يعد خطوة إيجابية للعدالة، لكنها أيضاً غير كافية. فنوع الأعمال المُشينة والمُرعبة التي ارتكبتها بلاكووتر وأطراف مماثلة لها – من أبي غريب، إلى المذبحة في حديثة، وصولاً إلى ممارسة السي.أي.آي التعذيب – قد تكون تبدّدت من ذاكرة الرأي العام في الغرب هذه الأيام، لكن تنظيم (الدولة الإسلامية “داعش”) يستعيدها لتغذية سرديته الطائفية في حملاته الإعلامية.
يعد سجن أربعة حراس أمن من شركة “بلاكووتر” بعد ثماني سنوات من قتلهم 17 مدنياً عراقياً في إطلاق نار ببغداد، خطوة إيجابية للعدالة، لكنها أيضاً غير كافية. فنوع الأعمال المُشينة والمُرعبة التي ارتكبتها بلاكووتر وأطراف مماثلة لها – من أبي غريب، إلى المذبحة في حديثة، وصولاً إلى ممارسة السي.أي.آي التعذيب – قد تكون تبدّدت من ذاكرة الرأي العام في الغرب هذه الأيام، لكن تنظيم (الدولة الإسلامية “داعش”) يستعيدها لتغذية سرديته الطائفية في حملاته الإعلامية. يستعمل تنظيم “داعش” أحداث أبي غريب وغيرها من قضايا التجاوزات الغربية لإضفاء الشرعية على نشاطاته الراهنة في العراق والتي يعدها الحلقات الأخيرة لعقد من “المقاومة السنّية” ضد “العدوان الأمريكي” و”الخيانة الشيعية”، وفق ما أورده كُتيِّب لتنظيم “داعش” في أواخر عام 2014 تحت عنوان “إحياء الخلافة” الذي يؤرّخ لصعود التنظيم منذ عام 2003.
وفيما تجهد الحكومة العراقية الآن لاستعادة دعم السنّة في القتال ضد تنظيم “داعش” – أو حتى لتجديد الثقة بين السنّة – يجب أن تكون خطوات التنظيم لإعادة طرح التجاوزات الأميركية على بساط البحث، تذكيراً مباشراً وواضحاً حول أهمية الحوكمة الحميدة، في خضم السعي إلى إيجاد حل للاضطرابات الراهنة في العراق.
إذ إن غياب المساءلة غداة التدخل الأميركي في بلاد الرافدين، لم يمهّد الطريق أمام خروقات على غرار أبي غريب وبلاكووتر وحسب، بل هو أشعل أيضاً أوار التوترات الطائفية في البلاد. تنظيم “داعش” يحصد اليوم ثمار هذه التجاوزات.
كما كانت الولايات المتحدة مُهملة أيضاً؛ لأنها اعتمدت على شركات أمنية على غرار بلاكووتر، من دون تنفيذ إجراءات يُعتدّ بها لمراقبة سلوكياتها وتنظيمها، هذا علاوة على أنها أشاحت وجهها عن الطريقة التي كان يُعامل بها جنودها المواطنين العراقيين. كل هذه العوامل ساهمت في تفاقم مشاعر الظلم التي يستغلها الآن تنظيم “داعش” بكفاءة لتعزيز سرديته الطائفية عن التاريخ العراقي.
في كُتيّب “إحياء الخلافة”، يتم التذكير بسجن أبي غريب ثلاث مرات،
يسرد الكُتيب في بداية الهجمات التي شنّها تنظيم القاعدة في العراق (سلف “داعش”) على سجن أبي غريب خلال ذروة التدخل الأميركي، لتحرير “السجناء السنّة” الذين اعتقلهم الأميركيون،
ثم يطرح مسألة حركة الصحوة في العام 2007 – حين تواطأت قبائل سنّية مع الأمريكيين لقتال القاعدة – بوصفها (أي الصحوة) تعبيراً عن الصراعات داخل الصف السنّي، ما دفع بعض القبائل إلى تسليم عناصر القاعدة “إلى الأميركيين الذين مارسوا بحقهم أقسى أنواع التعذيب في أماكن مثل سجن أبي غريب”.
ثم يربط الكتيّب هاتين القصّتين باقتحام تنظيم “الدولة الإسلامية” للسجن في العام 2013 لتحرير الأشخاص الذين تعرّضوا إلى التعذيب على أيدي “الأميركيين والشيعة” – وفق ما كتب في الكتيّب – لأكثر من عشر سنوات. ومن خلال استعراض عقد من التاريخ ووضع الشيعة مباشرةً في خانة “العدو”، يطلق تنظيم “الدولة الإسلامية” رسالة قوية مفادها أن معركته الحالية في العراق تتمحور حول وضع حد لأوجه الظلم التي يتعرّض لها السنة منذ مدة طويلة، واستعادة الشعور بالانتماء السنّي تحت مظلة “الخلافة“.
كان المدنيون الذين قتلوا على أيدي حراس بلاكووتر – مثل سجناء أبي غريب – من السنّة والشيعة. لكن إعادة تشكيل التاريخ من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية” – الذي يعيد تصوير نظام صدام حسين بوصفه نظاماً “سنيّاً” حاول الوقوف في وجه الولايات المتحدة وحلفائها الشيعة – تتجاهل هذه الفروق الدقيقة.
يتم تقديم الصور المنسوخة لسجناء أبي غريب في كتيّب “الدولة الإسلامية” المذكور آنفاً، إلى جانب صور القتلى المدنيين نتيجة الغارات الجوية الأميركية ضد أهداف “الدولة الإسلامية”، على أنها “دليلٌ” على سردية التنظيم. وهذه الصور مدعومة بنصّ يصف الولايات المتحدة اليوم بوصفها “سلاح جو للشيعة”.
يبدو واضحاً أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لا يمكن إلحاق الهزيمة به في العراق من دون الحصول على دعم سنّة البلاد. فمن دون هذا الدعم، سيواصل التنظيم تعريف النزاع على أنه صراع يتعرّض فيه السنّة مرة أخرى إلى هجمات من قبل الأميركيين والشيعة، ولاسيما بعد أن أصبحت الفصائل الشيعية جزءاً رئيساً من المعركة ضد هذا التنظيم الإرهابي في مناطق مثل تكريت.
لموازنة هذا الانخراط الشيعي، تعوّل الحكومتان الأميركية والعراقية على إنشاء الحرس الوطني العراقي العابر للطوائف، وتأملان في إحياء “الصحوة” لإعادة إشراك السنّة وتوحيدهم تحت مظلة الوطنية العراقية.
لكن هذه الخطط لن تنجح ما لم يتم اتخاذ خطوات جديّة تضمن تطبيق إجراءات الحوكمة الحميدة لجعل جميع العراقيين وكافة المنخرطين في التحالف الدولي المناهض لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ومن ضمنهم الولايات المتحدة الاميركية، قابلين للمحاسبة.
لا ينبغي أن يُطبّق ذلك فقط في سياق الصراع الراهن – حتى لا تتكرّر سيناريوهات مثل أبي غريب وبلاكووتر – بل يجب أن يُطبّق أيضاً عند انقشاع الغبار. فالحوكمة الحميدة هي الترياق الأكثر فاعلية ضد الطائفية.
رابط: http://carnegie-mec.org/2015/04/15/ar-59846/i7hu
تحليل:
على ما أعتقد أن الهالة الإعلامية التي روجت في عهد ولاية السيد المالكي الثانية حول تهميش السنة كانت مبالغا فيها, ويبدو أن الكاتبة ركزت بعض الشيء على هذا الموضوع وعدت الشيعة بأنهم هم من سيطروا على الحكومة بشكل مطلق وهذا غير صحيح. نعم هناك تهميش لكنه ليس بالصورة التي روّج ونُقل عنها، وصورها الإعلام والأطراف الخارجية. وعلى كل حال، نحن اليوم أمام حكومة وطنية جديدة تعمل بشكل كبير لاستيعاب جميع مكونات المجتمع العراقي, ويجب أن ينقل الإعلام والصحافة ذلك ويركزوا على هذه الحكومة كما ركزوا على مسألة التهميش وأخطاء الحكومة السابقة. أما بخصوص السردية التاريخية التي يستغلها تنظيم “داعش”، فهي سردية تاريخية طويلة ليست وليدة الحكومات الحالية. ربما أكبر عامل كسب لتنظيم “داعش” هو عامل التهميش السني الذي روّج بشكل كبير في ظل الحكومة السابقة، وهذا ما عوّل عليه كثيرا تنظيم “داعش”, ولذلك فهو درس يجب على حكومة العبادي والحكومات القادمة تلافيه بشكل كبير. وحتى قضية أبي غريب و”بلاكووتر” فهاتان قضيتان أمريكيتان لا يمكن تحميلهما للطرف الشيعي في الحكم؛ لأن هناك طرفا سنيا في حكومة موازٍ للطرف الآخر. فمن غير الممكن أن يستغل تنظيم “داعش” هذه القضايا ضد الحكومة لكسب بعض الشباب المتطرف، هذا فضلاً عن أن التنظيم أصبح اليوم ورقة مكشوفة للجميع والكل بات يعرف فكرهُ المتطرف بغض النظر عن الشيعة والسنة. إن تنظيم “داعش” أساء للسنة كثيراً، وعليه, يجب أن يواجه هذا التنظيم أولاً بمواجهة سنية – عراقية، ومن ثم سنية – عربية. ومن غير الممكن أيضا تحميل الطرف الشيعي قضية تعذيب السجون؛ لأن هناك سجناء كثيرين من المذهب الشيعي تعرضوا إلى التعذيب من قبل الأمريكيين في سجن أبي غريب. أما في ما يخص انخراط الفصائل الشيعية مع قوات الأمن, فقد جاءت وفقاً لتخطيط وتنسيق عالٍ بين الحكومة وقيادات الحشد الشعبي، وأصبح الحشد الشعبي اليوم مؤسسة أمنية رافدة للمؤسسة العسكرية وقوات الأمن، ومرتبطة برئيس الوزراء. فهو ليس اصطفافا طائفيا مثلما يصوره البعض، إذ إن هناك حشدا شعبيا سنيا، وأبناء عشائر، وصحوات، هي كذلك اصطفت وانخرطت تحت مسمى الحشد الشعبي. ومع ذلك، يجب على الحكومة العراقية وصانع القرار والقيادات السياسية, أن تأخذ العبرة مما سبق، وأن تأخذ كل ما تقدم بنظر الاعتبار، وتقطع الطريق على كل المتطرفين في دعم آيديولوجيتهم المتطرفة.
______________________________________________
مقال تحليلي نُشر بالأساس في موقع سي. إن. إن