ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
أيلول/ 2015
يحتفل العالم في الثامن عشر من كانون الأول من كل عام باليوم العالمي للمهاجرين، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2000،
بعد تزايد عدد المهاجرين في العالم. هذا التزايد نتيجة الأوضاع غير المستقرة التي تعيشها بعض دول المنطقة, ولا سيما العراق وسوريا, إذ كانت سوريا تعد البلد الأول لللاجئين العراقيين طيلة العقود الماضية, إلا أن بعد الحرب الأهلية السورية التي اندلعت منذ ما يقارب الخمس سنوات أصبح كلا الشعبان العراقي والسوري لاجئين في أوروبا وأمريكا, في ظل تغييب الحلول السياسية وتغليب الحل العسكري الذي أثبت فشله طيلة المدة الماضية. فالحلول مغيبة بشكل كامل سواء على الصعيد الدولي أم الداخلي؛ لكون الأزمات التي تعيشها المنطقة وبخاصة في العراق وسوريا هي أزمات مفتعلة وحلها يتطلب توافقا دوليا أكثر من كونه توافقا داخليا, إلا أن أمراء الحرب وتجارها ما زالوا يغيبون تلك الحلول بسبب الغباء السياسي للسلطات الحاكمة في المنطقة, التي أصبحت محمية بخضوع خارجي. ونتيجة للغباء السياسي ارتبط السبب الثاني بالأول وهو المطامع الدولية التي أصبحت تبحث عن مشروع جديد ما بعد سايكس بيكو, الذي أشعل المنطقة. فهناك إرادات دولية تريد أن تعيد اتفاقية سايكس بيكو بشكلها الجديد, أي مرحلة “ما بعد سايكس بيكو”، مستفيدة من غباء الطبقة الحاكمة في المنطقة والنزاع السياسي والطائفي بين الأنظمة السياسية لدول المنطقة, ولاسيما الأنظمة العربية.
العراق منذ ما يقارب أكثر من اربعة عقود من الزمن يشهد هجرة خارجية بكل اطيافه وتنوعه الثقافي وطبقاته الاجتماعية، سواء كانت كفاءات علمية أم يد عاملة؛ بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي, ودكتاتورية السلطات التي حكمت البلاد، ولا سيما حقبة حكم نظام صدام حسين. إذ إن اغلب المهاجرين يبحثون عن الأمن السياسي وحرية التعبير عن الفكر أو المعتقد أو الرأي, وما شابه ذلك, في ظل التسلط الدكتاتوري للنظام السابق, إلا أن مرحلة ما بعد التغيير والاطاحة بنظام صدام حسين, التي استبشر بها العراق وشعبه خيراً لم تكن افضل من سابقتها؛ بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي التي ما زال العراق يعاني منها لحد الآن وفقدان الأمن بشكل كبير في بعض المحافظات, ولا سيما تلك التي سيطر عليها تنظيم “داعش”.
بعض أسباب الهجرة
لا يمكن حصر اسباب الهجرة الشرعية وغير الشرعية في سبب واحد, بل هناك جملة اسباب أدت إلى تزايد عدد المهاجرين العراقيين, ويمكن ذكر البعض منها أو اهمها, وهي كالآتي:
- واقع العراق الذي لم يتغير منذ عقود من الزمن, وما زال هذا الواقع مستمراً لحد الآن, وعلى ما يبدو أنه سيستمر في المستقبل؛ بسبب عدم وضوح الرؤية لصانع القرار العراقي, والتخبط السياسي والاقتصادي، وغياب التخطيط, والصراع السياسي والطائفي بين القوى السياسية والحزبية، وتغييب الروح الوطنية, وانتشار الفساد الذي نخر منظومة الدولة العراقية, مما ادى إلى إضعاف الدولة العراقية ورضوخها إلى الاجندات والإرادات الخارجية وعدم استقلالية القرار السياسي لصانع القرار العراقي. كل ذلك زاد من حالة عدم الاستقرار السياسي.
- عدم قدرة القوى السياسية العراقية على الاتفاق على رؤية سياسية واحدة, وهدف مشترك في بناء الدولة العراقية.
- غياب مشروع بناء الدولة بشكل كامل عن برنامج الحكومات العراقية السابقة والحالية؛ بسبب التغييب المتعمد من قبل القوى السياسية, وفرض سلطتها على سلطة القانون والدولة. فعلى طول السنوات الماضية بعد 2003، كانت القوه السياسية والاحزاب العراقية منهمكة في بناء ذاتها, وصراعتها الحزبية وتمويل مشاريعها, ولم تستفق بعد إلى عملية بناء الدولة.
- تراكمية اسباب عدم الاستقرار والأزمات المتلاحقة طيلة المدة الماضية أدت إلى ازدياد اعداد المهاجرين, إذ إن المجتمع العراقي كان يبني آمالاً مستقبلية بعد التغيير السياسي عام 2003, برؤى إيجابية على تصحيح مسار الدولة العراقية وإدارة الحكم في العراق بعد الحقبة الدكتاتورية التي حكمت العراق, إلا أن الازمات المتلاحقة وتغييب المشروع الوطني, وعجز صانع القرار العراقي عن إيجاد الحلول, ادى إلى تراكمية تلك الاسباب وتفاقمها, مما أفرز عجزا حقيقيا في عملية إدارة الدولة.
- الانصدام التدريجي الذي يتعرض له الشعب من قبل الحكومات العراقية والقوى السياسية التي جاءت بعد العام 2003, مع كل دورة انتخابية جديدة. إذ تعد حكومة السيد العبادي الحكومة الثالثة بعد التغيير السياسي, ولم يتغير شيء في الواقع السياسي والخدمي والصحي والواقع الاقتصادي.
- السياسات الحكومية الخاطئة وغير المدروسة وغياب التخطيط, تسبب في تعطيل القطاع العام وانتشار البطالة وانتشار الفساد.
- تغييب دور الشباب في العملية السياسية بعد عام 2003, إذ كان الشباب العراقي بشكل عام, إما متصدين للإرهاب للدفاع عن العملية السياسية والتجربة الديمقراطية الفتية من خلال انخراطهم بالمؤسسة العسكرية “الدفاع والداخلية” أو يبحثون عن معيشتهم المقترة، حيث يتزاحمون في ساحات العمل البائسة وسط اصوات السيارات المفخخة.
كل تلك الاسباب, فضلاً عن انعدام الأمن في بعض محافظات العراق, ولا سيما تلك التي سيطر عليها تنظيم “داعش”، والذي تسبب بهجرة ساكنيها بشكل كبير؛ بسبب العقيدة الإجرامية والمتطرفة للتنظيم والتنظيمات الاخرى المنضوية تحت لوائه أو تلك التي تقاتل قوات الأمن لذات الاسباب, تعد أبرز الاسباب التي ادت إلى الهجرة غير الشرعية.
إلا أن هذه الاسباب لم تكن كافية, وإنما السبب الحقيقي الذي يغلب على كل الاسباب الآنفة الذكر في العراق, هو غياب الإرادة الحقيقية سواء للحكومة العراقية أم للقوى السياسية مجتمعة في وضع الحلول الحقيقية لعملية الاستقرار في البلد, واتخاذ التدابير والخطوات الصحيحة لمعالجة الازمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلد باستمرار. بمعنى آخر لا توجد حلول جذرية تلوح في الأفق وسط زخم الازمات والصراعات السياسية, ولم تزرع بعد حالة التوافق الحقيقي والرؤية المشتركة بين القوى السياسية المتناحرة لقيادة الدولة, ولم تخلق بعد النوايا الحسنة والحقيقية لتلك الرؤية المشتركة, مما زرع اليأس في نفوس الكثيرين لإيجاد مقومات العيش السليم خارج البلد في ظل هذه الظروف؛ ولهذا ترى اكثر الشباب يتكلم عن الصورة الضبابية لمستقبل مجهول تقوده قوى سياسية متناحرة لم تستطع أن تتفق على مشروع دولة لمدة 12 سنة تستطيع من خلاله الاجتماع على رؤية سياسية واقتصادية للبلد, ورسم خارطة طريق مشتركة؛ ولذلك اصبحت الهجرة مطلباً مراً للتخلص من واقع اكثر مرارة. فالهجرة غير الشرعية اليوم لم تقتصر على اسباب فقر أو نزاع داخلي أو صراعات سياسية، وانما اصبحت حتى العوائل المترفة تهاجر بطريقة غير شرعية, وهذا ما يؤشر على صورة مستقبلية غير واضحة لبلد مزقته السياسات غير الرشيدة والازمات الداخلية والأرادات الدولية والإقليمية؛ بسبب التغييب المتعمد للمشروع الوطني.
إذاً سبب الهجرة الحالية يمكن إجماله بالبحث عن مستقبل مفقود في وطن ما يزال يبحث عن مستقبله السياسي. والهجرة غير الشرعية اليوم لا يمكن إبعاد سببها أيضاً عما يجري في المحيط الإقليمي الملتهب والغير مستقر, وكذلك الصراعات الدولية في المنطقة, ولهذا ترى اليوم حتى الشباب في إقليم كردستان الذين يعدون أفضل حالاً – ولو بشكل نسبي – من الشباب في وسط العراق وجنوبه، تطلب اللجوء ايضاً، وهذا ما يؤشر على ضبابية المستقبل الذي يبحث عنه المجتمع. وبسبب هذه الهجرة سيفرغ البلد من طاقاته الشابة, فضلاً عما يُستنزف من هذه الطاقات في المعارك ضد التنظيمات الإرهابية المستمرة. وفي ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية, والتشجيع على ترك البلد، وغياب الحلول الجذرية للحكومة, سيعاني العراق من الهجرة إلى الخارج باستمرار, مما سيجعل لها تداعيات خطيرة على مستقبل العراق بشكل كبير, في ظل النمو السكاني الضعيف.
إحصائية غير دقيقة
وإذا ما عرجنا على اعداد المهاجرين بشكل عام من العراق وسوريا نرى بأنها أعداد هائلة. “وقد بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين غرقوا في البحر المتوسط، منذ مطلع العام الحالي 2365 شخصاً، بحسب الأرقام التي أوردتها منظمة الهجرة الدولية. وفي المقابل، تمكن 255.152 مهاجراً من عبور المتوسط والوصول إلى القارة الأوربية خلال العام الحالي. وجاءت اليونان في مقدمة الدول التي يصلها المهاجرون عبر المتوسط، بواقع نحو 149 ألف مهاجر في العام الحالي، في حين تجاوز عدد الواصلين إلى إيطاليا 103 ألف،كما دخل أسبانيا نحو 2166 مهاجراً عن طريق البحر، فضلاً عن 94 وصلوا إلى مالطا.وبلغ إجمالي المهاجرين الغارقين في بحار العالم، 3271 مهاجراً منذ مطلع العام الحالي، بحسب المنظمة الدولية.وكان219.000 مهاجر قد نجحوا في الوصول إلى القارة الأوروبية عبر المتوسط خلال العام المنصرم، في حين فارق الحياة نحو 3500 مهاجر، خلال مغامرة الهجرة“. ويبلغ عدد العراقيين المهاجرين بطريقة غير شرعية خلال شهرين فقط نحو 400.000 شخص معظمهم من الشباب، بحسب مفوضية حقوق الانسان. ويخرج يوميا من العراق نحو 3000 شخص باتجاه تركيا عن طريق الجو فقط، في حين يتوجه الآلاف براً عبر إقليم كردستان.
أغلب تلك الأعداد لا تعود الى العراق وتنتظر الحصول على خطة طريق للعبور الى اليونان لتكمل طريقها الى اوروبا، في موجة هجرة عدت هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.ويكشف “مسرور اسود”، المتحدث باسم مفوضية حقوق الانسان العراقيةأن “نحو 425 الف عراقي خرجوا بطرق غير شرعية خلال شهري آب وأيلول الحالي الى دول الاتحاد الاوروبي”.ويؤكد اسود بأن “تلك الاعداد تضم مهاجرين من اقليم كردستان ايضا, وأن 70% من تلك الاعداد المهاجرة هم من فئة الشباب، فيما تشكل العوائل نسبة 30 % فقط”. وتؤكد مصادر الطيران المدني العراقي على “ارتفاع عدد الرحلات الى تركيا خلال الشهرين الماضيين من 12 رحلة يوميا في حزيران الماضي الى 15 رحلة ومن كافة مطارات العراق”، مشيرا الى أن كل رحلة تضم نحو 180 شخصا. ويشهد مطار بغداد لوحده 6 رحلات يومية بواقع 3 رحلات للخطوط الجوية العراقية فضلاً عن شركتين تركيتين وأخرى عراقية. إلا أن الحكومة العراقية والوزارات المعنية لا يمكن أن تدلي بإحصائية رسمية يمكن الاعتماد عليها؛ بسبب الهجرة غير الشرعية وصعوبة الحصول على بيانات رسمية مؤكدة, ولكن بعض المصادر تؤكد بأن أعداد المهاجرين تزايدت وتجاوزت الـ 500 مهاجر باليوم الواحد.
إصلاحات حكومية جذرية وليست احترازية
لا يمكن للحكومة العراقية السيطرة على الهجرة عبر اجراءات احترازية أو اتخاذ تدابير مؤقتة, وإنما يكمن الحل في اتخاذ إصلاحات جذرية من شأنها أن تعيد بناء العملية السياسية الحالية بشكل اكثر واقعية بما يتلائم مع الواقع العراقي المعاصر. وعليه، فالحكومة العراقية والقوى السياسية مطالبة بوضع الحلول الجذرية وبدون تزييف, بعيداً عن التوافقات السياسية والحزبية الضيقة, وعن كل سلبيات المرحلة السابقة, وعليهم ‘‘الحكومة والقوى السياسية‘‘ أن يتيقنوا بأن غياب المشروع الوطني والرؤية المشتركة في إدارة الدولة هي سبب كل ما يحصل اليوم من تهجير وتشريد وعدم استقرار, فما زالت هناك فرصة اخيرة للإصلاح والاتفاق على مشروع بناء الدولة وإدارتها من خلال القيام بإصلاحات حقيقية ولاسيما تلك التي يطالب بها المتظاهرون، وكذلك دعم الإصلاحات التي اتخذت من قبل الحكومة والبرلمان, وإيجاد حالة التوافق الحقيقية وليست الشكلية, وترجمة كل سلبيات المرحلة السابقة إلى إيجابيات؛بهدف استثمارها في عملية الاستقرار السياسي والاندماج المجتمعي وبناء الدولة, وتصحيح مسار العمل السياسي, وهذا بالتأكيد بحاجة إلى مصالحة حقيقية بين القوى السياسية نفسها, والقوى السياسية والحكومة العراقية. وبين الحكومة والقوى السياسية من جهة والشعب من جهة اخرى؛ لإعادة الثقة الجماهيرية بالحكومة والقوى السياسية التي افتقدت بسبب السياسات الخاطئة وغير الحكيمة. والحاجة ضرورية ايضاً إلى استقلال القرار الداخلي من الضغوط الخارجية. وبهذا يمكن أن تحافظ الدولة العراقية على ركنها الأساس “الشعب” من الهدم والتهجير.