أنتوني كوردسمان: خبير ومختص في معهد دراسات الحرب (csis) حول سياسة الولايات المتحدة في العراق
معهد دراسات الحرب (csis)
١٤/١١/٢٠١٥
ترجمة: هبة عباس
مراجعة وعرض: مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
لن تستطيع استراتيجيات مكافحة الإرهاب منع وقوع هجمات مماثلة أو حتى أكثر سوءًا؛ وذلك لأنها تعالج أعراض العنف والإرهاب دون أسبابها. في الواقع، إن حجم هذه الأسباب يزداد ضخامة، فبعد تحقيق كل نصر ضد المتطرفين الحاليين يتم تشكيل حركات متطرفة جديدة وأعمال عنف جديدة.
إحدى المفارقات السوداوية للهجمات الإرهابية في باريس أنه قبل عدة ساعات فقط من وقوعها كانت وسائل الإعلام تدعو للتساؤل عما إذا كانت الأنباء المترددة حول مقتل “جون الجهادي” قد شكلت بطريقة أو بأخرى “نقطة تحول” في الحرب ضد الإرهاب. وقد أدت المأساة في باريس الآن إلى الانتقال إلى الجانب الآخر من هذا الترتيب، ألا وهو التركيز على الخطر المحدق لإمكانية حدوث الكوارث في المستقبل وفقدان الاهتمام بالانتصارات ضد تنظيم “داعش” في سنجار.
السياسيون وبعض الخبراء اتبعوا النمط نفسه، من خلال المبالغة في رد الفعل إزاء الحدث الأخير وإغفال حقيقة عدم وجود “نقطة تحول” في المستقبل القريب، إذ ليس هناك مفر من مآس جديدة مثلما حصل في باريس، وسوف تكون مكافحة التطرف معركة استنزاف طويلة جدا.
كما أن أحداث باريس هي تحذير يدل على عدم إمكانية أفضل الجهود في محاربة الإرهاب من حماية أي دولة وخاصةً المجتمعات المفتوحة في الغرب من أي نوع من الهجمات، ولا يمكن أن يتحقق انتصار حاسم على أي حركة معينة، فالقوات التي شكلت حركات إسلامية عنيفة متطرفة على مدى العقود الماضية – والتي ارتدت على الأمريكيين يوم ١١ سبتمبر في عقر دارهم عام ٢٠٠١ – أكبر من أي انتصار يمكن تحقيقه على المدى القريب في ما يسميه البعض “الحرب على الإرهاب”.
من المهم هنا البقاء على “داعش” ضمن المنظور القريب، إذ يعد التطرف الإسلامي الذي يقود التنظيم أحد مصادر الإرهاب والتمرد للجهات الفاعلة غير الحكومية في العالم، وتعد “داعش” الحركة الوحيدة، وهناك مجموعات متطرفة مماثلة في العديد من البلدان الإسلامية ذات الكثافة السكانية الكبيرة، منها مركز تنظيم القاعدة في باكستان و جبهة النصرة في سوريا وتنظيم القاعدة في المملكة العربية السعودية واليمن على سبيل المثال لا الحصر.
اتخذ الكثير منها معنى بعيدا عن المعنى الكلاسيكي للإرهاب، إذ تحولت إلى حركات متمردة تسعى إلى السيطرة على الدول بالقوة، وعلى سبيل المثال “داعش” التي تعد أنجحها وأخطرها أصبح لها دور فاعل في أجزاء من العراق وسوريا.
في الحقيقة، إن مصطلح التطرف مضلل جدا عندما يتم التطرق إلى أنماط أوسع من عنف معين، فإن العنف بين الطوائف الإسلامية مثل السنة والشيعة لا يعد تطرفاً حقيقياً بل هو نموذج من الحروب الدينية التي اتسمت بها أوروبا خلال حقبة الإصلاح المسيحية ومناهضة الإصلاح، وقد احتوى الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على الإرهاب على مدى عقود من الزمن، وكذلك الصراع بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، إذ كانت لبنان مصدراً للعنف الطائفي قبل عقود من أحداث ١١ سبتمبر.
تعد الجهات الحكومية غير الفاعلة الجزء الوحيد من التهديد، إذ لا تعد الحرب الأهلية في سوريا في المقام الأول صراعا بين الحكومة و “داعش”، بل هي صراع بين نظام استبدادي قمعي مسؤول عن إرهاب الدولة العنيف والقتل, وبين مجموعة من المتطرفين العرب السنة، انبثقت منهم جماعات حديثة التشكيل تابعة لتنظيم القاعدة.
كان أساس الهجمات الإرهابية في سوريا هو استخدام البراميل المتفجرة من قبل القوة الجوية التابعة للأسد، وقيام قواته البرية بمحاصرة المدنيين وقطع المساعدات عنهم، واستخدامه العنيف للمدفعية ضد المدنيين، كما أن الحرب الأهلية السورية التي تعد أنموذجا للقمع الذي تمارسه الدولة، وإرهاب الدولة، وفشل الحكومات العلمانية “التي كانت أرضا خصبة للجماعات غير الفاعلة الحكومية العنيفة”، سمحت لأسوأ الأنظمة بحكم المنطقة.
تعد الحرب في اليمن مثالا آخر للعنف الذي يتضمن عناصر دينية لكن لا يقوده الإرهاب أو التطرف، فهي حرب بين السنة والشيعة مع الدعم السعودي والإيراني، على الرغم من أن هذا الصراع قد أعطى لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الوقت للتعافي من ضغط مكافحة الإرهاب والسيطرة على مناطق جديدة في اليمن. وبالمثل، ساعد فساد الحكومة والشلل السياسي في أفغانستان على بقاء حركة طالبان، كما أصبحت جهود الدولة لمكافحة التطرف تشكل خطرا كبيرا على الحكومة الباكستانية التي بدأت بها في محاولة للضغط على جيرانها، وبرزت قضية العنف بين السنة والشيعة في الهند.
أوربا والولايات المتحدة والدول ذات الأقلية المسلمة ليست ضحية “صراع الحضارات”، ومن المؤكد أنها ليست من الدول التي تدعو إلى التسامح وتعليم الدين، وعلى الرغم من أعداد القتلى والإصابات التي حدثت فيها لا تعد فرنسا والولايات المتحدة وغيرها من دول الخارج إلا أهداف طفيفة للصراع الهائل الممتد الذي يشكل مستقبل الحضارة الإسلامية، ولابد من مقارنة العنف الذي حدث في الغرب والذي أودى بحياة البعض، بالعنف الذي حدث في الدول المسلمة وأودى بحياة مئات الآلاف من المسلمين في السنوات الأخيرة وتوقفت على إثره الحياة الاقتصادية والتنمية في العديد من البلدان، كما نتج عنه الملايين من المشردين واللاجئين.
لا توجد مجموعة واحدة من العوامل تقود هذا الصراع من أجل مستقبل الإسلام، وهناك تفاعل واضح مع صراعات وتوترات عرقية وقبلية هامة وأنماط واسعة من الإدارة الفاشلة والفساد، والرأسماليات والمواربة وعوائق التنمية الجسيمة التي تضعها الدولة والفشل في إيجاد حكم فعلي للقانون والشرطة النزيهة والقمع المستشري.
على الرغم من أهميته في تحديد مستقبل الإسلام، يمثل اللاهوت إحدى القوى التي تؤدي إلى انضمام الرجال والنساء في القضايا المتطرفة، ويتغذى التطرف الإسلامي على النمو السكاني الذي أدى إلى زيادة مستوى السكان من خمسة إلى ستة أضعاف في عام 1950، وهذا سبب “التضخم الشبابي”، أي زيادة عدد الشباب العاطلين الذين يواجهون البطالة التي لا توفر لهم أي مستقبل أو دور في أدنى مستوى من الطبقة الوسطى، حيث لا توجد وسيلة حقيقية لتقدمهم، كما يواجهون مشاكل هامة تتمثل في تحمل تكاليف الزواج والسكن والأطفال.
ومن أجل وضع هذه الضغوط السكانية في منظور عالمي، أجرى مركز “بيو للأبحاث” المختص بمتابعة نمو الديانات في العالم دراسة حول عدد المسلمين في العالم، إذ بلغ حوالي1,6 بليون شخص عام ٢٠١٠، وبذلك أصبح الإسلام ثاني أكبر ديانة في العالم، حيث شكل المسلمون نسبة ٢٣٪ من سكان العالم، وحسب التقدير الذي أجراه المركز ذاته لعدد المسلمين في شهر نيسان عام ٢٠١٥ توقع ازدياد عدد المسلمين بنسبة ٧٣٪ بحلول عام ٢٠٥٠ أي من 1,6 بليون شخص إلى 2,8 بليون شخص.
وبالنظر إلى القوى العاملة الأخرى – التي تشمل ارتفاع نسبة التحضر التي تهدم الشبكات التقليدية للسلم الاجتماعي، وتدفع الجماعات العنصرية والعرقية إلى مزيد من التطرف يوما بعد يوم – يؤكد النمو السكاني استمرار العزلة والغضب والتطرف لعقود من الزمن ما لم تعالج أسباب العنف بشكل صحيح، كما سيغادر بسببها الكثير من الشباب المسلمين إلى أوروبا والولايات المتحدة، ويرى البعض أنهم سيواجهون مشاكل عدة هناك، وهذا يعني أن قسما منهم سوف يشكل حركات متطرفة وإرهابا في الغرب.
يمكن لمكافحة الإرهاب حماية الغرب وردع الإرهاب فيه، كما أن محاربة حركات مثل تنظيم القاعدة و”داعش” وطالبان يمكن أن يساعد في الحد من ضرر التطرف في العالم الإسلامي، ويوفر فرصة خلق مستقبل حقيقي داخلها.
لن تستطيع استراتيجيات مكافحة الإرهاب منع وقوع هجمات مماثلة أو حتى أكثر سوءًا؛ وذلك لأنها تعالج أعراض العنف والإرهاب دون أسبابها. في الواقع، إن حجم هذه الأسباب يزداد ضخامة، فبعد تحقيق كل نصر ضد المتطرفين الحاليين يتم تشكيل حركات متطرفة جديدة وأعمال عنف جديدة.
الصراع الذي يمكنه تغيير هذه الحقيقة سيكون طويلا جدا، وستقع أحداث ومآس مشابهة لما حدث في باريس، فتغيير هذا الواقع يتطلب سنوات من الإصلاح داخل العالم الإسلامي، ودعما خارجيا يهدف إلى خلق حكومات لا تمارس سياسات قمعية، والتصدي لهذه الأعمال من خلال مكافحة الإرهاب سوف يوفر الوقت ويقلل الخسائر البشرية، إذ لا يمكن تحقيق نصر حقيقي إلا من خلال معالجة العالم الإسلامي لأسباب الإرهاب.
http://csis.org/publication/paris-isis-and-long-war-against-extremism