فريدريك ويري، أرييل أ. آرام
عرض وتلخيص: ميثاق مناحي العيساوي
إن هذا المقال هو في الأصل دراسة بالعنوان أعلاه. وقد ركز الكاتبان على أنموذجين في هذه الدراسة ألا وهما الأنموذج العراقي والليبي في بناء الحرس الوطني. ونحن بدورنا لخصنا وعرضنا الدراسة بمقالين ركزنا فيهما على الأنموذج العراقي مع الإشارة بشكل بسيط إلى الأنموذج الليبي.
بالطبع، مفهوم الحرس الوطني تواجهه عقبات كثيرة وصعبة، كما تبيّن بوضوح خلال دراسة هذه التجربة في العراق وليبيا. إذ إن هيكلية الحرس تطرح أسئلة كبرى حول قضية تماسك الدولة ككل، وحول عملية المساءلة فيها. فهذه القوى قد تُضعِف الدولة بدل أن تعضدها. لكن، إذا ما بُنِيَت على أُسُس سليمة، فقد تخدم كخطوات أولى مبدئية على الدرب الطويل نحو ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة تستند إلى مبدأ الشمولية للجميع والتمثيل المحلي، بدلاً من ممارسة المركز الإقصاء والقمع. وبهذا المعنى، قد تكون هذه القوى أفضل أمل لاستعادة الاستقرار في هذه البلدان الهشّة. لكن في نهاية المطاف، فإن تشكيل الحرس الوطني يجب أن يرتبط بالإصلاحات في ميادين أخرى، إذا ما أُريد لهذه المقاربة أن تنجح. والأولوية القصوى هنا هي الإصلاح داخل قطاع الأمن نفسه، بما في ذلك ترقية ثقافة التعاون بدل التنافس، وتعزيز حلقات القيادة والإشراف الدقيق بين الميليشيات وبين أجهزة الأمن النظامية. وثمة أمر ملحّ آخر هو الإصلاح السياسي، الذي يؤثِّر على الطريقة التي تُوزَّع فيها السلطة وتُستوعَب بموجبها الأقليات العرقية – الطائفية والمجموعات الأخرى في تضاعيف الدولة.
دور الميليشيات المتنامي
- بعض الميليشيات ترتبط بالأحزاب الحاكمة وتستمدّ المقاتلين مباشرةً من مناصري النظام. في المقابل، تتكوّن فصائل أخرى من فصائل ثورية سابقة أو منشقّين من مجموعات إرهابية ومتمرّدة، وغالباً ما تسعى هذه الميليشيات إلى الإبقاء على استقلاليتها حتى لو أعلنت الولاء ووضعت نفسها في خدمة الدولة.
- في العديد من البلدان العربية، بما فيها العراق وليبيا وسورية واليمن، تضطلع الميليشيات بدور مهم في عمليات مكافحة التمرّد والإرهاب.
- غالباً ما تكون الميليشيات أقل تكلفة وأكثر ليونة من قوات الأمن النظامية، كما تتمتّع بمعرفة محلية أكبر، ما يتيح لها أن تنشط بفاعلية في المناطق حيث لا تستطيع قوات الأمن النظامية العمل فيها أو هي لا تريد ذلك .
- غالباً ما تفتقر الميليشيات إلى المهنية، وقد ترتكب أعمال عنف ضد السكان المدنيين، فيما تتيح للأنظمة تنصّلاً مقبولاً وحصانة في وجه التنديد الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان. من الخطر الاعتماد على الميليشيات. فهي قد ترفض الانصياع إلى الأوامر، أو قد تنقلب على رعاتها الدوليين. وحتى لو كانت الميليشيات وفيّة، فهي غالباً ما تفتقر إلى التدريب والمعدّات الضرورية لمواجهة أعداء أقوى. وقد يؤدّي انتشارها إلى ضعضعة احتكار الدولة لاستخدام القوة.
كيف يُمكن للحرس الوطني المساعدة على تأمين الاستقرار؟
يمكن للحرس الوطني أن يؤمّن روابط رسمية وقانونية بين مقاتلي الميليشيات المحليين وبين الدولة. قد يساعد تنظيم الحرس الوطني على طول خطوط المحافظات والبلديات في تحقيق أكبر قدر من الدعم المحلي، وربط القوات المحلية بهيكلية القيادة الوطنية في الوقت نفسه. لن تكون القوات الجديدة فعّالة إلا إذا تم إطلاقها كجزء من إصلاحات أوسع للقطاع الأمني. يتطلّب الدمج الناجح للحرس الوطني تعديلات في ثقافة الأجهزة الأمنية الرئيسة وتدريبها للحدّ من انعدام الثقة والمنافسة في ما بينها. وينبغي أن يترافق إطلاق برامج الحرس الوطني مع إصلاحات سياسية وتقاسم السلطة. يمكن للحرس الوطني أن يعزّز الترتيبات الاتحادية التي توفّر الحكم الذاتي المحلي، فيما تساعد على ضمان ولاء المقاتلين للدولة وتعزيز التماسك السياسي. ولكن انتقال السلطة العسكرية وحده ليس بديلاً عن إقامة تسوية سياسية بين الحكومة المركزية وبين الأقليات الإثنية – الطائفية أو المناطقية.
مقدّمة
عمد العراق وليبيا وسوريا واليمن – وهي الدول التي تُواجِه جميعاً مشكلة الجيوش الوطنية التي انهارت بنسب متفاوتة – إلى إقامة تحالفات بشكل مطّرد مع فصائل مسلحة بهدف محاولة ضمان أمنها. هذا التفكّك للجيوش – الذي بدأ في العراق مع إطاحة الولايات المتحدة لصدام حسين في العام 2003 وفي بلدان أخرى على إيقاع ثورات العامَين 2011 و2012- سببه المجابهات مع الاحتجاجات الشعبية، والمعارك المتصاعدة مع مجموعات مُتمرّدة يرتبط العديد منها بالحركات الراديكالية الإسلامية. بيد أن الانشطارات الداخلية، بما في ذلك التنافسات العشائرية في اليمن، والتصدّعات بين المدن والمناطق في ليبيا، والانشقاقات الطائفية في سوريا والعراق، سرّعت من وتيرة هذه الانهيارات. العديد من هذه الميليشيات الموالية للحكومة، والمتحالفة الآن مع هذه الدول المُحاصرة بالاضطرابات، نُظّمَت على أُسُس عِرقية – طائفية أو روابط قَبَلِية. وهي تُكمِّل، أو أحياناً تكون بديلاً للجيش والشرطة الضعيفين أو الغائبين كمصدر للأمن المحلي. ولاحقاً، يمكن لهذه الميليشيات أن تشكِّل منطلقاً لتشكيل جهاز حرس وطني جديد. ومثل هذه المقاربة قد تفيد من القواعد المحلية الداعمة للفصائل، فيما يجري العمل لدمجها في هيكلية قيادة وطنية.
بالطبع، مفهوم الحرس الوطني تواجهه عقبات عديدة وصعبة، كما تبيّن بوضوح خلال دراسة هذه التجربة في العراق وليبيا. إذ إن هيكلية الحرس تطرح أسئلة كبرى حول قضية تماسك الدولة ككل، وحول عملية المساءلة فيها. فهذه القوى قد تُضعِف الدولة بدل أن تعضدها. لكن، إذا ما بُنِيَت على أُسُس سليمة، فقد تخدم كخطوات أولى مبدئية على الدرب الطويل نحو ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة تستند إلى مبدأ الشمولية للجميع والتمثيل المحلي، بدلاً من ممارسة المركز الإقصاء والقمع. وبهذا المعنى، قد تكون هذه القوى أفضل أمل لاستعادة الاستقرار في هذه البلدان الهشّة.
لكن في نهاية المطاف، فإن تشكيل الحرس الوطني يجب أن يرتبط بالإصلاحات في ميادين أخرى، إذا ما أُريد لهذه المقاربة أن تنجح. والأولوية القصوى هنا هي الإصلاح داخل قطاع الأمن نفسه، بما في ذلك ترقية ثقافة التعاون بدل التنافس، وتعزيز حلقات القيادة والإشراف الدقيق بين الميليشيات وبين أجهزة الأمن النظامية. وثمة أمر ملحّ آخر هو الإصلاح السياسي، الذي يؤثِّر على الطريقة التي تُوزَّع فيها السلطة وتُستوعَب بموجبها الأقليات العرقية – الطائفية والمجموعات الأخرى في تضاعيف الدولة.
الدور المتطوّر للفصائل
كان للحكام العرب دوماً علاقات ازدواجية متناقضة مع الميليشيات والقوى المسلحة الأخرى غير الدولتِية. فالعلّامة العربي ابن خلدون افترض وجود توتر وتنافس كامنَين بين الدولة وبين القبائل المُولَعة بالحرب، والتي كانت تجوب المناطق الداخلية غير الحضرية، بيد أن الدول غالباً ما كانت تلجأ إلى شيوخ القبائل وقادة المجموعات العسكرية والعصابات الإجرامية للمساعدة على تحصيل الضرائب، وفرض الأمن والنظام، وقمع المتمردين. كل الامبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية، جنّدت القوات القَبَلية لمساعدتها على ممارسة السيطرة. غداة حصولهم على الاستقلال في أوائل منتصف القرن العشرين، جَهَدَ الحكام العرب بقوة للاقتراب من تعريف “ماكس فيبر” Max Weber الشهير للدولة على أنها “الكيان الذي يحتكر شرعية ممارسة القوة”، فشكّلوا الجيوش الوطنية الضرورية للحفاظ على البقاء، في منطقة تشوبها الحروب المتكررة بين الدول. بيد أن هذه الجيوش وُظّفَت أيضاً لقمع المعارضة والتمرّدات الداخلية ضد الدولة. وقد عدّ الضباط العسكريون أنفسهم حائزين على مواقع فريدة ومُتمتّعة بالامتيازات، وغالباً ما استولوا على السلطة بأنفسهم باسم الأمة. ولذا، أصبحت الانقلابات العسكرية سمة متواترة في السياسات العربية من الثلاثينات إلى أوائل السبعينات. وبدءاً من الخمسينات وحتى السبعينات، حاولت بعض الأنظمة المرتبطة بالمعسكر القومي العربي الاشتراكي الراديكالي أن تحصِّن نفسها ضد الانقلابات العسكرية، من خلال تشكيل فصائل تابعة للحزب الحاكم، وفق نموذج (إلى هذا الحدّ أو ذاك) اللجان الشعبية والميليشيات في الاتحاد السوفييتي. وقاوم ضباط الجيش النظامي ما يعدونه انتهاكاً من قبل مدنيين غير مدربين لعرينهم المهني. بيد أن هذه الميليشيات لم تكن في الواقع أكثر من مجموعات من سفاكي الحزب الذين يُروِّعون شخصيات المعارضة.
مع بداية السبعينات والثمانينات، برز نموذج مزدوج من طبقتَين لتنظيم أجهزة الأمن في العديد من البلدان العربية. الطبقة الأعمق والأوطد تشكّلت من أجهزة أمن وحرس رئاسي كثيفَي التسليح، تحدّرت عناصرها من أقارب الحكام وأتباعهم. المسؤولية الرئيسة لهذه الطبقة هي إجهاض الانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية. أما الطبقة الخارجية فتكوّنت من الجيش والشرطة اللذين يمكن نشرهما في حال نشوب حروب أجنبية أو تمرّدات شعبية. لكن هذا الطراز من تقسيم العمل اعترضته جملة مشاكل، بما في ذلك تسعير التنافسات بين الأجهزة وانعدام الثقة، ما أعاق الفاعلية القتالية الفعلية. مثل هذه البنية التنظيمية ماتزال قائمة في مصر والجزائر ومَلَكِيات الخليج العربي، حيث ماتزال الجيوش متماسكة، وإن كانت متضخّمة. هذه الجيوش الوطنية لا تحوز سوى على قدرات محدودة لاستعراض القوة، مع بعض مواقع استثنائية تتمثّل في فرق العمليات الخاصة وسلاح الجو. وما يزال الدور الأكثر أهمية لها هو منع الانقلابات العسكرية واستخراج العوائد للقواعد الموالية. لكن في العراق وليبيا وسوريا واليمن، حيث الجيوش انهارت، يُلقي صعود الميليشيات الموالية للحكومة أضواء كاشفة على معضلة مثيرة للقلق. فمن جهة، باتت هذه الميليشيات تلعب دوراً مهماً في مكافحة التمرّد والإرهاب، وغالباً في مناطق لا تستطيع أجهزة الأمن النظامية العمل فيها أو هي لا تريد ذلك. كما أن العديد من عناصر هذه الميليشيات، يأتي من فصائل متمردة سابقاً ومن منشقّين عن مجموعات متمردة، ما يمحضهم معرفة فريدة بالظروف والأرض المحلية. وعلى سبيل المثال، في أوائل العام 2015 ساعدت الميليشيات الشيعية “الحشد الشعبي” في العراق على استعادة السيطرة على مدينة تكريت من تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ فيما ساعدت الميليشيات من مصراتة، وهي مدينة ساحلية غرب ليبيا، في منازلة قوات “الدولة الإسلامية” التي كانت احتلّت جزءاً من بلدة سرت المجاورة، فضلا عن قرى أخرى محيطة بها.
من جهة أخرى، هناك مروحة من المخاطر الكامنة في تعبئة هذه القوى غير الدولتية. فالحكومات يمكنها استخدام الميليشيات كوكلاء لها، فتهاجم المدنيين، فيما هي تحتفظ لنفسها بدرجة ما من صدقية التنصّل من المسؤولية ومن ثم تجنُّب الرقابة الدولية. ثم إن الميليشيات نفسها غالباً ما تفتقد إلى التدريب والمهنية، ما يجعلها ميّالة إلى خرق حقوق الإنسان، وإلى العمليات الإجرامية العامة.
فصائل الشبيحة السورية توضح أبعاد هذه المعضلة. فهي انبثقت من شبكات التهريب والابتزاز والرشى التي كانت تعمل بحماية نظام الرئيس بشار الأسد. صحيح أن عناصر الشبيحة وفَّروا قدراً من الحماية للأقليتين العلوية والمسيحية من هجمات “الدولة الإسلامية” ومتطرفين إسلاميين آخرين، إلّا أنهم توّرطوا أيضاً في ارتكاب فظائع، مثل الاغتصابات والتعذيب والقتل الجماعي.
بمعنى أوسع، الاعتماد على الميليشيات قد ينسف الجهود لإعادة توكيد احتكار الدولة لاستخدام القوة. ففي اليمن على سبيل المثال، وافقت الدولة على تشكُّل فصائل اللجان الشعبية في العام 2011 لمواجهة تعدّيات متطرفي أنصار الشريعة المرتبطين بالقاعدة في محافظة أبين الجنوبية. نجحت هذه اللجان في صدّ تقدُّم الإسلاميين، وحظيت بقدر من الدعم الشعبي لإقدامها على إلغاء فرض الشريعة. لكن، في حين أن هذه اللجان أبدت الولاء للحكومة في صنعاء، إلا أنها أصبحت شرسة بشكل متزايد ضد المدنيين، واستخدمت العنف لتسوية الصراعات الانتقامية القَبَلية والشخصية، وباتت تطالب بحصة أكبر من زبائنية الحكومة. وخلال تقدّم المتمردين الحوثيين في أوائل 2015، كانت اللجان الشعبية عاملاً رئيساً في الجهود الدفاعية للرئيس عبد ربه منصور هادي.
طُرِحَت في العديد من البلدان العربية فكرة تحويل المقاتلين غير الرسميين إلى قوات حرس وطني رسمي في مراحل مختلفة، كوسيلة لحلّ بعض هذه المشاكل. فمن شأن مثل هذا الحرس أن يُضفي الشرعية ويصوغ بشكل رسمي العلاقات بين الدول وبين الميليشيات الموالية للحكومة. ومن خلال توفير أقنية التجنيد، وتعبئة الميليشيات كمساند احتياطي للجيش، تسمح هذه الإجراءات أيضاً للحكومات المركزية الضعيفة بمكافحة المتمردين والجماعات الإرهابية بفاعلية أكبر.
ومع ذلك، كانت الجهود لبناء سلك حرس وطني في ليبيا والعراق فاشلة حتى الآن. ففي كلا الحالتين، برزت مقاومة ليس فقط من بعض الأعضاء المرشحين للانضمام إلى الحرس الوطني، بل أيضاً من قِبَل فصائل سياسية، وأعضاء في القوات المسلحة النظامية، ومجموعات مجتمعية أخرى. في ليبيا، عارضت الميليشيات الأكثر علمانية وطبقة الضباط القدماء برنامج الحرس الوطني؛ لأنهم رأوا فيه مسعى من الميليشيات الإسلامية لتحدّي الجيش النظامي. وبالمثل، وفي العراق، حيث كان الهدف من الحرس الوطني تحفز السنّة على الانضمام إلى القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، سقطت الفكرة ضحية النزاعات البرلمانية حيال مداها ودورها، خاصة من جانب الميليشيات الكردية والشيعية. وعليه، التمحُّص في هذه الجهود المُحبَطَة من شأنه المساعدة على توضيح إمكانات الحرس الوطني لإعادة بناء الدول العربية، وأيضاً حدود هذه الإمكانات.
الحرس الوطني العراقي: أداة للقوة السنّية؟
في أواخر العام 2014، حين كان العراق يجهد لاحتواء تقدُّم تنظيم “الدولة الإسلامية”، دعا مسؤولون عراقيون وأميركيون إلى تشكيل حرس وطني، كوسيلة لدمج الميليشيات القَبَلية السنّية في هيكلية القيادة الوطنية. هذا الاقتراح له الكثير من القواسم المشتركة مع حركة الصحوة السنّية في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، حين دعمت الولايات المتحدة تكوين فصائل سنّية للمساعدة على إلحاق الهزيمة بتنظيم القاعدة في العراق. بيد أن الفكرة الجديدة الخاصة بتشكيل حرس وطني عراقي جديد، واجهت العديد من العقبات وفشلت في التجسُّد على أرض الواقع.
تجربة الصحوة السنّية
ظاهرة الميليشيات شهدت صعوداً في العراق منذ إطاحة الرئيس السابق صدام حسين في العام 2003. وكانت الولايات المتحدة سارعت إلى حلّ الجيش العراقي ووحدات الشرطة فوراً، وعدتهما حصناً للنظام القديم، كما خشيت أن يكونا مصدراً لانقلابات عسكرية. في هذه الأثناء، كانت الأحزاب الشيعية والكردية التي هيمنت على الحكومة المُشكَّلة حديثاً، تعتمد على قوات خاصة بها والمستقلة ذاتياً. فقد كان للحزبَين الكرديَّين الرئيسَين وحدات بيشمركة خاصة بهما، كما كان للأحزاب السياسية الشيعية فصائلها المسلحة التابعة لها، على غرار قوات بدر (الآن منظمة بدر) التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (الذي أُعيدَت تسميته إلى المجلس الأعلى الإسلامي العراقي). وظهرت أيضاً قوات أخرى لتوفير الأمن وإبراز العضلات السياسية لطامحين سياسيين جدد، على غرار رجل الدين الشيعي السيد مقتدى الصدر وجيشه المسمى بـ”جيش المهدي”.
في هذه الأثناء، وفي المناطق السنّية في شمال وغرب العراق، عمد المتمردون، والإسلاميون، والميليشيات القَبَلية، إلى ملء الفراغ بسرعة، بهدف إحباط مخطّطات الحكومة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. وفشلت الأخيرة في مساعيها لحشد الموارد الكافية للمساعدة على تسريح وتجريد ضباط الجيش السابقين ومقاتلي الميليشيات من السلاح في هذه المناطق، ثم إعادة دمجهم في الحياة المدنية. أكثر من ذلك، تردّدت الأحزاب السياسية الشيعية في التخلّي عن قوات أو الميليشيات التابعة لها، وامتنع السنّة من ذوي الخبرة العسكرية عن العمل مع من عدوهم مدنيين غير مهنيين وغير مدرّبين وتحالف العديد منهم مع إيران والولايات المتحدة.
عشية العام 2006، كان العراق في حالة حرب عرقية – طائفية تامة. فالإرهابيون من السنّة استخدموا العبوات الناسفة المُرتجَلة، والقصف، والهجمات الانتحارية ضد الشعب العراقي من الشيعة والأكراد و”أهداف أميركية”. والحكومة شنّت حربها الخاصة بها، مُستخدِمةً الخطف والتعذيب والاغتيالات ضد المُشتبَه بأنهم إرهابيون سنّة. وغالباً ما استعملت لهذا الهدف الميليشيات التي عملت بالتنسيق مع قوات وزارة الداخلية في ذلك الوقت.
كان هذا هو السياق الذي بدأت خلاله الولايات المتحدة بتمكين القبائل السنّية وتجنيدها بفاعلية، كوسيلة لقطع صلاتها بالتمرّد. وهكذا، استندت الصحوة السنّية إلى صفقة مهمة بين الولايات المتحدة والقبائل، تقوم بموجبها الأولى بتوفير الوظائف والسلاح للقبائل، وتحميها بفاعلية من تدخلات الميليشيات الشيعية وقوات الأمن العراقية. (( على ما يبدو أن الكاتبين هنا ربما لا يمتلك المعرفة الكافية في تأسيس الصحوات العراقية في غرب العراق والغرض منها, أو يتجاهل تلك المعرفة عمداً؛ لأن تشكيل الصحوات العراقية من القبائل لم يكن من القبائل السنية فقط وإنما كان في عدة محافظات سنية وشيعية, وكانت هناك صحوات من قبائل شيعية. أيضا، تأسيس الصحوات في غرب العراق ولا سيما في محافظة الأنبار كان الغرض منه مقاتلة تنظيم القاعدة آنذاك وليس – كما يقول الكاتبان – حماية القبائل السنية من تدخلات الميليشيات الشيعية وقوات الأمن العراقية؛ لأن تلك الميليشيات كانت بعيدة كل البعد عن تدخلها في الرمادي. أما بخصوص أحداث 2006، فقد كان العراق على شفا حفرة من الحرب الأهلية، وكانت هناك عمليات اغتيال من كلا الطرفين، فضلاً عن الأعمال الإرهابية والتفجيرات، وكانت هناك عصابات كثيرة بعضها منظمة وتعمل لأجندة خارجية, وكل ذلك يقع على عاتق الولايات المتحدة لأنها هي مَن كانت تدير الملف الأمني، وهي من ساهمت في تلك الأحداث, ولم تكن جادة في الحفاظ على وحدة العراق وإبعاده عن شبح الحرب الطائفية )). هذا ما جعلها (أي القبائل) تتمتّع عملياً بالحكم الذاتي، وباتت مسؤولة عن اقتلاع المتمردين. وفضلا عن ذلك، فقد كان دعم الأردن والسعودية حاسماً لبناء الروابط والحفاظ عليها مع القبائل السنّية في المناطق الغربية.
مثل هذه المقاربة بدت في بادئ الأمر فعّالة، فوتائر العنف في العراق انحسرت بشكل ملموس في العامَين 2007 و2008، ما أوحى أن الحرب الأهلية وضعت أوزارها. واليوم يبادر العديد من المراقبين إلى طرح تجرية الصحوة كأنموذج يمكن أن تحتذي به عملية بناء حرس وطني مستقبلي في العراق.
بيد أن الحكومة المركزية في العراق لم تكن طرفاً كاملاً في المفاوضات بين الولايات المتحدة والقيادات السنّية، ولم تحتضن البتة خطة الصحوة. وهكذا، ومع انسحاب القوات الأميركية من العراق في العامَين 2009 و2010، بدا أن الحكومة العراقية نكثت بوعودها لدمج هذه القوة، السنّية أساساً في جهاز الدولة، فلم تُجنَّد سوى حفنة من مقاتلي الصحوة السابقين في الشرطة والجيش أو في مواقع أخرى في الحكومة، ومعظم هؤلاء صُرِفوا من الخدمة لاحقاً أو عُرِضَت عليهم وظائف وضيعة. ثم بدأت حكومة رئيس الوزراء آنذاك “نوري المالكي” بتنفيذ أحكام القضاء العراقي في حق من أدينوا بالإرهاب من سياسيين سنة، وهم الذين أتهموا بدعمهم وممارستهم للإرهاب بحق أبناء الشعب العراقي. أيضاً، كانت هناك ممارسة سياسات خاطئة وهدّامة في بناء الدولة العراقية.
قبل نهاية العقد، بدأت القبائل الساخطة بالعودة ثانية إلى التعاون مع بقايا قوات حزب البعث التي كانت مُختبِئة في الشمال السنّي، ومع الجماعات المتطرفة على غرار “الدولة الإسلامية” التي بدأت نشاطها في إطار تنظيم القاعدة في العراق، والتي تزايدت قوتها بشكل كاسح بعد أن سنحت لها فرصة إقامة ملاذ آمن في سوريا حين اندلعت الحرب الأهلية فيها العام 2011.
في هذه الأثناء، تواصل التخالط بين الدولة وبين القوى المسلحة غير الدولتية المتحالفة مع الحكومة. فمن جهة، سيطر المالكي على قوات النخبة في جهاز العمليات الخاصة، التي تلقّت تدريباتها وتجهيزاتها من الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، بدا أن الميليشيات الشيعية الأخرى المرتبطة بمنافسي المالكي، مثل “جيش المهدي” التابع للصدر، تتحلل. فيما تُواصِل صفوف الجيش العراقي وباقي فروع أجهزة الأمن التوسّع بدعم غربي.
رابط المقال: http://carnegie-mec.org/2015/05/07/ar-60013/i8af