ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
كانون الثاني/يناير 2016
مرحلة جديدة من مراحل الصراع في منطقة الشرق الأوسط تجسدت بظهور تنظيم (الدولة الإسلامية “داعش”) على الساحة الدولية بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، بعد سيطرة التنظيم على أجزاء واسعة من سوريا. وقد امتد خطر التنظيم إلى العراق، بعدما اجتاح عدداً من محافظات العراق الشمالية والغربية مثل محافظة الموصل والأنبار وبعض مدن صلاح الدين وديالى، قبل أن تتمكن قوات الأمن العراقية من طرد التنظيم من بعض المدن مثل تكريت وضواحيها، وكذلك محافظة ديالى، ومدينة بيجي الاستراتيجية مؤخراً، إلا أن التنظيم ما زال يسيطر على عدد من المدن والبلدات العراقية في الأنبار، وكذلك مدينتي “الشرقاط والحويجة” الحدوديتين مع محافظة الموصل، واللتين تخضعان لسيطرة التنظيم منذ حزيران/ يونيو 2014. ويدرك تنظيم “داعش” الأهمية الاستراتيجية لتلك البلدتين “الحويجة والشرقاط” في تحديد مستقبله العسكري، إذا ما تمت السيطرة عليها من قبل قوات الأمن العراقية؛ لأن كسب المعركة في هاتين البلدتين من قبل القوات العراقية سيفتح الطريق نحو محافظة الموصلعاصمة التنظيم ومعقله الرئيس في العراق، وهذا يعد ضربة قوية للتنظيم؛ لأن الموصل ستكون حينها خطا من خطوط المواجهة وكذلك خط دفاع، وليس خط إمداد ودعم عسكري لقواته المنتشرة في بعض المدن، مما يهدد سيطرة التنظيم ونفوذه في تلك المحافظة وبعض المدن القريبة منها، وهذا بالتأكيد سيحدد الملامح المستقبلية للتنظيم عسكرياً. ولعل تحرير مدينة الرمادي، وخطاب أبي بكر البغدادي الأخير، والذي حثّ فيه أنصاره على الصمود، يثبت تهاوي التنظيم عسكرياً.
أما سياسياً، فإن تنظيم “داعش” أخذ في تنظيم الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية في تلك المحافظات الخاضعة لسيطرته سواء في سوريا أم في العراق، بتطبيق القوانين وفرض الضرائب وفتح المصارف وإصدار الإجازات (إجازات السوق) وتصدير النفط .. الخ؛ لفرض سلطته ونمط الحياة السياسية والدينية الخاصة به. وقد عمل التنظيم على استغلال القوة الناعمة التي تتيحها له وسائل الإعلام الغربية والبعض من وسائل الإعلام العربية وشبكات التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها من وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمكتوبة)، لنشر الدعاية وأسلوب ونمط الحياة السياسية التي يعيشها بشكل جذّاب؛ لكسب المتشددين في كل بقاع العالم. وقد عمل على إصدار مجلة خاصة به اسمها “دابق”؛ لتسويق فكره السياسي والديني والاجتماعي. هذا يعني أن تنظيم “داعش” يشرع لمستقبل بعيد في بناء وتنظيم دولته على العكس من تنظيم القاعدة والتنظيمات الأخرى. فهو يعمل بخطوط متوازية في بناء مستقبله كدولة، وهذه الخطوط تتحدد من خلال المواجهة العسكرية ضد القوات الوطنية بالتوازي مع فرض سلطته السياسية والعسكرية والدينية في مناطق نفوذه، سواء بالترغيب أم بالترهيب، بين تقديم الخدمات وسلب الحريات. وفي ظل هذين الخطين المتوازيين، يعمل التنظيم على استغلال القوة الناعمة في جذب المتطرفين التي تزيد من قوته بشكل كبير. إلا أن هناك تحديات تواجه “داعش” حالياً وستنعكس على مستقبله السياسي والعسكري والآيديولوجي، منها العقيدة المتطرفة للتنظيم، ونسف الآخر وعدم الاعتراف به، والنفور الاجتماعي، والممارسات الإجرامية، وانعزاله وانغلاقه الفكري والآيديولوجي، ورفضه لكثير من مزايا التطور التكنولوجي المعاصر، ورفع شعار “باقية وتتمدد”، جاعلاً من كل الدول العربية والإسلامية والأوروبية هدفاً لدولته المستقبلية، فضلاً عن التحديات الإقليمية والدولية. وهذا بالتأكيد سيقوّض فلسفة التنظيم فكرياً، ويحجّم قدرته العسكرية في التوسع والتمدد، سواء بالنسبة للبيئة المحلية العراقية أم بالنسبة للمحيط الإقليمي والدولي. صحيح أن المحيطين الإقليمي والدولي لم يبادرا بعد إلى إنهاء “داعش” بشكل جدي؛ لأن التنظيم ليس له القدرة بعد بشكل فعلي في اجتياح المحيط الإقليمي أو اجتياح بعض دول الخليج والمنطقة العربية كما هو الحال في سوريا والعراق، ولم يهدد بعد المصالح الأمريكية والغربية بشكل مباشر؛ ولذلك لم يبادرا (المحيطان الإقليمي والدولي) إلى خوض مواجهة مباشرة ضده، كما هو الحال بالنسبة لروسيا بعد انخراطها العسكري في سوريا، والانخراط الإيراني في العراق، على الرغم من أنهما لا يهدفان إلى إنهاء التنظيم، وإنما يهدفان إلى احتوائه. وربما هذا الانخراط العسكري الروسي في سوريا بمساندة إيران سيزيد من الضغط على واشنطن في إنهاء “داعش” في العراق، ولربما عبر التدخل البري إذا تطلب الأمر.
إن استراتيجية “داعش” وقدراته السياسية والعسكرية وعقيدته الفكرية المتطرفة بُنيت على أنقاض سياسات الدول العربية الداخلية والخارجية وتخلف أنظمتها السياسية؛ بسبب استمرار سياسة التعارض العربي والتفكك الخارجي وغياب الاستراتيجية العربية المشتركة، والانشغال بالصراعات الداخلية والتنافس المذهبي، والابتعاد عن الحوارات المشتركة، وضعف التنمية السياسية، وعدم تفعيل الروابط العربية المشتركة، مما خلق فراغات استطاع التنظيم استغلالها في إعلان دولته. ففي العراق استطاع تنظيم “داعش” أن يبني كيانه، نتيجة الاختلاف السياسي وعدم الاتفاق بين القوى السياسية العراقية على مشروع بناء الدولة، وغياب رؤية صانع القرار العراقي على مدار السنوات الماضية، والتهميش السياسي والاقتصادي، وتغييب المصالحة الوطنية، وتسييس كل مؤسسات الدولة ولاسيما المؤسسة العسكرية والقضائية، وتغييب مفهوم المواطنة والمشاركة الحقيقية في بناء الدولة، وضعف المؤسسات الدينية في أداء دورها الديني والفكري، هذا على من جهة. ومن جهة أخرى، فقد استطاع التنظيم استغلال نقطتين مهمتين وهما: الحضور الإيراني في العراق والغياب العربي؛ لأنه (أي التنظيم) وظف فكرة التدخل الإيراني المستمر في العراق لصالحه في كسب الإرادة السنية بشكل عام. في موازاة ذلك، استفاد من حالة الانقطاع السياسي والدبلوماسي بين العراق والعرب بعد العام 2003. ولهذا – وفي ضوء هذا التشخيص لمكامن القصور الداخلية والخارجية – يمكن أن يحدد مستقبل تنظيم “داعش” من خلال المعالجة الفعلية لتلك القصور في السياسات.
هذه المعالجات لايمكن أن تثمر فقط من خلال الحل العسكري، وعلى الحكومة العراقية والقوى السياسية والأحزاب والتيارات الموجودة في العملية السياسية العراقية أن تتيقن وتدرك بأن هزيمة “داعش” عسكرياً هي حلول ترقيعية غير مجدية في تقويض التنظيم مستقبلاً، وعليها القيام بإصلاحات حقيقية شاملة تستهدف كل مفاصل الدولة العراقية، وتوسيع المشاركة الفعلية في السلطة والإدارة والحكم. وإذا ما أرادت الحكومة والقوى السياسية العراقية تحقيق ذلك، عليها أن تقوض كل المشاريع الإقليمية التي لعبت دورا سلبيا داخل العراق منذ عام 2003، وحصر السلاح بيد الدولة فقط. تلك المعالجات السياسية من شأنها أن تحدد مستقبل “داعش” وتقوض مشروعه السياسي في العراق، إلا أن المعالجة الفكرية بشكل جذري تتطلب وقتاً أطول، وتكاتفا داخليا وخارجيا، وإذا ما شرعت الحكومة العراقية في تصحيح مسار العملية السياسية وإدارة الحكم ومعالجة كل سلبيات المراحل السابقة، فهي خطوة في الاتجاه الصحيح. فالمشكلة ليست فقط في مرحلة “داعش” الحالية، وإنما مرحلة مابعد “داعش” أكثر حرجاً بالنسبة للحكومة؛ لأن الكثير سينتظر الحكومة العراقية في معالجة مسببات “داعش” الأولية، ومعالجة الأخطاء للمرحلة السابقة، والعمل على تقريب وجهات النظر العربية؛ لإرجاع العراق إلى محيطه العربي وخلق رؤية عربية مشتركة، فضلاً عن معالجة النفوذ الإقليمي لبعض الدولة الإقليمية في العراق. فهزيمة “داعش” تحتاج إلى تكاتف محلي وخارجي طويل الأمد، وهذا التكاتف يتمثل: داخلياً بين الحكومات والقوى السياسية الوطنية، وخارجياً بالإرادة العربية الإقليمية والدولية.
وبهذا يمكن تحديد مستقبل تنظيم “داعش” في العراق من خلال الآتي:
- عسكرياً: من خلال الإسراع في إنهاء المواجهة العسكرية ضد التنظيم وحسمهما بالسرعة القصوى؛ لكي لا تستنزف القوات العراقية في معارك كر وفر وينفد صبرها من طول المعركة وتستنزف قدراتها بالخطط العسكرية الفاشلة.
- سياسياً: إنهاء الصراع السياسي الداخلي بين القوى السياسية ودعم الحكومة العراقية في القيام بإصلاح سياسي واقتصادي شامل والاتفاق على مشروع دولة حقيقي.
- فكرياً: عقد الاجتماعات واللقاءات الدينية بشكل دوري مستمر بين المرجعيات الدينية “السنية والشيعية” والعمل على تقريب وجهات النظر ونبذ التطرف والابتعاد عن كل ما يُسيء إلى التاريخ الإسلامي ورموزه الدينية، ولا شك أن الأزهر والنجف يقع عليهما المسؤولية الأكبر في ذلك.
- إقليمياً: من خلال العمل على إيجاد شراكة استراتيجية عربية شاملة من شأنها أن تعالج مشكلة التطرف الديني في الدول العربية على أقل تقدير، وسد الفراغات السياسية والاقتصادية الناتجة عن التقاطع السياسي بين الدول العربية.
- أهمية الدعم العربي والإقليمي: الإصرار على البعد الإقليمي والعربي في تحديد مستقبل “داعش” في العراق مهم جداً بالنسبة للحكومة العراقية؛ لأنه من غير الممكن القضاء على التنظيم داخلياً في ظل استمرار الحواضن الإقليمية للتنظيم، أو الاستمرار في التقاطع العراقي – العربي. ولعل المشكلة إقليمية أكبر مما هي مشكلة سياسية واجتماعية “داخلية” بالنسبة للعراق. وبهذا، من الممكن أن يقوّض العراق فكر تنظيم “داعش” ويتمكن من احتوائه داخلياً، ومن ثم السعي إلى التفاعل العربي المشترك في معالجة مستقبلية لكل الحركات المتطرفة خارجيا، وهذا من شأنه أن يسهم في عملية الاستقرار الإقليمي في المنطقة بشكل كبير.