى شكلت مشكلة خطيرة لسنوات عديدة. الآن الحرب والاضطرابات العنيفة في سوريا والعراق تزيد الوضع سوءا، وتهدد البنية التحتية الرئيسة، وتعرقل سياسة التعاون. ودون اهتمام عاجل، فإن التركيز على موارد النهر سوف يضيف أزمة إنسانية كارثية إلى تلك الأزمة الموجودة بفعل النزاع.
وعلى المدى الطويل، فكرة التنسيق عبر الحدود أمر ضروري إذا ما أريد إبقاء دور حيوي لنهر الفرات في المنطقة. وإن التهديدات التي تواجه النهر استرعت الاهتمام الدولي منذ عام 2013 وقد تنافس المقاتلون في سوريا والعراق من أجل السيطرة على هياكله الحيوية. قوات من تنظيم (الدولة الإسلامية “داعش”) سعت لامتلاك معاقل استراتيجية على طول النهر، كذلك هناك أقسام مختلفة من النهر هي في يد جهات مختلفة، منها الحكومية ومنها غير الحكومية، وهناك من يفند السيطرة على السدود الكبرى. وفي كثير من الأماكن، ليس من الواضح من هو الذي يسيطر على النهر. انعدام الأمن وعدم وضوح السلطة وتفاقم التحديات المائية سبقت النزاع الحالي. في الواقع، كان نهر الفرات تحت ضغط خطير قبل وقت طويل من اندلاع الأزمة السورية في عام 2011. التنمية السريعة وغير المنسقة في الدول المتشاطئة (تركيا وسوريا والعراق) قد غيرت نظام تدفق النهر، مما تسبب في الحد من 40 – 45% من تدفق المياه منذ أوائل عام 1970. في السنوات الـ 50 الماضية، تم بناء بعض السدود والقناطر التي بلغ عددها 32 على النهر. أسلوب تلك الدول في العمل – جنبا إلى جنب مع النمو في الزراعة والاستخدام الكثيف للمياه فضلا عن أضرار المبيدات والصناعة – عاثت فسادا في نوعية المياه والبيئة.
النهر هو المصدر الرئيس للمياه لـ 27 مليون شخص في البلدان الثلاثة، وعشرات الملايين الآخرين الذين يعتمدون على المواد الغذائية والطاقة التي يوفرها. وأدى تدهور النهر – جنبا إلى جنب مع الجفاف – إلى هجرة جماعية من المناطق الريفية المحيطة بالفرات في سوريا والعراق. في جنوب العراق، التملح والتلوث الحاد قد يسببان أمراضا للإنسان وخسائر للمواشي. وفي سوريا، أدت الضغوط السكانية الحضرية وتكاليف الغذاء إلى زيادة التوترات الاجتماعية. كما أن الضغوط الإضافية المتعلقة بالنمو السكاني والصناعة والهندسة المائية تهدد الآن ظروف التنمية البشرية على نطاق أوسع في جميع أنحاء منطقة الفرات. ومما يثير القلق بشكل خاص، هو استمرار خطط بناء السدود. فمشروع جنوب شرق الأناضول في تركيا (GAP)الذي بدأ في عام 1970 يعد حدثا كبيرا على نهري دجلة والفرات وروافدهما، وغايته الطاقة الكهرومائية والري الزراعي، ويهدف كذلك إلى دعم التنمية الاقتصادية في جنوب شرق تركيا، ولكن العديد من السوريين والعراقيين لديهم مخاوف كبيرة بشأن تأثيره على إمدادات المياه.
ويصنف الكاتبان تحديين كبيرين يواجهان جميع البلدان:
الأول: هو تغير المناخ، الذي يتسبب بارتفاع متوسط درجات الحرارة وزيادة حدوث الظواهر الجوية المتطرفة. معهد الموارد العالمية على سبيل المثال، يتصور أن في عام 2025 الضغط على ظروف المياه لنهر الفرات ستتضاعف إلى ثماني مرات أكثر مما كانت عليه في 2010. الثاني: هو ضعف قدرة الدول المتشاطئة للرد إما بشكل فردي أو جماعي، مما أدى إلى زيادة التحديات التي تواجهها. القدرات المؤسساتية تم استنزافها خلال النزاع في سوريا والعراق، ولم يعد هناك آلية لتبادل المعلومات أو الاستجابة لحالات الطوارئ في جميع أنحاء حوض النهر، ولذلك تبدو الحاجة إلى تنسيق السياسات بين الدول المتشاطئة وأصحاب المصلحة الآخرين مهمة للغاية.
إن تاريخ العلاقات المائية المضطرب الذي يناقشه الكاتبان يظهر أن التحديات التي تواجه نهر الفرات لا يمكن التصدي لها من قبل دولة واحدة تعمل بمفردها. في الواقع، إن تاريخ ضعف التنسيق بين الدول فوق النهر هو بالضبط واحد من العوامل التي سمحت للتدهور بأن يحدث. وعلى الرغم من استغراق ما يقارب القرن من المفاوضات الرسمية، إلا أن ما تم الاتفاق عليه محدود. وقد اتسمت المفاوضات التي جرت بانعدام الثقة وضعف التواصل وعدم وجود بيانات مشتركة موثوق بها.
مقابلات المؤلفين مع 25 شخصية في تركيا وسوريا والعراق شاركت سابقا في المفاوضات حول المياه، أو كانت قريبة من ذلك، وكشف عن ثلاثة عوامل رئيسة أعاقت التعاون:
الأول: تاريخ من التنافس الإقليمي منع مفهوم تقاسم المياه من التحقق. فليس هناك معاهدة شاملة أو طويلة الأمد بين تركيا وسوريا والعراق على تقاسم المياه، ورفض تركيا لاتفاقية المجاري المائية الدولية لعام 1997 يمنع تطبيق المبادئ الدولية لهذه القضية.
الثاني: مركزية اتخاذ القرار في كل قطر أعاق لجان التفاوض.
الثالث: المناقشات كانت في معظمها ثنائية، على الرغم من أن النهر يتدفق عبر ثلاثة بلدان، وهذا أدى إلى استياء الطرف الثالث المستبعد من المفاوضات.
ما الذي يمكن عمله؟. يضع الكاتبان عددا من التوصيات المبنية على الأهداف قصيرة الأجل وطويلة الأجل. وبالنظر إلى الوضع الأمني في سوريا والعراق، وقطع العلاقات بين تركيا وسوريا، وانتشار نفوذ تنظيم “داعش”، فإن استئناف المحادثات بين البلدان المحاذية للنهر غير وارد في الوقت الحاضر. وعليه، سوف لن يكون هناك بناء رؤية مشتركة بين الخبراء المعنيين لتمهيد الطريق للتعاون. ولكن يمكن الاعتماد على البروتوكولات الثنائية – على الرغم من محدوديتها – التي أنشأت بين تركيا والعراق، و تركيا وسوريا، بين عامي 2008 و 2010، إذ يمكن أن توفر الأساس لنهجٍ أكثر إيجابية.
كذلك بناء رؤية مشتركة للتعاون في المدى القريب، واغتنام فرصة التنسيق بين الدول بشأن تدابير مؤقتة لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الملحة. وبصرف النظر عن هذا، فإن مجموعة عمل من الخبراء داخل وخارج الدول المتشاطئة يمكنها رصد الأحداث التي تؤثر على سلامة النهر. ويمكن لفريق العمل هذا تقديم المشورة للسلطات المسؤولة والوكالات الإنسانية على قضايا مثل إمدادات المياه والصرف الصحي أو الإطلاقات المائية المفاجئة من السدود. وعندما تتحسن الظروف السياسية، ينبغي تشكيل لجنة رسمية للأنهار. ومن شأن مثل هذه اللجنة تجميع مجموعة متنوعة من الأطراف المعنية والباحثين وصانعي السياسات، وهذا من شأنه سيسهم في بناء الثقة و زيادة القدرة على الإدارة لجميع الدول المتشاطئة.
إن أولويات عمل اللجنة ستشمل:
• بناء قاعدة بيانات لجميع الاتفاقات ذات الصلة بالمياه والنزاعات وتجميع كل المعلومات المتاحة عن هيدرولوجيا النهر والأرصاد الجوية في كل دولة.
• تحديد الاحتياجات المائية والمطالب المتوقعة لكل دولة، مع التركيز على تحديد المناطق المستهدفة لتحسين الكفاءة.
• تطوير اتفاق دائم لتقاسم المياه بدلا من التركيز على تقاسم متدفق منه، وهذا يجعلنا نركز أكثر على الأدوار والمسؤوليات المشتركة والعمليات المحددة لنزع فتيل التوترات وتسوية النزاعات.
• بناء نظام للإنذار المبكر، للتنبؤ بالحوادث المناخية في حوض الفرات، لغرض الاستعداد للمجاعات والفيضانات.
• تعزيز التعاون الإقليمي عبر الاستثمار في الـ( GAP )، مما يساعد على تخفيف المخاوف في سوريا والعراق.
• تعزيز الترابط الاقتصادي على نطاق أوسع بين الدول، والذي يمكن أن ينطوي على تصدير إمدادات النفط والغاز من العراق في مقابل الطاقة الكهرومائية من تركيا، وتجارة الأغذية بين البلدان الثلاثة.
• مراجعة التشريعات المتعلقة باستخدام المياه وإدارتها في الدول المتشاطئة الثلاث، من أجل توحيد الأنظمة والوصول لأفضل الممارسات. ونظرا للقيود على تطبيق الأحكام في جميع البلدان الثلاثة، يمكن لهذه الجهود أن تسترشد بالبراغماتية أكثر من القانون الدولي.
الخلاصة:
لقد شملت خطط التنمية الوطنية على مدى نصف القرن الماضي أنشطة استغلال واسعة النطاق على نهر الفرات، والتي غيرت بشكل كبير نظام وحجم تدفق النهر. التدهور اليومي لموارد النهر أصبحت عائقا أمام إعادة الإعمار والسلام في المنطقة مستقبلا. كما أن مزيجا من ارتفاع الطلب على المياه، وخطط البنية التحتية غير المنسقة، وتغير المناخ، من المرجح أن يقلل تدفق المياه أكثر من ذلك، فضلا عن زيادة التنافس على الموارد بين الدول وخلق عقبات جديدة في الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.
هناك من يصنف سوريا والعراق بالفعل بلدانا شحيحة المياه، مع تركيا التي قد تكون عرضة للإجهاد في المستقبل. ومن المتوقع تفاقم حالة المياه في البلدان الثلاثة مع تغير المناخ. إن تغير تدفق نهر الفرات، وتصاعد معدلات التبخر خلال الصيف الأكثر حرارة، و الظواهر الجوية المختلفة، ستشكل التحديات الرئيسة لجميع الدول الثلاث، ومعالجة هذه المشاكل سيكون لها آثار على المناطق المجاورة. فالكارثة الإنسانية والهجرة نتيجة لفشل إمدادات المياه والحصار ستؤثر سلبا على المصالح الاقتصادية للاتحاد الأوربي و غرب آسيا. إن خطر هذه الأزمة سيتضاءل إذا ما الحكومات الوطنية والمحلية للدول المتشاطئة نسقت جهودها وفقا للقواعد الدولية. وبالنظر إلى طبيعة تحديات الماء العابر للحدود التي تواجهها المنطقة، يتعين على السلطات هناك النظر في النهج التعاوني للتخفيف من آثار الأزمة والاستجابة لها، ويرجع ذلك إلى حقيقة بسيطة وهي أن النهر هو وحدة هيدرولوجية لا تعترف بالحدود السياسية، ودولة واحدة تعمل بمفردها لن تكون قادرة على مواجهة التحديات. وهناك حاجة ماسة للتعاون. لم يُنتج حتى الآن قرن من العلاقاتالعملية والفعالة والمستدامة بين تلك الدول لإدارة موارد النهر. فالعوامل التي تعوق الاتفاق أصبحت أكثر تعقيدا؛ بسبب النزاع المسلح، والتغيرات السكانية، والمناخ، وضغوط التنمية. كل بلد في مرحلة مختلفة من التنمية الاقتصادية. التغييرات الديموغرافية الكبيرة والنمو الاقتصادي والاعتماد الكبير على الأساليب الزراعية ذات الاستخدام الكثيف للمياه، زادت المنافسة على المياه. إن حقوق مياه النهر ستبقى متنازعا عليها، وتتشابك مع القضايا المثيرة للمشاعر، كالسيادة وتاريخ العلاقات السياسية المشحونة. حتى إن ما يعرقل التواصل بين الطرفين سببه عدم الاستقرار السياسي العميق، وخاصة منذ بداية عام 2011، من الأزمة السورية والاضطرابات ذات الصلة في جميع أنحاء العالم العربي.
في ظل المناخ السياسي والأمني الراهن، فإن العمل الحكومي – الدولي يبدو غير وارد، ولكن الإرادة السياسية قد تنحاز لذلك في المستقبل. عند هذه النقطة سيتم الاتفاق على الأولويات بين الممارسين الفنيين، الذي من شأنه أن يسهل الحوار والعمل المشترك. إن صقل المناهج القائمة على التعاون والتفاهم المتبادل، والنقاشات القائمة على أسس علمية، سوف يساعد على توجيه السياسيين وممثلي الدول الثلاث نحو الاستفادة من مشاركة الحلول، وهذا هو النهج الأكثر عقلانية لضمان استدامة المياه في المستقبل في تلك البلدان. وفي هذا السياق، أقيمت العديد من المحادثات مع المسؤولين والخبراء الفنيين من كل بلد، وقد حددت هذه المقالة اقتراحا بتشكيل “لجنة نهر الفرات”، ستشكل من مجموعة من الخبراء من كل بلد من البلدان المعنية، ويجب أن تكون مدعومة من طرف التعاون الثلاثي. واقترحت أيضا العديد من الدراسات الأولية التي يمكن للجنة القيام بها، وتشمل أنموذجا علميا لنهري دجلة والفرات، والذي من شأنه أن يضع جانبا الخلاف حول ما إذا كانوا سينشؤون حوضا واحدا أو حوضين، وتعيين تفاعل النهر مع الأراضي الزراعية والبنية التحتية. يمكن لهذه الأنواع من الأنشطة أيضا أن تمهد الطريق لمزيد من التعاون السياسي الرسمي. يتطلب التحرك إلى الأمام دراسة متأنية للوقائع على الأرض والاعتراف بإخفاقات الماضي، وهذا سيصب في مصلحة جميع الأطراف المعنية لدعم دعوات التعاون وزيادة الجهود لبناء علاقات المعرفة بين الخبراء. يجب أن يكون الهدف هو تعزيز الاستعداد لتكثيف الجهود المبذولة على نطاق الحوض عندما تسنح الفرصة السياسية. في غضون ذلك، فمن الضروري الحفاظ على فتح قنوات الحوار بين خبراء البلدان وممثلي الحكومات كلما كان ذلك ممكنا. قد تكون هناك فرص لإعلان التنسيق بين تركيا والعراق بشأن تدابير قصيرة الأجل لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الملحة. فضلا عن ذلك، فإن إنشاء فريق عمل من الخبراء لرصد الأحداث التي تؤثر على سلامة النهر وتقديم المشورة للسلطات المسؤولة والوكالات الإنسانية لحالات الطوارئ المتصلة بالمياه، قد يساعد على سد الفجوة في حالة الأزمات.
تحليل:
إن مشكلة نهري دجلة والفرات سياسية أكثر من أن تكون تقنية أو بيئية. للحكومات التركية المتعاقبة علاقات يشوبها التوتر مع جارتيها العراقية والسورية، فمع العراق هناك عقدة الأكراد وخوف أنقرة من فكرة الاستقلال وقيام دولة الكرد، وهذا بدوره أثقل كاهل الساسة الأتراك المثقل بالفعل من التركة الكردية وحزب العمال المتمرّد. وفيما يخصّ الأخير، لا ننسى انتهاك القوات التركية للحدود العراقية بحجة مطاردة المسلحين الكرد الأتراك. أما فيما يخص علاقة تركيا بسوريا، فهي متوترة منذ الاستقلال، واستقطاع لواء الاسكندرون من سوريا، ثم أزمة حزب العمال الكردستاني وقائده أوجلان، كذلك تدهورت بسبب إنشاء تركيا للسدود على نهر الفرات.
وبالعودة إلى المقال، يبدو أن الكاتبين قد حددا بالفعل المشاكل وأسبابها، وأكدا على ضرورة التعاون بين الدول الثلاث، لكنهما لم ينتبها إلى أن ثلث الأراضي التي يمر بها نهري دجلة والفرات اليوم وصولا إلى بغداد – تقريبا – بيد تنظيم “داعش” الإرهابي، فهل سيتم التفاوض معه أخيرا ومنحه صفة قانونية على المناطق التي يسيطر عليها؟. وماذا لو أن التنظيم استخدم حرب المياه كسلاح أخير للنيل من خصومه أو محاولة تركيعهم؟. هل لدى الحكومة السورية أو العراقية – والأخيرة ما يهمنا – أي تصور أو خطة لمواجهة هكذا سناريو؟ في خضم أزمة مياه خانقة ترنو في الأفق، مع دخولنا في أول أشهر الصيف الذي يمتد طويلا.
http://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/field/field_document/20150413Euphrates_0.pdf