جوبي واريك: كان قد قام بتغطية القضايا المتعلقة بالأمن القومي، والاستخبارات، والشرق الأوسط لصحيفة “واشنطن بوست” منذ عام 1996. ويل ماكانتس: زميل في “المركز لسياسة الشرق الأوسط” ومدير “مشروع علاقات الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي” في معهد بروكينغز. هارون ي. زيلين: زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
12 تشرين الثاني/نوفمبر 2015
تلخيص وعرض: م.م. ميثاق مناحي العيساوي
في النهاية، ربما سيكون مصير التنظيم مماثلاً لمصير غيره من “الدول” الجهادية التي انهارت جميعها. ومع ذلك، لم تفشل هذه الدول بسبب سوء الحوكمة أو الوحشية المفرطة، وإنما لأنها جذبت أعداءً أجانب أقوياء وحازمين. وفي حين أن تنظيم “داعش” قد خلق العديد من الأعداء في العراق وسوريا، إلا أن معظمهم يركز حالياً على أولويات أخرى. وعلى الرغم من أن جهوده المستمرة بغزو جميع أراضي المسلمين ستكسبه المزيد من الأعداء، إلا أن الاضطرابات المستمرة في المنطقة وغياب الإرادة لدى أولئك الذين يعارضونه قد تسمح للتنظيم بالانتشار والتوسع. ويعترف تنظيم “الدولة الإسلامية” بحدود معينة، لكنه يعرف أنه لا يمكنه التقدم نحو مكة المكرمة ولا القدس في الوقت الحاضر.
“في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، خاطب جوبي واريك، وويل مَكانتس، وهارون زيلين منتدى سياسي في معهد واشنطن، وجاء في خطابهم:
جوبي واريك
كان أبو مصعب الزرقاوي، قوة لا غنى عنها في تشكيل تنظيم “القاعدة في العراق” وقيادته، وهذه الجماعة هي سلف تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”)، أو (الدولة الإسلامية). ويستمر الزرقاوي في التأثير على المتطرفين برؤيته وتكتيكاته بعد مدة طويلة من مصرعه في عام 2006 في غارة جوية أمريكية. ومن خلال الموهبة القيادية التي تمتع بها وعبر العرض المروع للعنف، جمع البعثيين السابقين الساخطين والإسلاميين المتطرفين من أجل بدء تمرد فعّال ضد الاحتلال الأمريكي في العراق.
وخلال المدة التي قضاها في السجون الأردنية في التسعينات، تطرف الزرقاوي وحوّل نفسه من بلطجي وسفاح في الشارع إلى زعيم، وعمل على إنماء شخصية قوية ولا تهاب، وهي التي جذبت أتباعه وجعلته يؤثر على السجناء من بين الأكثر تعليماً وخبرة. وعندما حاول الانضمام إلى تنظيم “القاعدة في أفغانستان”، عقب الإفراج عنه في وقت مبكر من عام 1999، عده أسامة بن لادن قائد التنظيم، متطرفاً جداً بالنسبة للجماعة.
وفي الواقع، اختلف الزرقاوي بشكل كبير مع بن لادن حول أهداف تنظيم “القاعدة” واستراتيجيته، إذ لم يهتم الزرقاوي في مناشدة جميع المسلمين. فعندما خطط لاستراتيجيته في العراق، رأى فرصة لحشد الدعم السني عن طريق استغلال التوترات الطائفية وإشعال النار. وقد تعززت جهوده في التجنيد عندما استشهد به وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول، عن طريق الخطأ، كحلقة وصل بين تنظيم “القاعدة” والرئيس العراقي السابق صدام حسين، الأمر الذي أكسبه شهرة وأتباع.
وكمنت الأهداف الأولى للزرقاوي في العراق في السفارات والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والقادة الشيعة، وذلك بهدف عزل كل طرف من الأطراف وإجبار الولايات المتحدة على الوقوف في منتصف الحرب الطائفية الناجمة عن ذلك. ولم يكمن هدفه في تحرير العراق، بل في دفع السنة إلى إنشاء دولة دينية. وقد رفض مطالبات قادة تنظيم “القاعدة” وغيرهم من القادة الذين كانوا يرون أن السنة ليسوا على استعداد لإدارة دولتهم الخاصة بعد.
ومن ثم، بدلاً من الإرشاد المُسهب لتنظيم “القاعدة”, نشر الزرقاوي مقاطع فيديو عنيفة لجذب المسلمين المتطرفين، وأدرك أنه يمكن لأشرطة الفيديو التي تُظهر الإعدامات أن تحمل تأثيراً دعائياً أكبر من التفجيرات التي تؤدي إلى وقوع أعداد هائلة من الإصابات. وقد تم تعزيز جهوده من قبل ضباط الجيش العراقي السابقين الذين كانوا من ذوي الخبرة في تشغيل الأجهزة الأمنية. وقد حافظ على شبكة استخبارات وإمدادات هائلة في العراق وتملّص من القوات الأمريكية على مدى أكثر من عامين.
وفي حين ركّز تنظيم “القاعدة” على عدو الإسلام البعيد، ركّز الزرقاوي على العدو القريب، أي الدول المحلية والحكام المحليين، وذلك بهدف إعادة إحياء الخلافة عبر الحصول على دعم واسع النطاق من السنة. وبعد ثماني سنوات من مقتل الزرقاوي، أعلن أبو بكر البغدادي علناً عن تحقيق هذا الهدف في مسجد في الموصل، وأثنى في إعلانه على الزرقاوي، وليس على ابن لادن.
ومنذ ذلك الحين، أظهر ما يسمّى بتنظيم “الدولة الإسلامية” مهارة في جمع الإيرادات. وحتى عند وصول سلفه تنظيم “القاعدة في العراق” إلى الحضيض خلال عام 2009، تمكن تنظيم “داعش” من جمع 200 إلى 250 مليون دولار سنوياً، وذلك بشكل حصري تقريباً من خلال عمليات الخطف والابتزاز. أما اليوم، ومع توسّع تنظيم “داعش” في الأراضي، فإنه يكتسب المزيد من العائدات من الضرائب والنفط والآثار وتجارة الرقيق. لكن قد تظهر صعوبة في هذا الإطار، إذا أصبحت المعاشات المخصصة لأُسر المقاتلين الذين قتلوا في ساحة المعركة عبئاً مالياً لا يمكنها تحمله. فهذه العوامل تلزم تنظيم “داعش” على توسيع قاعدته الضريبية باستمرار. ومع ذلك، يصعب تعطيل آليات التمويل الذاتي التي يتمتع بها.
أما بالنسبة إلى البروز المحتمل لـ”الصحوة” السنية التي قد تتحداه في السيطرة على الأراضي، فإن تنظيم “داعش” يدرك التهديد ويعلن عن عقوبات قاسية كرادع ضد المتآمرين المحتملين. وفي حين نجحت القوات الأمريكية تحت قيادة الجنرال ستانلي ماكريستال في عمليات القتل المستهدفة ضد تنظيم “القاعدة في العراق” في الماضي، فإن هذا الخيار غير متوفر ضد تنظيم “داعش”. وبدلاً من ذلك، (أصبح) السنّة هم المحور الأهم في أي استراتيجية لهزيمة التنظيم.
ويل مَكانتس
قبل حرب العراق، تصوَّر الزرقاوي إقامة “الدولة الإسلامية” باعتبارها نواة الخلافة، ونظر إلى الصراع اللاحق بوصفه أفضل فرصة لتحقيق طموحاته. وقد أبعدته هذه الاستراتيجية عن التنظيمات الجهادية الأخرى التي تعد الولايات المتحدة عدوها الرئيس.
وفي حين افتقر الزرقاوي إلى رؤية سياسية متطورة، قدم المنظّرون الآخرون إطاراً لمشروعه القائم على بناء الدولة. ففي عام 2004، كتب أحد أعضاء تنظيم “القاعدة” كتاب “إدارة التوحش”، وهو عبارة عن خطة لإنشاء دولة دينية. إذ فصّل كيف يجب على الجهاديين استغلال الفراغات الأمنية القائمة أو إنشاء فراغات خاصة بهم من خلال مهاجمة البنية التحتية الحساسة للدولة. فعند انحسار الدولة من أجل توحيد صفوفها وتنظيمها، يمكن للجهاديين ملء هذا الفراغ لتقديم الخدمات الاجتماعية والأمنية. وفي مرحلة ثانية، يمكن لهذه الأماكن التي يحكمها الجهاديون أن تتواصل مع بعضها البعض من أجل إقامة دولة. وفي هذا السياق، كان إعلان أبو بكر البغدادي الخلافة في عام 2014 أول ادعاء مثيل جدير بالتصديق منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية.
ويتجلى العامل الرئيس لهذه الاستراتيجية في جذب دعم المحليين السنّة، وهي قضية ثبت أنها تشكل فرقاً جوهرياً بين تنظيمي “القاعدة” و “القاعدة في العراق” بقيادة الزرقاوي. واعتبرت القيادة المركزية أن الاستحواذ على القلوب والعقول أمر ضروري لدعم برنامجها السياسي، في حين تمثّل رأي الزرقاوي في العمل لتحقيق هدف واضح من خلال الدقة والعنف إما لكسب الدعم السني أو لإجبار السنة على الخضوع لأهدافه. وقد نصح تنظيم “القاعدة” بعدم اعتماد هذا النهج المتسارع في بناء الدولة، فتكتيكات الزرقاوي أغضبت العشائر والجماعات المتمردة السنية، وتم تمكين سخطها وتوجيهه من قبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مما أدى إلى التراجع عن أول مشروع لـ”الدولة الإسلامية” بين العامين 2008 و 2009. وبحلول ذلك الوقت، كانت الحركة قد تدهورت لتتحول من كونها عبارة عن تمرد قابل للاستمرار إلى منظمة إرهابية سرية.
لكن بعد هذه النكسة اعتمدت الجماعات التابعة لتنظيم “القاعدة” علم تنظيم “الدولة الإسلامية” ومشروع بناء الدولة في الأماكن التي كانت فيها الدولة العراقية قيد الانهيار أو غائبة. وابتداءً من عام 2012، وفّرت الحرب الأهلية السورية فرصة إضافية للتنظيم. فقد أدركت عدّة عشائر عربية سنية أنها محرومة من حقوقها وعلى استعداد لمساعدة تنظيم “داعش”؛ لأنها رأت أنه البديل الأفضل إما لنظام الأسد أو للدولة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة على نحو متزايد. وفي البداية، تعاون تنظيم “الدولة الإسلامية” مع الفصائل الأخرى في هذه الأماكن، ولكن مع مرور الوقت سعى إلى فرض جدول أعماله والقضاء على المنافسين.
وفي النهاية، ربما سيكون مصير التنظيم مماثلاً لمصير غيره من “الدول” الجهادية التي انهارت جميعها. ومع ذلك، لم تفشل هذه الدول بسبب سوء الحوكمة أو الوحشية المفرطة، وإنما لأنها جذبت أعداءً أجانب أقوياء وحازمين. وفي حين أن تنظيم “داعش” قد خلق العديد من الأعداء في العراق وسوريا، إلا أن معظمهم يركز حالياً على أولويات أخرى. وعلى الرغم من أن جهوده المستمرة بغزو جميع أراضي المسلمين ستكسبه المزيد من الأعداء، إلا أن الاضطرابات المستمرة في المنطقة وغياب الإرادة لدى أولئك الذين يعارضونه قد تسمح للتنظيم بالانتشار والتوسع. ويعترف تنظيم “الدولة الإسلامية” بحدود معينة، لكنه يعرف أنه لا يمكنه التقدم نحو مكة المكرمة ولا القدس في الوقت الحاضر.
وخلاصة القول: إن نهج الولايات المتحدة السابق في العراق خلال “صحوة الأنبار” يشكل أيضاً العامل الرئيس لهزيمة تنظيم “داعش” في الوقت الحالي. إن دعم العشائر العربية السنية يجب أن يكون نقطة محورية في أي استراتيجية لمواجهة الجماعة، وهو شرط يستثني بالتأكيد إيران وروسيا من أي تحالف قابل للاستمرار ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
هارون زيلين
يتّبع تنظيم “الدولة الإسلامية” نمطاً في توسيع السلطة وتطويرها وتوطيدها. وعلى الرغم من أن هذا النهج كان في البداية عبارة عن عملية مؤقتة تتكيف حسب الظروف، إلا أنها تتم الآن بشكل منهجي، وهذه البيروقراطية تسمح للتنظيم بالعمل باستمرار عبر المحافظات المختلفة وبين الأراضي والمناطق الرئيسة وتلك الواقعة في المحيط الخارجي. وفي حين تتم بعض الخطوات في آن واحد، غالباً ما تكون هذه العملية عبارة عن تقدم خطي متسلسل: العمليات الاستخباراتية، تليها العمليات العسكرية، وأنشطة الدعوة وأنشطة الحسبة (الشرطة الأخلاقية وحماية المستهلك) والحوكمة.
وتشمل المرحلة الاستخباراتية تنظيم الخلايا النائمة وتسلل المجموعات المختلفة. وفي الأراضي مثل سيناء وليبيا وسوريا، لا يبدأ تنظيم “الدولة الإسلامية” عمله من الصفر، بل يدمج الشبكات الجهادية الموجودة في إطاره، مما يسمح للجماعة باكتشاف التضاريس المحلية بسرعة. وبعد ذلك يتّبع التنظيم أساليب قتالية غير متماثلة مثل هجمات الكر والفر والسيارات المفخخة. أما الأنشطة “التبشيرية”، والتي تشمل الأطراف المتلقية للدعاية وتوزيع بطاقات هوية إلكترونية، فهي تسمح للجماعة بإبلاغ السكان الخاضعين لسيطرتها، وتوجيه خطابها العام، وتوحيد كوادرها. كما وتم إنشاء مكاتب العلاقات العامة لجمع الأطراف المتخاصمة سوية وإدارة التحكيم، في حين تشمل أنشطة الحسبة حرق المواد المحظورة والرموز الدينية غير السنية. بعد ذلك يفرض تنظيم “داعش” الضرائب وقوانين أوسع نطاقاً ويقدم الخدمات الاجتماعية. وفي الوقت الحالي، تشكل مصادرة الأملاك أكبر مصدر لإيرادات الجماعة، ولكن هذا أمر لا يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل.
ويفتقر تنظيم “داعش” إلى السيطرة الكاملة في معظم المناطق، ولكنه يعمل على تحقيق مستوى من الحياة الطبيعية في جميع أنحاء مناطقه وأراضيه. فالأعلام السوداء موجودة في كل مكان، وقد تم إعادة تسمية بعض المناطق، كما تُظهر مشاريع الأشغال العامة أن الجماعة تقدم الخدمات للسكان المحليين. فضلاً عن ذلك، أعاد التنظيم تشغيل العديد من الصناعات مثل معالجة المياه والزراعة وإنتاج السلع.
وبقيت السلطات في تنظيم “الدولة الإسلامية” يقظة ضد أخطار “الصحوات” المحتملة، وذلك عبر قمع ثلاث صحوات حتى الآن في العراق وليبيا ودير الزور في سوريا. إلى جانب ذلك، فهي ترصد بدقة الإنترنت ووسائل الإعلام. وبعد بسط سيطرتها في المنطقة، اعتمدت برامج إعادة تأهيل للقادة المحليين والمواطنين. أضف إلى ذلك، أنها تستخدم المكائد للقضاء على المعارضة. وفي حين أن بعض الأفراد في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” يلتزمون بقضية الجماعة، فإن البعض الآخر يبقى صامتاً فقط للبقاء على قيد الحياة. وبمجرد رسوخه سيصبح من الصعب استئصال التنظيم، على الرغم من أن قبضته أقل شدة في سوريا مما هي عليه في العراق. فالأراضي الوحيدة التي خسرها تنظيم “الدولة الإسلامية” هي تلك التي لم يفرض عليها سيطرته الكاملة قط.
وأخيراً، في حين يركز تنظيم “داعش” على عدو قريب في الوقت الحالي، يمكنه في النهاية استخدام أراضيه كملاذ آمن لشن عملية إرهابية أجنبية واسعة النطاق على غرار هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، وذلك بهدف كسب الأتباع وارتداء عباءة تنظيم “القاعدة”.
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-rise-of-isis-remaining-and-expanding