ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
كانون الأول/2015
إن الحديث عن مفهوم السيادة الوطنية أصبح حديثا نسبيا في ظل التطور التكنولوجي والعالمي وسياسات العولمة العالمية؛ لأن مفهوم السيادة الوطنية لم يعد ذلك المفهوم الذي كان في السابق، فاليوم السيادة الوطنية مخترقة بالأقمار الصناعية وأجهزة الكشف الحديثة. ولم يعد التدخل العسكري التقليدي هو من ينقص سيادة الدول الداخلية، وإنما اخترعت أجهزة متطورة، ومسببات لذلك الاختراق. ولعل مصطلح الحرب على الإرهاب والحرب بالوكالة هي أحد المسببات التي اخترعتها الإدارات الأمريكية والغربية وأجهزة الاستخبارات العالمية؛ للتدخل في سيادة الدول الداخلية والهيمنة على مقدراتها ومواقعها الجيوسياسية، ولاسيما دول منطقة الشرق الأوسط. وقد تكون مسألة تنظيم (الدولة الإسلامية في سوريا والعراق “داعش”) هو إحدى محطات تلك السياسات التي أنتجها الغرب بمصطلح الحرب على الإرهاب.
لقد أصبح مفهوم السيادة أكثر اختراقاً بعد ظهور التنظيمات الإرهابية وسياسة الحرب على الإرهاب بعد نهاية الحرب الباردة، سواء بالاحتلال العسكري أم بغيره. وقد جسد ظهور تنظيم “داعش” تلك السياسات بعدما اجتاح أجزاء واسعة في سوريا والعراق مخترقاً بذلك السيادة الوطنية. لقد أعطى ظهور تنظيم “داعش” مسوغات حقيقية لمواجهته على الصعيد الإقليمي والدولي، وتمثلت تلك المواجهة بسياسة التحالفات الدولية والإقليمية. هذه التحالفات ربما تعيدنا إلى حقبة الحرب الباردة وسياسة الأحلاف والأحلاف المضادة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي آنذاك. وربما هذا الاجتياح الداعشي سيغير شكل الخارطة المستقبلية لدول المنطقة في ظل التنبؤات المطروحة من قبل بعض المختصين، وترجيح الولايات المتحدة وحلفائها بتقسيم المنطقة وفق دوافع طائفية وعرقية، في ظل هذه التحالفات التي تشكلت لمقاتلة تنظيم “داعش”. والحديث هنا عن التحالفين الدوليين: التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والتحالف الروسي – الإيراني. هذان التحالفان تشكلا بهدف واحد، وهو مقاتلة تنظيم “داعش”، لكن بنوايا ورؤى وسياسات وأهداف مختلفة، وكلاهما أصبح خطرا يهدد سيادة دول المنطقة، ولاسيما تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار داخلياً مثل العراق وسوريا.
بالمفهوم السياسي عادة ماتكون خروقات السيادة الوطنية بثلاث طرق: وهو إما اختراقها عن طريق الإغواء “من خلال توقيع الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية والتحالفات العسكرية” وهذا مايحدث حالياً، أو اختراقها بالقوة العسكرية والأمنية “من خلال القوة الصلبة” كما حصل للعراق عام 2003، أو عن طريق اختراق مكونات الدولة الوطنية نفسها من الأسفل والتحكم بقواها الداخلية، وهي السياسة ذاتها التي تتبعها اليوم كثير من الدول الإقليمية ودول الجوار في العراق وسوريا، سواء من خلال دعمها للفصائل أو الحركات الداخلية المسلحة أو غيرها؛ من أجل أن تكون أداة سياسية وعسكرية متحركة وفقاً لأهدافها البراغماتية، وهذا الاختراق الأخير لمفهوم السيادة الوطنية يعد من أخطر أنواع الاحتلال الداخلي؛ لأنه يرتبط بروابط دينية أو مذهبية أو عرقية، مما يهدد الطيف الاجتماعي، ويضرب عملية الاستقرار السياسي في العمق.
وإذا ما تأملنا أهداف تلك التحالفات فسنجدها أهدافا مخترقة لسيادة الدول الداخلية وفق أحد التدخلات أعلاه. فالتواجد الروسي الإيراني في سوريا والمنطقة، والذي تمثّل بالتدخل العسكري، هو ليس الهدف منه مواجهة “داعش” فقط، وإنما الحفاظ على المصالح الروسية وإحيائها في المنطقة ومناورة الولايات المتحدة وحلف الناتو، وربما ستسعى روسيا أيضاً لتوسيع نفوذها إلى العراق كذلك، تحت مظلة الحرب على “داعش” بمشاركة إيرانية. ولهذا ستجعل روسيا من سوريا منطقة نفوذ دائمة لها؛ لحماية مصالحها القومية مع بقاء نظام بشار الأسد في السلطة، مما يدخل المنطقة في مرحلة تجاذبات وتحديات أكثر حدية بين التحالفين وحلفائهما، ولاسيما في ظل تعقد الحلول السياسية للأزمة السورية.
إيران، الدولة المتطلعة إلى دور إقليمي ودولي جديد ولاسيما بعد الاتفاق النووي، هي تعمل جاهدة لبناء دورها في المنطقة في ظل التفكك العربي وحالة عدم الاستقرار السياسي لبعض دول المنطقة، وغياب الاستراتيجية العربية المشتركة وعجزها عن مجاراة إيران، وتغليب عامل التقاطع السياسي على الحلول السياسية والدبلوماسية، سيأزّم المنطقة أكثر، ولاسيما في ظل حالة التقاطع السياسي بين إيران والدول الإقليمية في المنطقة، وسيكون العراق وسوريا محطة تصفية حسابات وحرب بالوكالة، وستكون تداعياتها كارثة على مستقبل الدولتين. وقد تكون إيران هي أكثر الدول التي تجيد الاختراق الثالث لمفهوم السيادة الوطنية من بين تلك الاختراقات، وهو “أخطرها”.
أما بالنسبة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الذي عجز عن وضع استراتيجية شاملة لإنهاء “داعش”، في ظل تخبط الإدارة الأمريكية، التي لا تريد – على ما يبدو – القضاء على “داعش” في الوقت القريب، في ظل استراتيجية الاحتواء والتحجيم للتنظيم التي تدور في دهاليز السياسة الأمريكية، إلا أن هذه الاستراتيجية على ما يبدو تغيرت بعد أحداث باريس الأخيرة، لكن هذا التغير ربما جاء لمصلحة التحالف الدولي وأعضائه؛ لأنه من الممكن أن يتيح لهم إنزال قوات برية في سوريا والعراق، وهذا ما يدور اليوم في الإدارة الأمريكية والغربية. فتارة يكون الحديث عن قوات برية أمريكية وأوروبية “فرنسية – بريطانية”، وتارة أخرى يكون الحديث عن تشكيل قوات عربية – سنية لمحاربة تنظيم “داعش”. أما بالنسبة لتركيا حليفة الولايات المتحدة، فهي متخبطة بسياسات اوردوغان، وتبحث عن دور إقليمي مواز للدور الإيراني في المنطقة، ولعل تدخلها الأخير في محافظة الموصل العراقية، ودعمها للمعارضة السورية، وتقّربها من دول الخليج، خير دليل على ذلك.
إذاً، يمكن الإجمال مما سبق أن كل التحالفات الإقليمية والدولية في المنطقة التي تشكلت لمقاتلة تنظيم “داعش”، وفي ظل حالة عدم الاستقرار السياسي لبعض دول المنطقة، وتفكك بنيتها الداخلية، وتنامي دور التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية، وعدم التوافق حول رؤية عربية مشتركة، وغياب الاستراتيجية العربية والتشتت الداخلي والخارجي، ستكون الدول العربية عرضة للتدخلات الخارجية وانتهاك سيادتها الداخلية، ولاسيما تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار بشكل دائم: “اليمن، لبنان، العراق، سوريا، وليبيا”، وكذلك الدول التي يتوعدها تنظيم “داعش”، كالدول الخليجية ودول شمال أفريقيا. فالسعودية على سبيل المثال، تشهد أزمة حكم داخلية، وأزمات داخلية ذات أبعاد اجتماعية وطائفية، وتصدعا في البنية الاجتماعية، وكذلك حربها على اليمن، فضلاً عن نفور بعض الدول الغربية وشعوبها من سياسات المملكة ودعمها للتطرف بشكل مستمر، ربما يضعها في سيناريو قريب من السيناريو السوري أو سناريوهات الربيع العربي. وفي حالة استمرار الدول العربية في الفشل السياسي، فإنها ستصبح أكثر تمزقاً، وأسهل اختراقاً لتنظيم “داعش”، مما يهدد بالانهيار الكامل لمفهوم الدولة القومية وسيادتها الوطنية في المنطقة، وهذا ما ينذر بسايكس بيكو جديد. فمستقبل السيادة الوطنية أمام خطر حقيقي في ظل تصاعد الصراع العربي، والصراع الإقليمي – الدولي، وغياب الدور العربي وتشتته بين التحالفات الدولية، وبروز إيران كقوة إقليمية، وفي ظل تنامي خطر التنظيمات الإرهابية، ستكون كل دول المنطقة مقبلة على سيناريوهات التفكك والاختراق.
وعليه، وإذا ما إرادت دول المنطقة أن تقوض من تلك الأخطار، عليها أن تكون فاعلة في الأحداث وليست مستجيبة، وأن تتجمع حول رؤية عربية وإقليمية مشتركة، وتتفق على مشروع عربي مشترك، وتعالج مشكلة التطرف، وتفعل دور الجامعة العربية، وتساعد العراق وبعض الدول العربية التي تعاني من حالة عدم الاستقرار في حربها على الإرهاب، عن طريق الانفتاح السياسي العربي المتكامل، وكذلك إيجاد طريقة توافقية للحل السياسي في سوريا. أما عراقيا، فيمكن القول بأن المشروع الوطني وخلق الإرادة الوطنية المشتركة لقيادة الدولة العراقية، والإصلاح السياسي لمنظومة الدولة العراقية، هي السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة وسيادة العراق الداخلية ودرء خطر التقسيم والاحتلال وتداعياتهما. وعلى المجتمع العراقي بكل أطيافه أن يعي خطر ذلك التدخل الذي يضرب مكونات الدولة العراقية من الأسفل؛ لأنه يفتت النسيج الاجتماعي والمذهبي والعرقي للدولة، مما يهدد بتداعيات خطيرة على وحدة الدولة واستقرارها السياسي.
فـ”سياسة الحرب على الإرهاب” التي حلت محل الحرب الباردة، هي “كلمة حق يراد بها باطل”، وقد يكون الغرض منها تبرير سياسات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لنقل الصراع من أوروبا وأمريكا إلى منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما بعد ويلات الحربين العالميتين على الغرب. وعلى ما يبدو أن الغرب استوعب الدرس من تلك الحروب وبدء يعي خطورتها على مستقبل الدولة القومية، فمتى تعي الدول العربية خطر تلك الحروب والتطرف والتصدع الداخلي؟. ولربما قد يكون الغرض من تشريع مفهوم الحرب على الإرهاب، هو إحلاله محل الصراع العربي الإسرائيلي، الذي ساد طيلة عقود من القرن الماضي، وعلى ما يبدو أن هذا الصراع قد اختفى من قاموس الدول العربية بتشريع مصطلح الحرب على الإرهاب. فهل تتنبأ الدول العربية لذلك؟ أم ستبقى مجرد دميه بيد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؟، منهكة بنيتها الداخلية وشعوبها في حرب لا نهاية لها. وهل أن دول الخليج مازالت تدرك أن سيناريو العراق وسوريا واليمن وليبيا هو وضع خاص أوجده مفهوم الحرب على الإرهاب أو الربيع العربي، أم هو سيناريو يهدد مستقبلها السياسي “دول الخليج” بشكل عام ولاسيما في ظل سياسات الإقصاء والتهميش والتقاطعات في السياسة الخارجية وتسلط الأنظمة القبلية والحكم الطائفي؟.