تقرير الشرق الأوسط رقم 158
تلخيص وتحليل: ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
الملخص التنفيذي
قدمت الدول الغربية – التي انتظمت في تحالف صُمِّم لمقاتلة تنظيم “داعش” – المساعدات العسكرية لأكراد العراق على وجه السرعة لمواجهة هجمة
تنظيم “الدولة الإسلامية” في حزيران 2014. غير أن ھذه الدول أخفقت في وضع استراتيجية للتعامل مع تبعات تسليح الكيانات داخل الدولة العراقية في الوقت الذي تدعم فيه وحدتھا. وبدلاً من صياغة رد عسكري قوي وموحّد تجاه تهديد تنظيم “داعش”، فإن تعزيز قدرات القوات الكردية سرّعت من تشظّي الكيان السياسي الكردي، وزاد من حدة التوترات بين ھذه القوى من جھة والجماعات غير الكردية من جھة أخرى في المناطق المتنازع عليھا، وقوّى شوكة القوى الساعية للانفصال عن العراق.
تستند المساعدات العسكرية التي يقدمها التحالف إلى اعتقاد مفاده أن تقديم الأسلحة والتدريب للقوات الكردية، المعروفة بقوات البيشمركة، سيحسّن من أدائها في مواجهة تنظيم “داعش”، إلا أن الوضع المتغّير للسياسات الكردية العراقية يقدّم صورة أكثر غموضاً؛ أو أن الحزبين المهيمنين المتنافسين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) يبتعدان فعلياً عن الاتفاقية الاستراتيجية الإطارية التي حققت الاستقرار لعلاقاتهما بعد مرحلة الصراع وسمحت لھما بتشكيل جبھة موحّدة أمام الحكومة المركزية وكذلك أمام إيران وتركيا المجاورتين. أضف إلى ذلك أن قائديهما التاريخيين (مسعود برزاني وجلال طالباني) باتا في خريف مسيرتهما السياسية، ما يدفع بصراع على السلطة داخل نخب الحزبين.
ولذلك فإن ھذه اللحظة تعتريها الكثير من الھشاشة، بدلاً من تعزيز الوحدة والمؤسسات الكردية، إذ إن تجليات “الحرب على الإرهاب” تثير توترات قاتلة وتقوّض كل التقدم الذي تحقق في تحويل البيشمركة إلى قوة عسكرية حيادية سياسياً تخضع لقيادة واحدة، كما أنها تمھد الطريق لتجدّد التدخل الخارجي في الشؤون الكردية، خصوصاً من قبل إيران، ويشجع الأكراد على محاولة السيطرة على مزيد من الأراضي وعلى الموارد في المناطق التي يدّعون أنھا جزء من إقليمهم الذي يتمتع بالحكم الذاتي، مما يزيد من تعقيد علاقاتهم مع جيرانهم العرب السنة وحكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي.
ظاھرياً، وبعد تقديم المساعدات العسكرية في البداية للحزب الديمقراطي الكردستاني في آب/أغسطس 2014 فإنھا عادت بالفائدة بشكل غير متناسب على الحزب الديمقراطي الكردستاني (القوة المهيمنة في أربيل عاصمة الإقليم)، ومن ثم دفعت الاتحاد الوطني الكردستاني إلى مزيد من الاعتماد على المساعدات العسكرية الإيرانية والتحالف مع حزب العمال الكردستاني، المنظمة الكردية المتمرّدة العاملة في تركيا. لقد حان الوقت كي ترتّب قيادة إقليم كردستان بيتھا الداخلي. يمكن لھا أن تفرح بالدعم المؤقت في حربھا ضد تنظيم الدولة، إلا أن المشاكل القديمة سرعان ما ستعود، ويمكن أن تشكل تھديداً أكثر خطورة على استقرار الإقليم من أي تھديد يمكن لتنظيم الدولة نفسه أن يشكله.
التوصيات
إلى حكومات الولايات المتحدة والدول الأخرى الأعضاء في التحالف:
1. تأسيس قيادة مركزية للتحالف يتم من خلالھا تقديم الدعم العسكري لأكراد العراق وتكليف ھذه القيادة بما يلي:
أ) تنسيق تقديم الأسلحة لقوات البيشمركة الكردية وتدريبھا عليھا من قبل الدول الأعضاء في التحالف.
ب) ضمان أن يتم توزيع الأسلحة وأن تستخدم بشكل حصري من قبل الألوية المشتركة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
ج) إشراك وزير شؤون البيشمركة وقادة الألوية من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في التكتيكات العسكرية واستخدام الأسلحة المقدّمة من التحالف.
د) جعل الدعم العسكري مشروطاً بتنسيق العمليات ضد تنظيم الدولة مع الجھات الفاعلة غير الكردية في المناطق المتنازع عليھا ومع حكومة العبادي، ووضع خطة مع حكومة بغداد لمرحلة ما بعد تنظيم الدولة تنص على استعادة المؤسسات المحلّية وقوات الأمن في ھذه المناطق.
إلى وزير شؤون البيشمركة وقيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني
الكردستاني:
2. تأسيس غرفة عمليات مشتركة تجمع الوزير، وقادة الألوية المشتركة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني والأجهزة الأمنية المعنية لوضع استراتيجية أمنية وطنية كردية تسھل تسليم المساعدات العسكرية التي يقدّمھا التحالف.
3. الاستمرار في دمج القوات شبه العسكرية في الألوية المشتركة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني التابعة لسلسلة قيادة واحدة والامتناع عن نشر القوات غير النظامية ضد تنظيم الدولة.
4. تحسين التنسيق مع حكومة العبادي والجيش العراقي بشأن تقديم الأسلحة والتدريب لحكومة إقليم كردستان.
5. استكمال إدماج الأجھزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في حكومة إقليم كردستان.
إلى رئاسة إقليم كردستان:
6. تشجيع توحيد المؤسسات في حكومة إقليم كردستان بشكل عام ووزارة شؤون البيشمركة بشكل خاص وتحريرها من سيطرة الأحزاب.
7. إشراك حكومة العبادي في الترتيب لمستقبل المناطق المتنازع عليھا والمؤسسات المحلية والامتناع عن إطلاق الدعوات لاستقلال الأكراد.
8. مضاعفة الجھود لتنسيق العمليات الأمنية الإقليمية لحكومة إقليم كردستان مع حزب العمال الكردستاني والقوات المتحالفة معه.
إلى الحكومة العراقية:
9. وضع استراتيجية أمنية مشتركة مع حكومة إقليم كردستان لمواجھة تنظيم الدولة، والعمل مع حكومة الإقليم لتسوية النزاعات العالقة حول صادرات النفط واعتمادات الموازنة.
إلى الحكومتين التركية والإيرانية:
10 . دعم جھود التحالف الرامية إلى مأسسة قوات البيشمركة وتعزيز تعاونها مع الحكومة المركزية.
تسليح أكراد العراق: محاربة تنظيم الدولة واستدراج الصراع
مقدمة
من أجل مواجهة تنامي تنظيم الدولة في شمال العراق، حصل الفصيلان الكرديان الرئيسان (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) على الدعم العسكري من تحالف يضم 60 دولة شُكِّل لمحاربة التھديد الإرهابي. ويقدَّم ھذا الدعم كحل مؤقت، دون وجود استراتيجية شاملة. المخاطرة ھي أن ھذا ربما يساعد في وقف تقدّم تنظيم الدولة، لكنه قد يعزز أيضاً سيطرة الأكراد على المناطق الغنية بالنفط والغاز المتنازَع عليھا والتي يزعمون منذ وقت طويل أنھا لھم، وھو ما يسھم في توتير وضع محلي متقلّب أصلاً؛ وتوسيع الفجوة الملحوظة في صفوف الأكراد والتي تلحق الضرر بمعركتهم ضد تنظيم الدولة وتسمح بالتدخل الإقليمي؛ وتُفاقم التوترات بين حكومة إقليم كردستان وبغداد التي يمكن أن تھدد وحدة الدولة والبلاد.
بعد أن فرض تنظيم الدولة وجوده في العراق في مطلع عام 2014 ، ومن ثم وسّع سيطرته على الأراضي في سائر المناطق التي تقطنها أغلبية من العرب السنة، استغلت قوات حرس إقليم كردستان (البيشمركة) تفكُّك الجيش للاستيلاء على بعض المناطق المتنازَع عليھا، بما في ذلك مدينة كركوك، مما دفع الفصائل الشيعية والكردية في حشد الأنصار لمواجهة خطر سيطرة التنظيم على بعض المحافظات العراقية الحدودية مع اقليم كردستان والعاصمة. ومع تھديد المسلحين بالزحف نحو الجنوب، أصدر آية لله العظمى علي السيستاني (الزعيم الأكبر للشيعة في العالم) دعوة إلى حمل السلاح نتج عنھا حشد آلاف المتطوعين التي سميت فيما بعد بـ”الحشد الشعبي”, وأعلن مسعود برزاني (رئيس إقليم كردستان) نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة الكردية، وأكد أن الاستقلال بات الآن ھدف الأكراد، ليستمر السياسيون العرب السنة في استقطاب التشكك وانعدام الثقة العميقين من المجموعات التي يفترض أنھم يمثلونها بعد خلافات سابقة مع حكومة المالكي.
في آب/2014، وبعد هجوم التنظيم على سنجار التي تقطنها الأقلية الأيزيدية (الذين تعتبرهم الأحزاب الكردية أكراداً) والمناطق العربية الكردية المختلطة المحيطة ببلدة مخمور، مخترقة دفاعات الأكراد وأصبحت على مرمى حجر من حدود إقليم كردستان وعلى بعد حوالي 45 كم من عاصمته أربيل، هذا دفع إيران – وخلال ساعات – إلى تقديم دعم عسكري للأكراد. وشنت الولايات المتحدة ليلة الثامن من آب الجولة الأولى من ضرباتها الجوية مستهدفة مواقع تنظيم الدولة قرب مخمور، بينما أرسلت تعزيزات عسكرية لقوات البيشمركة. تبعتها فرنسا والمملكة المتحدة بتقديم الحماية الجوية والمساعدات العسكرية والتدريب للبيشمركة.
بصرف النظر عن الدعم العسكري المباشر، فإن الأمر الملفت كان سرعة إيصال ذلك الدعم، والافتقار إلى استراتيجية سياسية متكاملة لتنسيقه والفشل في مراقبة أين ذهب أو كيف تم استخدامه، وھي ممارسة معيارية في المساءلة في معظم العلاقات القائمة بين الجھات المانحة والجهات المستقبِلة استناداً إلى المتطلبات القانونية، وخضوع ذلك للمراجعة البرلمانية. ھل كان ھناك حسابات ضمنية مفادها أن محاربة تنظيم الدولة تفوق أي آثار جانبية سلبية ناجمة عن توزيع الأسلحة على الكيانات داخل الدولة العراقية؟ ھل كان أحد يعرف ما قد تكون تلك الآثار؟
ظاهريا، كان الأكراد ھم أكبر الرابحين، حيث إن الأزمة سرّعت في إحداث تغيير دراماتيكي في كيفية النظر إليهم وإلى دورهم في المنطقة. رغم ذلك، ثمة ما يدعو إلى القلق من أن المساعدات الغربية للأكراد، وكذلك المساعدة الإيرانية لهم، تُسرِّع في تفكك السياسة الكردية العراقية التي بدأت قبل ظهور تنظيم الدولة بكثير وتمھد الطريق لصراعات جديدة في الوقت الذي تُخفق فيه في تسوية الصراعات الراهنة.
المشهد السياسي المنقسم للأكراد
أـ يقفون معاً منقسمين
منذ خروجه من ظل نظام صدام حسين عام 1991 ، تشكّل إقليم كردستان بعمق من خلال حكم الحزبين السياسيين الرئيسيين فيه (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، استناداً إلى صراعھما على مدى عقود من أجل التحرر القومي. بعد أول انتخابات برلمانية في أيار/مايو 1992 ، بينما اضطلع الحزبان بمھمة الحكم، أبقيا السلطة الحقيقية في يد الحزبين، بدعم من قوات الأمن في كلا الحزبين. واستناداً إلى الاختلافات التاريخية، والثقافية واللغوية، تمدد الحزب الديمقراطي الكردستاني في محافظتي أربيل ودهوك، في حين كان معقل الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية وأربيل أيضا. وبعد الغزو الأمريكي عام 2003 ، اصبحت محافظة كركوك، خارج إقليم كردستان ضمن المناطق المتنازَع عليھا.
وفيما يعكس بشكل تقريبي نتائج الانتخابات، فإن الحزبين اتفقا على تقاسم وزارات الحكومة الجديدة مناصفة وعُيِّن في كل وزارة نائب للوزير من الحزب المنافس. سرعان ما تبين عدم نجاح ذلك الترتيب. وبعد عامين اندلع القتال بين الحزبين على إيرادات الجمارك. في عام 1996 ، أخرج الحزب الديمقراطي الكردستاني – بمساعدة من الجيش العراقي – الاتحاد الوطني الكردستاني من أربيل، وتركه ينشئ حكومة منفصلة في السليمانية. عندما أطاحت الولايات المتحدة بنظام صدام، كان ذلك الترتيب القلق قد ترسّخ، رغم أن الأحزاب كانت قد توصّلت إلى تسوية بوساطة أمريكية. حتى عندما أسسا حكومة مشتركة لإقليم كردستان في أربيل، احتفظا بنظامين متوازيين بحكم الأمر الواقع في الحكم، واحتفظ كل منھما بأجھزته العسكرية والأمنية، وأنماط الإحالة وقواعد الترفيع والتراتبية سواء بالنسبة لموظفي الخدمة المدنية أم مقاتلي البيشمركة، بشكل يفرض الولاء للحزب في سائر مفاصل الحكومة.
في عام 2007 ، توصّل الحزبان إلى “اتفاق استراتيجي”، وھو في الواقع اتفاق شخصي بين الزعيمين برزاني وطالباني، أكد ترتيب التقاسم مناصفة سواء في الحكم أم في توزيع الموارد، ووعد بتوحيد الإدارات والأجھزة العسكرية والأمنية بشكل تدريجي تحت سقف حكومة إقليم كردستان. ومنذ ذلك الحين، تعاون الحزبان في المسائل ذات المصلحة المشتركة، مثل احتواء الأطراف التي تتحداهما من خارج الحزبين، والتعبير عن موقف مشترك حول المناطق المتنازَع عليھا، وتنسيق مقاربة موحّدة للعلاقات مع بغداد، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بسياسات متمايزة لمناطق كل منھما. علاوة على ذلك، فقد طوّر كل منھما علاقات سياسية واقتصادية مختلفة مع شركاء إقليميين مختلفين: الحزب الديمقراطي الكردستاني مع تركيا، والاتحاد الوطني الكردستاني مع إيران.
وما يقارب عقد من الزمن، ظلّت حكومة إقليم كردستان مبنية على ھذا الأساس ثنائي القطب، وقد حافظ ھذا على المصالح المحلية والإقليمية في حالة من التوازن وشكل ضماناً للاستقرار. لكن بمرور الوقت، تبين أن ھذه الترتيبات غير مستدامة. ازدھر الإقليم اقتصادياً، إلا أن الفساد المحمي من المستويات العليا في الأحزاب (خصوصاً فيما يتعلق بالأراضي)، والواسطة والمحسوبية القائمة على الولاء الحزبي، وفشل القيادة بتجديد تركيبتها والتواصل مع الأجيال الجديدة بدأت بالانسياب إلى جميع مفاصل المجتمع الكردي.
بدأت التصدّعات بالظھور أولاً في الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي أسس المنشقون عنه عام 2009 “غوران” (الحركة من أجل التغيير). استندت شعبية غوران ونجاحه الانتخابي كحزب سياسي ذلك العام إلى إداناته العلنية والشعبوية للممارسات السياسية المستندة إلى الوصاية والمحسوبية لدى كلا الحزبين. ونتيجة لضعف الحزب بسبب النزعات الداخلية ومشاكل اخرى وتقاعد زعيمة العجوز والمريض من السياسة, شكلت انتخابات برلمان اقليم كردستان2013 أدنى مستويات للحزب في تاريخه, وجاء غوران في المرتبة الثانية؛ مما عرض الاتفاق الاستراتيجي بين الحزبيين الرئيسيين للخطر. ونظراً لعدم امتلاك غوران لقوات عسكرية وأمنية خاصة به, والهيمنة الحزبية الطويلة داخل المؤسسات الكردية, لم يتمكن من أن يصبح الشريك الاستراتيجي الجديد للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأخفق في فرض سيطرته العملياتية على المؤسسات التي كانت مليئة بالموظفين الإداريين والأمنيين الذين كانت ولاءاتھم في مكان آخر، وبالتالي فقد جاذبيته التي اكتسبھا كمناھض للوضع الراھن.
حمّل كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني المسؤولية لبعضھما البعض لتعريض الاتفاق الاستراتيجي للخطر. أحد المشرّعين السابقين عن الحزب الديمقراطي الكردستاني قال: لقد حدث تغيّر جذري في توازن القوى داخل كردستان العراق، وھذا يھدد استقرار المنطقة. إن الاتحاد الوطني الكردستاني ھو الجسد المريض في كردستان. لقد أغرقت اضطراباته الداخلية وعلاقته بإيران … حكومة إقليم كردستان في أزمة عميقة. ينبغي أن يتصرف الاتحاد الوطني الكردستاني بمسؤولية وأن يعيد تركيز سياساته على القضية القومية الكردية بدلاً من مصالح بعض أعضائه. ووصف البعض بأن “الاتفاق الاستراتيجي انتهى, عندما دخل غوران المشهد”. فضلا عن ذلك، نشأت توترات مع الحكومة المركزية في بغداد.
ظهور تنظيم “داعش” لم يقرّب بين الحزبين، ولم يؤدِ إلى إعادة إحياء الاتفاق الاستراتيجي أو تشجيع الحزبين على بناء مؤسسات مستقلة عن الأجھزة المرتبطة بالأحزاب. ازداد الاستقطاب الحزبي في السياسة الكردية. وفاقم الصراع من المنافسة تحت السطح بين قيادتي الحزبين وداخل كل قيادة، ورجّح كفة التوازن الداخلي لصالح أعضاء المكتب السياسي ذوي العقلية الأمنية، ومكّنھم على حساب أولئك الذين شكلوا تقليدياً جسراً بين المتنافسين. انتھج الرئيس برزاني سياسته الخاصة به، وروّج لنفسه بوصفه زعيماً لجميع الأكراد، واقترح وضع البيشمركة الكردية العراقية تحت قيادة واحدة “بقيادته”، وطرح اقتراحاً أكثر طموحاً يتمثل في تشكيل مظلة كردية (تضم بيشمركة كردية سورية)، ودعا صراحة للاستقلال، وبذلك أثار الانتقادات حتى داخل حزبه. داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني، عزز الصراع مع تنظيم “داعش” التنافس الداخلي بين فروع قبيلة برزاني، ومكّن المسؤولين الأمنيين الأقرب للرئيس الذين يريدون له أن يكون زعيماً لكل الأكراد ويدعمون الدعوة للاستقلال.
عزز الصراع ثقة الاتحاد الوطني الكردستاني بنفسه، بينما جعل الانقسامات الداخلية أكثر حدة لصالح الشخصيات الأمنية التي تعتمد على دعم إيران مقابل القادة الذين نسجوا علاقات دولية أكثر تنوعاً وتوازنا. بتوجيه إيراني، مھد الاتحاد الوطني الكردستاني الطريق لمشاركة حزب العمال الكردستاني في الشؤون الكردية العراقية، ونشر قوات بيشمركة خاصة به في كردستان السورية لدعم الأعضاء السوريين في حزب العمال الكردستاني، أي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD وجناحه العسكري “قوات حماية الشعب” في كوباني. عزز ھذا من قوة إيران ھناك، وفاقم من انقسامات الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
ونتيجة لهذا الانقسام الداخلي أصبحت عملية صنع القرار بشأن تھديد تنظيم “داعش” مسألة حزبية بقدر ما ھي مسألة عسكرية، وتخضع للأجندات المحلية والإقليمية المعقدة للفصائل. وھذا ما يعرّض استقرار إقليم كردستان للخطر.
ب. سلاسل قيادية منفصلة
الانتماءات السياسية للبيشمركة عميقة جداً. أسس الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحدات شكّلت أجنحتھما العسكرية لمقاومة الحكومة المركزية، وحاربت في تمرّد طويل في ثمانينات القرن العشرين وانضمت إلى الانتفاضة الشعبية عام 1991. وبمرور الوقت طورت البيشمركة من اهدافها لتصبح الاطاحة بنظام صدام حسين. تبرز نقاط فشل الحزبين في بناء مؤسسات حكومية غير حزبية في أبرز أشكالها في القطاع الأمني، إدراكاً منھما لكلفة الانقسام في وجه تنامي قوة الحكومة المركزية العراقية بعد عام 2008 . حاول الحزبان تدريجياً إدماج ھيكلياتھما المتوازية، إلا أن أصعب ما واجھاه كان تحرير أجھزة استخباراتيھما من السيطرة الحزبية، وقد تتوج ذلك عام 2009 بتأسيس وزارة شؤون البيشمركة المشتركة، والتي قامت على وحدات مختلطة، وإنشاء إدارة مخابرات فيھا ضباط من كلا الحزبين. وقد كشفت المعارك ضد تنظيم “داعش” الخلل في المنظومة الأمنية الكردية.
يعتمد التعاون بين الحزبين على الأجندات وحسب. قبل ذلك، ومع انسحاب الجيش العراقي من الموصل وكركوك ومناطق أخرى، تم الاتفاق على الانتشار في المناطق المتنازَع عليھا، وتم تقسيم الأراضي جغرافياً. هذا النزاع والاختلاف بين الحزبيين أدى إلى تنامي النزاعات داخل أفراد البيشمركة, واخذت هذه القوات تعاني من نفس الانقسامات الداخلية التي تعاني منھا قيادات الحزبين اللذين يوجھانھا.
إن توسيع نفوذ الحزب على المناطق المتنازَع عليھا جزء لا يتجزأ من حالة التنافس ھذه؛ لأن حالة التنافس هذا يؤدي إلى توزيع النفوذ بين الحزبيين في المناطق المتنازع عليها التي تركت بعد حزيران عام 2014, مما ينعكس سلباً على حرفية ومهنية البيشمركة في المستقبل وفي مواجهة تنظيم “داعش”.
ج. ملعب لإيران وتركيا
تنقسم كردستان العراق جغرافيا بحكم الأمر الواقع إلى منطقتي نفوذ لإيران وتركيا، وتوفر لكلا الجارين القدرة على السعي لتحقيق أجندتيھما، في حين يبقي الأكراد منقسمين في مسعاھم لتحقيق تطلعاتھم بإقامة دولة. وفي الوقت نفسه، أصبح الأكراد حاذقين في استغلال ھذه القوة، وحشد الدعم لتحقيق مصالحھم الخاصة، وتحقيق التوازن بين القوتين ومحاولة الحد من نفوذھما في الشؤون الكردية.
في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية من العراق والاندلاع المتزامن – لكن غير المرتبط بذلك – للأزمة السورية، تنامى النفوذ الإيراني في العراق بشكل مستمر. رسّخت طهران تواجدها في العراق. بحلول عام 2013 تحوّلت الأزمة السورية إلى حرب أھلية، ليصبح هدف طهران فيما بعد هو الحفاظ على نظام الأسد، والمحافظة على اتصالها بحزب لله في لبنان.
عندما ظھر تنظيم “داعش” على مسرح الأحداث عام 2014 ، صعّدت إيران من انخراطھا بشكل دراماتيكي ومكشوف, من خلال دعمها للحكومة العراقية وقوات “الحشد الشعبي” ضد تنظيم “داعش”, ومع ذلك استعملت إيران علاقاتھا مع الأطراف الكردية كأداة للضغط في تعاملھا مع بغداد والاحتفاظ بميزة في النطاق الإقليمي الأوسع.
في العراق، مھدت حظوظ الاتحاد الوطني الكردستاني المتراجعة الطريق أمام طھران لدعم شخصيات في القيادة متعاطفة مع مصالحھا، ولدمج الحزب – الذي تحتفظ معه بعلاقات قديمة – تدريجياً في فسيفساء القوى الموالية لإيران. يَعد مسؤولو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ھذا الدعم ضرورياً لضمان مصالحھم الشخصية والحزبية، أكثر منه مسألة ارتباط آيديولوجي، أو تعبيراً عن دعمه للاستراتيجية السياسية لطھران في المنطقة.
عزّزت طهران قدرة الحزب على التنافس مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. واتّسعت الفجوة بين الحزبين أكثر مع تعميق الاتحاد الوطني الكردستاني علاقاته مع حزب العمال الكردستاني وجناحه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب. وتفاقمت ھذه الأوضاع أكثر فأكثر مع بداية الصراع ضد تنظيم “داعش”. اذ سارعت إيران لإغاثة الأكراد عندما واجھوا في البداية تھديد تنظيم “داعش” في المناطق المتنازَع عليھا في آب/أغسطس 2014 ، وقدموا للاتحاد الوطني الكردستاني المعلومات الاستخباراتية والأسلحة مع احتلال البيشمركة لمواقع في محافظات كركوك، وديالى، وصلاح الدين، تماماً كما كانت تقدم ذلك للفصائل الشيعية في الجنوب.
بعد رمي إيران لثقلھا وراء الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني معزولاً إلى حد ما، ومن ثم أصبح مجبراً على السعي لإقامة علاقات أوثق مع إيران للتعويض عن اعتماده المفرط على تركيا، التي لم تندفع كإيران لمساعدة شريكها الكردي في آب/أغسطس. ولم تترك هجمات تنظيم “داعش” على سنجار ومخمور لبرزاني خياراً سوى طلب المساعدة العسكرية الإيرانية، التي وصلت بسرعة.
منذ بداية الصراع في سوريا، اندفعت السياسة التركية في الاتجاه المعاكس لسياسة إيران. في ظل حكم ورعاية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ابتعدت السياسة التركية تدريجياً عن بغداد بينما متّنت علاقاتھا السياسية والاقتصادية مع الأكراد، حتى أنھا دعمت علناً مسعى برزاني للإطاحة بالمالكي. وعملت على تحويل أصدقائھا في الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى أداة لدعم سياساتھا في كردستان والمنطقة الحدودية، ورأت فيھم قوة تحقق التوازن مع حزب العمال الكردستاني، الذي كان جناحه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd يستعمل الفراغ الذي نشأ بعد رحيل النظام من المناطق الكردية في سوريا لفرض سيطرته.
أدّت الحرب ضد تنظيم “داعش” إلى توتر العلاقات مع أنقرة. وعند لحظة الحاجة، وجد الحزب الديمقراطي الكردستاني تركيا لا تستجيب على الأغلب لمطالبته بالمساعدة الفورية. بدلاً من ذلك، أدانت أنقرة تعاون الحزب الديمقراطي الكردستاني مع حزب العمال الكردستاني ومقاتلي وحدات حماية الشعب ضد تنظيم “داعش”. وفاقمت دعوات برزاني إلى الاستقلال في تموز/يوليو 2014 من انعدام الثقة. مسؤول تركي قال:
برزاني يواجه مأزقاً جدياً، فھو بحاجة لدعمنا، لكنه لن يحصل عليه إذا استمر بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني )حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd “قوات حماية الشعب“). عندما يتحدث برزاني عن الاستقلال الكردي، فإن ذلك لا يخيفنا. نعرف أن ذلك لن يحدث. وجّه مسؤولو الحزب الديمقراطي الكردستاني انتقادات قوية لتركيا مؤخراً، لكن في النھاية فإن مصالحنا “الاقتصادية” ستكون طاغية. إذا مضوا في سعيھم للاستقلال، فإن تركيا ستردّ ، ونحن متأكدون أن الغرب لن يتدخل لإنقاذ الأكراد.
قد يعكس ھذا درجة مبالغاً بھا من الثقة. اختبرت الأحداث في سنجار وتقدّم تنظيم “داعش” باتجاه معاقل الحزب الديمقراطي الكردستاني في المناطق المتنازَع عليھا في آب/2014 العلاقات التركية الكردية. من وجھة نظر كردية، فإن أنقرة لم تنجح. وعلى النقيض من ذلك نجحت إيران، ولم تترك للحزب الديمقراطي الكردستاني خياراً سوى بناء تحالفات أكثر توازناً مع طھران وكذلك مع أنقرة، إضافة إلى واشنطن. وھذاأيضاً كان له كلفة. دبلوماسي إيراني أدان بشكل غير مباشر دعوة برزاني إلى الاستقلال، محذراً: “ينبغي أن يضع برزاني حداً لتطلعاته نحو الاستقلال. ھناك حكومة شرعية في بغداد. على الأكراد أن يحاولوا الاستفادة من وجودھم في بغداد وإلا فإنھم سيخسرون ما حصلوا عليه حتى الآن.
الغرب يعود: التدخل بالوكالة
مع تركّز الاهتمام على الصراعات في سوريا وغيرها من الأماكن في المنطقة، اختفى العراق تقريباً من على رادارات الغرب. فالولايات المتحدة على وجه الخصوص – وبعد انسحاب قواتها – تبنّت سياسة تقضي بعدم فرض وجودها بشكل ملحوظ، وسعت لتحقيق أهداف متواضعة تتمثل في استقرار عراقي شكلي من خلال الحد الأدنى من التدخل. ومع ظهور تنظيم “داعش” على مسرح الاحداث الدائرة في العراق عام 2014 واختراقه للحدود السورية العراقية, واستيلائه على معظم المناطق السنية, وتسارع الاحداث في شن التنظيم هجوماً مفاجئاً على أربيل, وهاجم الأقلية الأيزيدية في سنجار، كل ذلك دفع الغرب للتدخل عسكرياً. وقالت واشنطن إن حمايتھا لقنصليتھا في أربيل كانت عاملاً حاسماً. ربما قدّرت الولايات المتحدة أن موقفھا السلبي حتى تلك اللحظة لم يعد مستداما، وأن التھديد المحتمل الذي يشكله تنظيم “داعش” للمصالح الغربية يحتّم تدخلاً عسكرياً. وكان موضوع حماية الأقليات يلقى صدى قوياً لدى الحكومات الغربية ايضاً.
أحدث إعدام تنظيم “داعش” لرھائن أمريكيين وبريطانيين في آب وأيلول من العام الماضي, مناخاً عاطفياً ونفسياً ملائماً للقيام بعملية عسكرية انتقامية. فضلا عن التدھور المريع للأوضاع في العراق، فقد ساعد ذلك على نشوء إجماع محلي، وإقليمي ودولي أوسع. لم تعبّر الحكومة العراقية، ولا أي قوة أخرى عن أية تحفظات على احتمال التدخل. وبعث الزعماء الأكراد برسالة واضحة مفادھا أن تنظيم “داعش” يشكل تھديداً ليس على الأكراد فحسب، بل على الحضارة الغربية أيضاً؛ وأن الوقوف في وجھه مسؤولية الجميع؛ وأن القوات الكردية أفضل حليف للغرب في ھذه المعركة؛ وأن التوقيت في غاية الأھمية لوقف تداعيات الكارثة الإنسانية. ولربما الرسالة التي بعث بها مسعود برزاني إلى الغرب لصحيفة “الواشنطن بوست”, بوصفهم – الكرد – حلفاء الولايات المتحدة المخلصون في المنطقة, وجدت ھذه الرسالة صدىً واسعاً لدى الحكومات والجمهور. لذا سعى صنّاع القرار لجعل القوانين أكثر مرونة، ولتسريع الإجراءات اللازمة لتقديم الأسلحة، بالالتفاف على التشريعات المحلية أو تجاھل السياسات الموضوعة في ھذا السياق. كما عززت التقارير التي تصف نقاط مسير وانضمام المتطوعين الأوروبيين إلى تنظيم “داعش” التصوّرات بأن ھذا العدو يھدد المصالح والشعوب الغربية في كل مكان، حيث يكمن ويعمل من داخل المجتمعات الغربية. وبمرور الوقت، بدا الأكراد جديرين بثقة الغرب على عكس وكلاء الغرب من العرب السنة والقبائل الذين إذا تم تسليحهم فإنهم قد يغيّرون ولاءهم وينضمون إلى تنظيم “داعش”. وبعد أن تبيَّن أن إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش” ھدف ليس باليسير، فقد اختصر دبلوماسي بريطاني المنظور الجديد الأكثر تواضعاً بالقول: “لقد دخلنا حقبة ما بعد سايكس بيكو لا نستطيع فيھا فرض الحلول بالقوة. مبادؤنا في السياسة الخارجية واضحة، وحدود رخائنا واستقرارنا واضحة أيضاً. ونحن نتصرف على ھذا الأساس”.
التبعات غير المقصودة للمساعدات
في حين يؤكد أعضاء التحالف على أن ھدفھم يتمثل في إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش” أو احتوائه، فإن النتيجة شبه المحتّملة لتقديم المساعدات العسكرية ھي تورّطھم في الشؤون العراقية والكردية، مع تبعات غير متوقعة. وستمثل صياغة ردود عراقية وكردية على تنظيم “داعش” شرطا ضرورياً – ولو أنه غير كافٍ – للنجاح العسكري، لكنه سيمھد الطريق لصراعات جديدة أيضاً.
السؤال هنا: كيف يمكن تعظيم فعالية الأسلحة المقدمة لحكومة إقليم كردستان، إذا انتھى الأمر بھذه الأسلحة مع ميليشيات حزبية مختلفة، قد تكون موحَّدة في ھدفھا المتمثل في محاربة تنظيم “داعش”، لكنھا تحتفظ في الوقت نفسه بأجندات متباينة، وحتى متعارضة؟ أو ماذا إذا استُخدمت ھذه الأسلحة لدعم المطالب الكردية في المناطق المتنازَع عليھا ضد السكان العرب السنة، الذين سيلجؤون إلى تنظيم “داعش” من أجل الحماية من مثل ھذه التعدّيات؟
يتمثل الھدف المباشر للولايات المتحدة وحلفائھا الغربيين في العراق في محاربة تنظيم “داعش”، إلا أن ھدفھم الاستراتيجي يبقى المحافظة على سلامة الأراضي العراقية، التي يعتقدون بأن ما يھددھا بشكل رئيس ھو التطلعات المعروفة للأكراد في الحصول على دولة.
وكان الأثر الجوھري لدعم التحالف تمكين الحزب الديمقراطي الكردستاني من خلال تزويده بالأسلحة ومنحه الشرعية السياسية (وھو ما يمكن أن يغيّر علاقة الأكراد ببغداد)؛ والصمت حيال استيلاء الأكراد على الأراضي بشكل استفزازي في المناطق المتنازَع عليھا (ما يؤدي إلى زعزعة استقرار ھذه المناطق، وتقويض علاقات الأكراد مع بغداد ومفاقمة الاستياء العربي السنّي الذي يتغذى عليه تنظيم “داعش”)؛ وترسيخ الخصومات الكردية الداخلية (ما يوفر مجالاً لتنامي النفوذ الإيراني)؛ وفي الوقت نفسه السماح لتنظيم “داعش” بالاستمرار في بيئة ما تزال تسمح بذلك.
أ. استراتيجية متغيرة مع تدفق الأسلحة
تسبَّب اختلاط الدوافع التي جعلت التحالف يقدّم الدعم العسكري للأكراد في رد متسرّع وغير مدروس على خلفية التنسيق بين أعضاء لا توحّدھم سوى الحاجة لمحاربة الإرھاب. منذ اليوم الأول استند نطاق وأشكال ھذا الدعم إلى الاعتبارات الداخلية لكل دولة، وقامت كل دولة بتقديم المساعدات من خلال علاقاتھا المباشرة مع حكومة إقليم كردستان. دبلوماسي أوروبي قال مؤكِّداً:
للتحالف ھدف عسكري مشترك يتمثل في إلحاق الھزيمة بتنظيم “داعش”. إلا أن الأھداف السياسية تتغير باستمرار. لكل عضو في التحالف سبب مختلف للمشاركة. الأمر يعتمد على ما يراھنون عليه. التدخل الأول في سنجار لم يكن عملية مخططاً لھا مسبقاً. إننا لم نتمكن بعد من العمل كتحالف، حيث كل عضو ينزع إلى التعامل ثنائياً مع الأكراد.
لقد منعت الأھداف السياسية المتعارضة من نشوء استراتيجية مشتركة. وفي حين أن بعض الأعضاء حاولوا التنسيق، إلا أن أعضاء آخرين عملوا بشكل منفرد مما تسبب في انعدام الثقة بين الأعضاء وكذلك بين التحالف والمسؤولين الأكراد. وأدى ذلك إلى ظهور دعوات لدى بعض الجھات لإعادة ھيكلة التدخل العسكري والمساعدات العسكرية. دبلوماسي من أحد البلدان المانحة اشتكى قائلاً: “جاء رد فعلنا الأول خلال حالة طارئة. كنا بحاجة لحل سريع لكارثة تتوالى فصولاً. أما الآن فعلينا أن نخطط من أجل تعزيز التعاون بين أعضاء التحالف. لكننا … دائماً متأخرون أسبوعين عن الأحداث”.
ينظر أعضاء التحالف إلى تسليح الأكراد على أنه حل أمني سريع، منعزل عن الاعتبارات السياسية الأوسع. لقد تعاملوا معه كمسألة تقنية، حيث اضطلع وزراء دفاعھم وملحقوھم العسكريون بدور قيادي فيما يبدو أنه مھمة لوجستية وحسب. لقد تم تقديم الأسلحة دون شروط محددة: لا شروط فيما يتعلق بالاستخدام النھائي ولا المتابعة. على سبيل المثال، فإن التحالف لم يتطرق لمسألة سلسلة القيادة والاستراتيجية التي تتبعھا البيشمركة من مسؤول أمام من، ومن يعطي الأوامر ولأي ھدف، ومن يستلم الأسلحة، وإلى من تعطى، وضد من، وكيف تستخدم؟.
الشيء الوحيد الذي يتّفق عليه شركاء التحالف ھو المحافظة على وحدة العراق، وھو مبدأ يتم تأكيده باستمرار. ودعوة برزاني للاستقلال – حتى وان لم يشمل فيھا جميع الأكراد (على الأقل ليس بوصفھا مسألة فورية)- ساعدت في تعزيز فكرة أن الدولة الكردية كانت أولوية استراتيجية بالنسبة لجميع الفصائل، ما أدى إلى إعادة النظر في الكيفية التي ينبغي عليھا توزيع المساعدات. بدأ المانحون بالإصرار على أن يكون إيصال الأسلحة مشروطاً بموافقة بغداد، خصوصاً بعد إزاحة المالكي، وھذا عزز مبدأ أن المساعدات العسكرية الغربية كانت مشروطة ببقاء الأكراد ضمن العراق، وھو ما يتطلب مشاركة الحكومة المركزية.
الأھم من ذلك، ھو أن الدول الغربية ما تزال متشككة حيال إعادة ھيكلة البيشمركة وتحويلھا إلى قوة احترافية غير حزبية، وھو ما يعتقدون أنه يرقى إلى دعم الاستقلال. هذه المخاوف انعكست في تصريحات المسؤول الغربي، وصرح البعض قائلاً: “لا نريد لكردستان مستقلة أن تنشأ حالما تتم ھزيمة تنظيم “داعش”. اليوم (البيشمركة) يقاتلون تنظيم “داعش”. غداً، ھل سيقاتلون الجيش”؟. هذا, فضلاً عن أن الأكراد بحاجة إلى تنسيق فيما بينهم.
فرضت المخاوف من استقلال الأكراد على التحالف سياسة متناقضة بين تقديم المساعدات العسكرية من جھة وتعزيز التنسيق بين الأكراد من جھة أخرى. إن وجود العنصر الأول في غياب العنصر الثاني قد يشكل انتكاسة لآمال الأكراد بالاستقلال، لكنه يقلّص من الكفاءة العسكرية في القتال ضد تنظيم “داعش”، ويوسّع الانقسامات الكردية الداخلية، وبالتالي يشجع التدخل الإقليمي من قبل تركيا وإيران.
ب. تغذية نزعة الولاء الحزبي الكردي
إن الأسلحة تغذّي القوات شبه العسكرية المختلفة التابعة للأحزاب دون إجبارها على تنظيم التوزيع، وتحمّل المسؤولية عن استخدامها أو صياغة استراتيجية مشتركة ضد تنظيم “داعش”. أحد قادة البيشمركة الذين ينتقدون ھذا الحال قال: “لا يمكن ھزيمة داعش بھذه الطريقة. في ميدان المعركة، تحصل إحدى الوحدات على الدعم من إيران، والوحدة الأخرى من الولايات المتحدة أو تركيا. في بعض الأحيان أتمنى لو أن داعش دخل الإقليم نفسه، بحيث نكون كأكراد سنتحد. إن بقاء الجهاديين على حدودنا يبقينا منقسمين”.
وما يزيد هذا الانقسام هو عدم التوافق والاتفاق بين الاحزاب الكردية حول الدعم العسكري والتسليح. وقد كان الحزب الديمقراطي الكردستاني المستفيد الرئيس من المساعدات العسكرية الأمريكية. ويمكن للمساعدات العسكرية غير المنسقة، وغير المتوازنة، وغير المشروطة، وغير الخاضعة للرقابة التي تُقدَّم للأكراد، فضلا عن الانقسامات الداخلية أن تبدد بشكل غير مباشر مخاوف التحالف من أن المستفيدين يستخدمون دعمه كلبنات في بناء دولتھم. إلا أن ذلك يقود أيضاً إلى تشجيع ظهور مجموعات من القوات شبه العسكرية، يتبع كل منھا زعيم مختلف لحزب معين، مما يؤدي إلى ضعف فاعلية القتال ضد تنظيم “داعش” ويھدد وحدة الدولة العراقية بطريقة مختلفة.
ج. صراع متصاعد على المناطق المتنازَع عليھا
بما أن التحالف عارض حتى الآن تسليح السكان المحليين في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم “داعش” خشية انضمامھم إلى العدو، فإن مساعداته العسكرية رجّحت كفة التوازن بين العرب والأكراد في المناطق المتنازَع عليھا لصالح الأكراد. وفي ظل غياب أية محاولة لتشجيع التعاون بين السكان المحليين، فإن ھذا قد يعزز قوة تنظيم “داعش” بوصفه اللاعب الوحيد على الأرض الذي يعتقد أنه قادر على وضع حد لاستيلاء الأكراد على الأرض.
بعض البلدات العربية السنّية في المناطق المتنازَع عليھا أصبحت ميادين قتال وھُجِّر سكانھا، والبلدات الأخرى التي سقطت بيد تنظيم “داعش” حُرِمت من الخدمات واستُھدِفت بالضربات الجوية، وھُجِّر المزيد من مدنييھا، وبالتالي تغيّرت التركيبة الديموغرافية للمنطقة. مدينتا أربيل والسليمانية تستضيفان الآن عدداً كبيراً من العرب السنة البارزين، بما في ذلك محافظ نينوى أثيل النجيفي، وزعماء الأقليات، الذين غادروا جميعھم ولم يتح لھم خيار سوى الذھاب إلى إقليم كردستان. زاد ذلك من نفوذ الأكراد على الشؤون العربية السنية في المناطق المتنازَع عليھا والمناطق المجاورة لھا.
يتبع الحزبان الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني استراتيجيات متشابهة، الا أنھا غير منسقة، لتعزيز سيطرتهما في مناطق نفوذهما. وأفشلت الفصائل الشيعية في كثير من الأحيان المطامح الكردية, وساعدت تلك الفصائل في استعادة كثير من الأراضي السنية الخاضعة لسيطرة التنظيم. وفيما تعمل القوات الكردية على تحرير المناطق التي يقطنها العرب السنة, يعملوا على فرض سيطرتهم على تلك المناطق, في ظل غياب الحكومة المركزية وابتعاد الزعماء السنة في بغداد عن شعبهم؛ ليصبح الأكراد الخيار الوحيد امام تلك المناطق. وهنا هل هذا هو الخيار الصحيح أو الوحيد أمام السنة؟, ولهذا فإن الھيمنة الكردية في الأجزاء التي يقطنھا العرب السنة من المناطق المتنازَع عليھا لا يبشر بخير بالنسبة لاستقرار المنطقة في المستقبل.
د. الصراع الذي لم تتم تسويته بين بغداد وأربيل
لم تنجح محاولة إقناع الأكراد بالمشاركة في الحكومة المركزية في تحسين العلاقة بين أربيل وبغداد، التي كانت متوترة منذ وقت طويل بسبب القضايا المتعلقة بالأرض، والموارد الطبيعية والإيرادات. وبالتالي فان الدعم العسكري الدولي للاكراد يُزيد من تعقيد ھذا الوضع بعد منح الأكراد قدرات عسكرية ، وتغطية دبلوماسية. لقد أصبحت التوترات بين أربيل وبغداد حادّة على نحو خاص خلال العامين الأخيرين من حكم المالكي. تبعتها تداعيات قطع الموازنة؛ نتيجة لتصدير النفط دون الرجوع إلى الحكومة المركزية. واستمرت الخلافات بينهم حتى تشكيل حكومة العبادي. وبضغط من الدول الغربية التي تقدم لھم المساعدات العسكرية، وافقوا على مضض على التواصل مع بغداد والانضمام إلى حكومة العبادي، التي تمكنوا من التوصل معھا بسرعة إلى تسوية أولية حول النفط. ھذه الخطوة المتواضعة كانت نتيجة تفاھم أمريكي إيراني ضمني حول الحاجة للمحافظة على وحدة أراضي العراق، لكنھا لم تعكس تقدماً نحو تسوية حقيقية للنزاعات القديمة, وما تزال تداعيات ذلك الاتفاق مصدر قلق بين الطرفين.
يمكن القول إن الفجوة القائمة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان تتعمق، مع إمساك تنظيم “داعش” بالسكين التي تفصلھما. التعاون الأمني إما غير موجود أو إنه على شكل تحالف فصائل بين بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني والفصائل الشيعية. لقد دفع تنظيم “داعش” بغداد والأحزاب الكردية إلى تخزين الأسلحة وحشد الحلفاء الخارجيين بدلاً من العمل معاً على نحو وثيق وبإحساس من التضامن أو على الأقل المصلحة المشتركة التي يحتّمھا تھديد مشترك. باختصار، إن العراق يتم إغراقه بالأسلحة رغم أن الاتفاق السياسي أضعف من أن يسمح باستخدام ھذه الأسلحة للدفاع عن البلاد بمجملھا أو تقويتها.
ھ. تلاشي الحدود مع سوريا
يؤدي الزوال النسبي للحدود بسبب النجاحات العسكرية لتنظيم “داعش” إلى توحيد الصراعات الكردية التي كانت منفصلة في الماضي بين سوريا والعراق، ما يمھد الطريق للأحزاب الكردية العراقية لاكتساب نفوذ أكبر في الشؤون السورية. المكاسب العسكرية التي حققھا حزب الاتحاد الديمقراطي الكرديpyd “وحدات حماية الشعب” على الأرض منذ عام 2011 دفعت الفصائل الكردية العراقية – خصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني (وبتشجيع من تركيا) – لممارسة نفوذ سياسي في سوريا باستضافة ممثلين عن الحزب الكردي السوري في أربيل، وتجنيد وتدريب قوة بيشمركة سوريا بديلة، وفي الوقت نفسه السعي للتوصل إلى اتفاق من شأنه أن يضع قوات الحماية الشعبية تحت القيادة الكليّة للحزب الديمقراطي الكردستاني.
رغم ذلك، فإن وحدات حماية الشعب احتفظت بسيطرة شبه حصرية على المناطق الكردية السورية، لمنع البيشمركة المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني من العبور إلى سوريا وتولّي القيادة، بنجاح أحياناً، في صد تنظيم “داعش”. اجتذب الھجوم الذي شنه تنظيم “داعش” في أيلول/2014 على كوباني، وھي مدينة ذات أغلبية كردية على الحدود السورية – التركية وجزء من الإدارة التي يتولاھا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي للحصول على الدعم في شمال سوريا، اھتماماً عالمياً.
لم يسعَ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي العسكري إلى التحالف مع قوات حماية الشعب، وصد تنظيم “داعش” فحسب بل أيضاً للحصول على اعتراف دولي بـ“الإدارة الذاتية الديمقراطية” التي يقيمھا بوحي من زعيم حزب العمال الكردستاني عبد لله أوجلان. وعلى عكس ما حصل في سنجار، فإن الدعوات لدعم وحدات حماية الشعب في كوباني شكّلت مأزقاً للاعبين الإقليميين والدوليين. وكانت تركيا منقسمة بين الحاجة للمحافظة على شراكتھا مع التحالف المعادي لتنظيم “داعش” وعدائھا لحزب العمال الكردستاني. كيف لھا أن تقاتل الأول دون أن تساعد الثاني؟. أما التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، فقد تردد بدعم وحدات حماية الشعب بشكل مباشر؛ بسبب استمرار اعتماد المجموعة على المؤسسات التي يسيطر عليھا النظام السوري، وخشية أن يؤدي مثل ذلك الدعم إلى إغضاب تركيا.
كان الحل في أن تقدم الولايات المتحدة الدعم لوحدات حماية الشعب بشكل غير مباشر من خلال أكراد العراق، وھم شركاء لواشنطن وأنقرة على حد سواء. كانت وحدات حماية الشعب تنقل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بأھداف الولايات المتحدة من خلال المسؤولين الأمنيين في الحزب الديمقراطي الكردستاني وتتلقى الأسلحة من خلال تركيا عبر قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني المنتشرة بجوار وحدات حماية الشعب. في “اتفاق دھوك”، التزم الحزب الديمقراطي لكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd بتقاسم الحكم في سوريا. كسر الجھد الكردي المشترك – المدعوم بالضربات الجوية للتحالف – المأزقين العسكري والسياسي حول كوباني وخدم جميع المصالح: أعطى أنقرة الخيار الأفضل بين مجموعة من الخيارات السيئة، ورفع عنھا الحاجة إلى اتخاذ قرار فيما إذا كانت ستدعم الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني أم لا؛ ووفر وسيلة لأصدقاء تركيا للمضي في سياستھم دون إبعاد حليفھم؛ وحققت مصلحة إيران برؤية مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني يشاركون في ميدان المعركة السوري؛ وحققت التعاون بين وحدات حماية الشعب والاتحاد الوطني الكردستاني. تلقت وحدات حماية الشعب المساعدات العسكرية المطلوبة، ما عزز الآمال بالاعتراف المستقبلي؛ وحصلت الأحزاب الكردية العراقية “وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” على موطئ قدم مباشر في سوريا؛ وعزز برزاني صورته بوصفه القائد الأعلى للأكراد.
الأمر الوحيد الذي لم تحققه ھو أنھا لم تحسّن التعاون الاستراتيجي الداخلي بين الأكراد ضد تنظيم “داعش”، ولم يؤد اتفاق دھوك إلى تعزيز التعاون العسكري بين القوات الكردية الرئيسة أو إلى إدماج المجموعات الكردية السورية في إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي الكرديpyd لكردستان السورية. علاوة على ذلك، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd “وحدات حماية الشعب” لم يحقق تقدّماً حقيقياً يذكر نحو الاعتراف الدولي والحصول على مساعدات عسكرية مباشرة.
الاتحاد الديمقراطي الكردستاني دعم تحرّكات وحدات حماية الشعب في سنجار، ما يعكس رغبة إيران بإلحاق وحدات حماية الشعب “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd” بأجندتھا في سوريا الموالية للنظام والمعادية لتركيا من خلال تحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. لم تحقق جھود برزاني لوضع البيشمركة الكردية (بما في ذلك وحدات حماية الشعب) تحت قيادته سوى القليل. أخفق في الجمع بين المتشددين في الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال الكردستاني (الأكثر قوة داخلياً)، الذين رأوا في جھوده جزءاً من طموح قديم لفرض قيادة عائلته وحزبه.
بدلاً من ذلك، فإن محاربة تنظيم “داعش” في سوريا والعراق سمح للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بإدخال قواتهما إلى كردستان السورية وزيادة حضور المقاتلين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني في العراق. وهكذا فإن ذلك ساعد في تصاعد التنافس الكردي الداخلي في كلا البلدين؛ لأنه وبينما كان التحالف وإيران يقاتلان عدواً مشتركاً في المسرحين، فإنهما يفضلان شركاء أكراد مختلفين. أما كيف سيتفاعل ذلك مع اتساع المعركة إلى الموصل وأماكن أخرى، فإنه يبقى مثار مخاوف.
الخلاصة: نحو مقاربة جديدة
أخذ وصول تنظيم “داعش” على المسرح العراقي الأكراد على حين غرة، إذ كانت السياسة الكردية في مرحلة انتقال من الاتفاقية الاستراتيجية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى وضع انخرطت فيه قيادتا الحزبين وقواتھما الأمنية في صراع داخلي على السلطة شجّع الانخراط الإقليمي. كما أن المساعدة العسكرية السريعة، وغير المنسّقة، وغير المتوازنة سرّعت من ھذا الاتجاه.
لقد ركّزت الدول الغربية بشكل مفرط على المخاطرة المتمثلة في نشوء كردستان مستقلة، وأھملت كيف أن دعمها يغيّر التوازن الھش أصلاً بين الأكراد وبيئاتھم الكردية وغير الكردية وأن ذلك من شأنه في الوقت نفسه تقويض وحدة العراق. إن ھزيمة تنظيم “داعش” ستعتمد على التعاون الكردي الداخلي، واستمرار الجھود التي تبذلھا الأحزاب الكردية لتحويل البيشمركة إلى مؤسسة عسكرية احترافية، وموازنة مصالحهم المشتركة حيال إيران وتركيا كما نصت الاتفاقية الاستراتيجية بين الحزبيين، والتعاون الأمني مع حكومة العبادي من أجل تخفيف حدة التوترات في المناطق المتنازَع عليھا. ھذه شروط مسبقة لھدفي التحالف المتمثلين في ھزيمة تنظيم “داعش”، والمحافظة على وحدة العراق كبلد وكدولة.
وهكذا ينبغي على التحالف تغيير مقاربته بشكل جذري.
أولاً: ينبغي أن يستعمل المساعدات العسكرية للأكراد لزيادة بعض الإنجازات التي حققتھا حكومة إقليم كردستان سابقاً في تحويل قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى مؤسسة عسكرية احترافية واحدة تحت السيطرة المدنية، بدلاً من تقويضهما من خلال الأسلحة التي تفاقم من انتشار الأحزاب وزعمائها.
ثانياً: على التحالف أن يستخدم المساعدات لتحسين التعاون العسكري بين بغداد وأربيل. وھذا يتطلب اشتراط تقديم الدعم بتنظيم الأكراد للعمليات ضد تنظيم “داعش” بالتنسيق مع بغداد بدلاً من التنسيق مع الفصائل الشيعية والعمل مع الحكومة وغير الأكراد في المناطق المتنازَع عليھا على خطة لمرحلة ما بعد تنظيم الدولة تسمح باستعادة المؤسسات المحلية والقوات الأمنية.
للأكراد مصلحة كبيرة بترتيب بيتهم الداخلي. إذا أرادوا تحقيق أقصى المكاسب من الزخم المتولّد عن الدعم الدولي في محاربة تنظيم “داعش” والذي زاد من نفوذهم لدى جيرانهم، فإنهم لا يستطيعون الاستمرار بالعمل من خلال حكومة ومؤسسات أمنية منقسمة. يتمثل التھديد الأمني الأكثر أهمية بالنسبة لحكومة إقليم كردستان في افتقارها لقوة احترافية قادرة على حماية المنطقة من العدوان.
كما أنه حان الوقت لتعاون الأكراد مع العرب السنّة في المناطق المتنازَع عليھا؛ لأن استمرار الهيمنة الكردية في المناطق المتنازع عليها, سيدفع بالعرب السنة إلى التحالف مع تنظيم “داعش”, لتهديد الأمن الكردي. علاوة على ذلك، فإن تنسيق الأكراد مع القوات الحكومية في العمليات ضد تنظيم “داعش” سيساعد في تحقيق الاستقرار بعيد المدى للمحافظاتالأربع المحيطة بإقليم كردستان؛ لأن أمن الإقليم يعتمد أكثر من أي وقت مضى على المحافظة على دولة عراقية فعالة والتعاون معھا.
تحليل:
يتبين من ذلك أن تسليح الأكراد عملية معقدة, وهو سلاح ذو حدين, ربما يسهم في الوصول إلى النتيجة المرجوة منه وهو محاربة التنظيم وتقويضه في الوقت الحاضر, إلا أنه سيكون له تداعيات خطيره في المستقبل وسيسهم في حالة عدم الاستقرار أو تفاقم حالات التوتر والصراع القومي خصوصا في المناطق المتنازع عليها ولا سيما بين الأكراد والعرب، الأمر الذي سيؤدي بالنتيجة إلى تحالف العرب السنة مع التنظيم لمحاربة الأكراد واسترداد حقوقهم وأراضيهم؛ لأن – ووفقا للتقرير – الغرب وأمريكا ترى في العرب السنة حليفا غير موثوق به, وربما يتغير ولاؤهم لدعم تنظيم “داعش” ضد الأكراد. ولهذا فإن فرض الهيمنة الكردية في الأجزاء التي يقطنھا العرب السنة بعد العاشر من حزيران العام الماضي في المناطق المتنازَع عليھا لا يبشر بخير، وينذر بمشاكل وصراعات قومية خطيرة ربما تهدد أمن الإقليم, وتسهم في حالة عدم الاستقرار الداخلي, وعدم الاستقرار في المنطقة.
كما يظهر التقرير الخلل وعدم التوافق بين أعضاء التحالف الدولي في محاربة التنظيم, مما انعكس سلباً على استراتيجية التحالف الدولي في القضاء على تنظيم “داعش” لا احتواءه. أي إنه عدم توحد الهدف المشترك أضعف من قوة وجدية التحالف لمحاربة التنظيم المتطرف. من خلال هذا الخلل الذي ظهر في استراتيجية التحالف في تقديم الدعم للأكراد, وضعف الاستراتيجية, يظهر كذلك ضعف التحالف الدولي برمته في تقديم الدعم اللازم للحكومة العراقية وقوات الأمن العراقي؛ لأن تشكيل التحالف جاء بعملية خاطفة وغير مدروسة الخطط، تمثل بتهديد التنظيم للمصالح الغربية والقنصلية الأمريكية في أربيل؛ مما انعكس بشكل عام على استراتيجية التحالف الدولي في العراق بشكل عام؛ ولهذا ربما يشخص التقرير أحد أهم الأسباب في ضعف الاستراتيجية الأمريكية, وضعف التحالف الدولي في الحرب على تنظيم “داعش”, وعدم جديته في إنهاء التنظيم.
جاء الدعم الغربي للأكراد دون اتفاقات وشروط مسبقة, وربما الشيء الوحيد والهدف المتفق عليه – وفقا للتقرير – هو المحافظة على وحدة العراق, إلا أن هذا الشيء لم يظهر في نوايا الإقليم والغرب، وتكررت حالات التسليح دون الرجوع إلى الحكومة المركزية. فحتى هذا الهدف هو مستبعد من استراتيجية التحالف الغربي. وربما يمكن تلخيص هدف التحالف من تسليح الأكراد بـ: ضمان موطئ قدم ثابت للمصالح الغربية والحفاظ على صداقة الأكراد كحليف دائم؛ لأن الحكومات الغربية يراودها الشك من حكومة بغداد, ولربما لأنها – في رأي الغرب – ليست حليفا دائما، بحكم العلاقة والمخاوف الغربية من دور إيران في العراق؛ لذلك جاء هذا الدعم للحفاظ على أمن الإقليم والمصالح الغربية والأمريكية.
ويكشف التقرير أيضاً مدى اتساع الفجوة والاختلاف بين الأحزاب الكردية والقيادة، وعدم توحدها على هدف مشترك. وربما هدف مقاتلة التنظيم هو الهدف المشترك بينهم بالتأكيد، ولكن باستراتيجيات مختلفة، فطرف يحصل على الدعم من إيران، وطرف آخر من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. هذا الاختلاف يكشف عمق الخلاف التاريخي بين الحزبيين، وينذر بمشاكل وتحديات ما بعد الاستقلال، وهذا ما تخشاه الدول الغربية من استقلال الإقليم؛ ولذلك تعمل على استراتيجية إبقاء الإقليم جزءا من الخارطة العراقية الموحدة. ويظهر الدعم الغربي للأكراد الكثير من المشاكل سواء داخل الإقليم نفسة بين الاحزاب الكردية أم بين الإقليم والمركز أم بين الأكراد والعرب بخصوص المناطق المتنازع عليها, وذلك من خلال الاستراتيجيات المتغيرة من خلال تدفق الاسلحة الغربية للكرد, أو الولاءات الحزبية داخل الاحزاب الكردية, أو الاختلاف بين بغداد وأربيل.
ولهذا فالتقرير يكشف خفايا كثيرة بالنسبة للمشاكل والاضطرابات والانقسامات الداخلية, واختلاف الرؤى والاستراتيجيات بالنسبة للأكراد, سواء فيما يتعلق بالتسليح أم الاتفاقات الداخلية والإقليمية, ومن ثم انعكاس ذلك على مواجهة التنظيم المتطرف. هذه الانقسامات واختلاف الاستراتيجيات ولا سيما بين الحزبين, تثير قلق الغرب بشأن مستقبل الإقليم في ظل تلك المشاكل والتحديات الإقليمية, ولاسيما فيما يتعلق بإيران وتركيا؛ ولهذا يريد الغرب الحفاظ على الإقليم كجزء من عراق موحد؛ ولهذا أيضا يريد الغرب أن ينذر الإقليم بمشاكله الداخلية, وما يتعرض له في حالة الاستقلال عن حكومة بغداد؛ لأن كل تلك التحديات تنذر بمشاكل وتحديات كثيرة في المستقبل, وعلى الإقليم أن يستفيد من حالة التعاطف الغربي في ترصين صفوفه, والتخفيف من حالة التوترات مع حكومة بغداد, والحفاظ على وحدة العراق. يكشف التقرير أيضاً عن نقطة مهمة، وهي تسليح العرب السنة, غير الجديرين بثقة الغرب؛ لأن تسليحهم ربما يؤدي إلى انخراطهم مع تنظيم “داعش” المتطرف على العكس من الأكراد الجديرين بالثقة. هذه النقطة تكشف زيف التحالف الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية في تسليح القبائل العربية السنية, وهي النقطة ذاتها التي صدعت بها واشنطن رأس الحكومة العراقية، بممارستها الضغط على حكومة بغداد لتسليح العشائر, وهي نفسها – أي الولايات المتحدة الأمريكية – متخوفة من تسليح تلك العشائر. وعليه يفترض من الحكومة العراقية أن تكون أكثر حكمة, وأن تضع استراتيجية واضحة لتسليح العشائر، أو أن تجد صيغة محددة لذلك التسليح. وربما الصيغة الأفضل هي التي تكمن تحت مسمى “الحشد الشعبي” أو “الحرس الوطني”.
رابط التقرير: http://goo.gl/8opYb2