ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
كانون الثاني/2016
منذ العام 2003 والتغير السياسي الذي حصل في العراق منذ الإطاحة بنظام صدام حسين, ودخول العراق مرحلة سياسية ونظام سياسي جديد, ترتب عليه تغيير في بنية النظام السياسي العراقي وشكل الدولة وسلطاتها. وعلى الرغم من أن الكثيرين استبشروا خيراً بالتغيير السياسي, إلا أن الـ 13 سنة الماضية لم تحمل ذلك التنبؤ الاستبشاري للشعب العراقي؛ بسبب تخبط القيادة السياسية والقوى الحزبية, التي عملت طيلة تلك السنوات بمبدأ الحلول الترقيعية لكل الأزمات والمنعطفات السياسية التي ضربت العملية السياسية والدولة العراقية بشكل عام, ولعل الحدث الأهم والأخطر خلال المدة الأخيرة هو الاجتياح الداعشي الذي تمثل باجتياح تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”) لبعض المحافظات العراقية في 10 حزيران/يونيو 2014. وعلى الرغم من المفاجئة التي أحدثها تنظيم “داعش” بذلك الاجتياح والصدمة التي خلفها, إلا أن الحكومة العراقية بقواها السياسية وتشكيلاتها العسكرية والأمنية لم تتفاجئ بذلك؛ لكونها تعلم بحجم الشرخ الذي خلفته على الصعيدين السياسي والاجتماعي والمحاصصة الطائفية والحزبية التي استدرجت كل مؤسسات الدولة العراقية بما فيها المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية, وهي مدركة مايحصل داخل منظومة الدولة العراقية بمؤسساتها وسلطاتها طيلة السنوات الماضية دون علاج حقيقي على الرغم من تشخيص المرض والعجز الذي أصاب الدولة العراقية طوال الحقبة الماضية، حتى دفع الشعب العراقي ثمن كل تلك الحماقات السياسية والحزبية التي ارتكبتها القوى السياسية والحكومات السابقة بهذا الاجتياح الذي أوصل الدولة العراقية إلى الهاوية, والذي ترتب عليه عوامل خطيرة, ولعل أخطرها هو الثقة التي فقدها المواطن العراقي بالحكومة ومؤسساتها, ولاسيما المؤسسة العسكرية, إلا أن تحرير الرمادي وما سبقها من عمليات تحرير لبعض المدن أثبت للجميع أن المشكلة في العراق هي مشكلة سياسية, وأن المؤسسة العسكرية العراقية والجيش العراقي ما يزال قوة، ورقما صعبا يحسب له الكثير، ويتمتع بقدرات عالية وإرادة حقيقية في القتال على الرغم من ضعف الإعداد والتدريب وتفاقم الأزمات التي القت بضلالها على المؤسسة العسكرية برمتها، وكذلك يبدو أن التدريب الأمريكي العالي المستوى لبعض وحدات الجيش العراقي أتى ثماره, والدليل على ذلك, ما يقدمه اليوم جهاز مكافحة الإرهاب من قدرات عالية المستوى في المعارك ضد تنظيم “داعش”. وعليه، يفترض أن كل وحدات الجيش العراقي وقوى الأمن العراقية يجب أن تدرب بهذا التدريب العالي, وأن تكون المؤسسة العسكرية بعيدة كلياً عن الصراع الحزبي والسياسي؛ لأن ما أثبتته أحداث الموصل, هو أن الجيش العراقي لم يرد خوض المواجهة ضد تنظيم “داعش”, ليس لعدم قابلية الجندي العراقي على مقاتلة عناصر التنظيم، وإنما نتيجة الفشل الموجود داخل المنظومة العسكرية والمؤسسة الأمنية برمتها على مدار عقد من الزمن, كالقوات الفضائية, وتسييس المؤسسة العسكرية, والتخمة في الرتب، وغياب القيادة الصحيحة, وشراء الذمم, والمزايدات المالية في شراء الرتب العسكرية, والرتب الدمج, فضلاً عن ضعف القيادة المركزية المتمثلة في القيادة العامة للقوات المسلحة؛ بسبب الانقسام السياسي بين القوى السياسية والأحزاب والتدخلات الإقليمية وإخضاع كل مؤسسات الدولة لذلك الصراع السياسي والطائفي, مما أفقد الجندي العراقي الأمل في إيجاد الحلول والتوافقات وتصحيح مسار العملية السياسية؛ لإنهاء الصراع السياسي والمحاصصة الطائفية التي أنهكت الجندي العراقي والمؤسسة العسكرية برمتها.
إذاً، هناك مرحلة يجب على الجميع أن يدركها بعد كل تلك المعاناة والتضحيات, وهي أن كل التجارب الماضية والأجندة السياسية فاشلة لايمكن أن تبني دولة, وعليه يمكن معالجة مسببات ظهور “داعش”, واستغلال وحشيته ضد أهل السنة؛ لكسبهم إلى الحكومة العراقية أولاً, والمؤسسة العسكرية والجيش العراقي ثانياً, وأن يكون ذلك إداة ضغط على كل القوى السياسية في الكف عن مشاريعها الطائفية التي تسببت في ضعف الدولة العراقية, وأن يستثمر ذلك في إعادة الثقة بين الجميع, ولاسيما بعد ارتياح المكون السني في تحرير مدينة الرمادي مؤخراً ومؤازرتهم للقوات الأمنية, بعد أن فقدوا ثقتهم بها في فتراتٍ سابقة؛ بسبب سوء القيادة العامة.
صحيح أن مرحلة مابعد “داعش” تواجه تحديات كبيرة وكثيرة, إلا أنها ليس مستحيلة، وأن القوى السياسية قادرة على تجاوزها بالتفاهمات المشتركة. ويؤكد البعض بأن مرحلة مابعد “داعش” هي أشد وأصعب من المراحل التي سبقتها؛ بسبب تعدد الفصائل المسلحة التي قاتلت التنظيم المتطرف في الساحة العراقية, إلا أن كل تلك الحركات – وعلى الرغم من أنها تمتلك قوة على الأرض، ولكل منها رؤية سياسية مختلفة عن الآخر, شأنها في ذلك شأن القوى السياسية, لا بل اختلاف الرؤى بين كل تلك الفصائل هو نتيجة الاختلاف السياسي – يمكن أن تصل إلى رؤية سياسية واستراتيجية مشتركة وجامعة؛ لكون كل الفصائل المسلحة هي حركات مرتبطة بقوى سياسية, فإذا ما وجد المشروع السياسي والقرار الوطني بين القوى السياسية، فإن أغلب تلك الفصائل ستنخرط إما في المؤسسة العسكرية, أو أن تترك السلاح وتنخرط سلميا في العملية السياسية؛ لأن القتال لايمكن أن يدوم، فالجميع أرهقه طول المعارك وشدتها, والكل أعطى تضحيات ويبحث عن استقرار, إلا أولئك الذي يحملون مخططات خبيثة في جعل العراق مسرحاً للمعارك وساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية, ولذلك يجب على كل تلك الفصائل أن تتوحد برؤية وهدف مشترك بعيداً عن الأجندة الخارجية والداخلية, وأن تكون مساهمة في عملية الاستقرار وطرد التنظيمات الإرهابية, وبذلك ستكون كل الفصائل هي عامل إسهام في الاستقرار الداخلي لمرحلة مابعد “داعش” في حال توحدت الرؤى، وإن ذلك سيرسل رسالة إيجابية للمكونات الاجتماعية الأخرى بسلمية أهداف تلك الفصائل وحربها ضد تنظيم “داعش”, ولاسيما بعد ما أراد البعض تشويهها سياسياً, بأن لتلك الفصائل أجندة سياسية وطائفية لمحاربتها تنظيم “داعش” وليس لدواع وطنية ودرء الخطر عن الشعب العراقي. ويجب أن يدرك الجميع بأن تشتت القرار السياسي والعسكري وحمل السلاح بشكل عشوائي خارج إطار المؤسسة الأمنية العراقية سيكون عاملا داعما لمشاريع خارجية طائفية وسيكون التقسيم هو العلاج الأخير في حال استمر الوضع على ماهو عليه, وربما نشهد حركات أكثر تطرفاً من “داعش”؛ لرد المظالم، أو نشهد حركات مسلحة في بعض المحافظات العراقية كنوع من توزان القوى في الساحة السياسية.
وعليه، فالمشاكل كبيرة والتحديات صعبة، لكن في المقابل الحلول كثيرة وليست معقدة, إلا أنها بحاجة إلى قرارات جريئة وإصلاح حقيقي وتكاتف داخلي بين القوى السياسة, وإرادة وطنية قوية تحمل على عاتقها مسؤولية بناء الدولة بعد كل الإخفاقات السابقة. ولكي لا تعطى شرعية للقائلين بأن مرحلة مابعد 2003 هي أسوء مرحلة تاريخية عرفها تاريخ العراق الحديث, يجب أن تكون هناك نهضة إصلاحية حقيقية وإرادة وطنية قوية، وهي مسؤولية تقع على عاتق كل القوى السياسية والأحزاب العراقية، ويفترض أن يكون هذا الإصلاح مصحوبا برؤية خارجية موحدة, وانفتاح خارجي فعّال.