ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية
كانون الثاني/2016
على مايبدو أن الدين لم يبق متحكماً بالشعوب كما قالوا قديماً: “الدين أفيون الشعوب”، ليستبدل الدين بالطائفة، وتصبح الطائفة والمذهبية في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية هي المتحكمة في حركة أنظمتها السياسية وتطلعاتها الخارجية في وقتنا الحاضر، فالتكتلات والتحالفات السياسية والاقتصادية الداخلية والإقليمية في المنطقة أصبحت مقسمة طائفياً، كالتحالف الإيراني في سوريا والتحالف الإسلامي الذي أعلنت عنه السعودية مؤخراً. كذلك يبدو أن الصراع الطائفي في المنطقة أسدل الستار على المفاهيم التقليدية كـ”القومية العربية والصراع العربي الإسرائيلي”، وهذا التحول في الصراع والمفاهيم يحسب للإدارة الإسرائيلية والغربية على حد سواء.
ما تعيشه المنطقة اليوم هو صراع نفوذ بين دولتين إسلاميتين بحكم مذهبي “سني شيعي” متشددين، تحاول كل منهما توظيف الصراع الطائفي في المواجهات الإقليمية من أجل ديمومة وتجدد الصراع في المنطقة والتحكم في ملفاتها، وإدارة الحرب بالوكالة سواء في العراق أم في سوريا أم في اليمن أم في لبنان، بغض النظر عن دور القوى الإقليمية والدولية الأخرى في هذا الصراع الإقليمي. فالمواجهة السياسية بين اللاعبين الإقليميين “إيران والسعودية” تجاوزت الحدود القومية للدولة الحديثة، لتضرب مكونات الدول الداخلية. وما يحدث من حالات عدم الاستقرار وتصاعد في الأزمات الإقليمية لدول مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان هو نتيجة طبيعية لتمدد هذا الصراع وتوظيفه طائفياً من خلال إدارة الحرب بالوكالة، وكاد يكون العامل الرئيس والأساس لحالة عدم الاستقرار في تلك الدول هو بسبب تصاعد المطامع الإقليمية وصراع النفوذ بين اللاعب الإيراني والسعودي، وهي محاولة ذكية -في الوقت نفسه -لتصدير الأزمات الداخلية لكلا الطرفين إقليمياً، من خلال إدارة تلك الملفات الطائفية والتحكم في بعض مكونات الدول الداخلية بوتر طائفي. فالسعودية اليوم تشهد حالة من عدم الاستقرار الداخلي ومشاكل داخلية كثيرة، ولاسيما بين العائلة الحاكمة، حاولت تصديرها بتدخلها في سوريا ودعمها للجماعات المتطرفة، وكذلك دخولها الحرب في اليمن، وتشكيل التحالف الإسلامي، وآخرها إعدام المعارض الشيخ نمر باقر النمر. كذلك الحال بالنسبة لإيران، فالضجة السياسية التي خلفها إعدام النمر، وظفت طائفياً، ليس في الداخل الإيراني أو السعودي، وإنما في دول الجوار الإقليمي، وهي في الوقت ذاته تنتج تعقيدا للأزمات الإقليمية والتي على مايبدو أن لا طهران ولا الرياض تريد حلحلة تلك الأزمات سواء في سوريا أم في العراق أم في اليمن، وستكون تداعياتها كارثية على هذه الدول في حال انجرارها خلف التصعيد الإقليمي “الإيراني -السعودي”.
السعودية كان باستطاعتها الحفاظ على الشيخ النمر داخل سجونها لسنوات طوال، ولاسيما بعد المناشدات الدولية بعدم إعدامه، وبهذا ستحافظ على وضعها الداخلي ولا تستفز الطائفة الشيعية في الداخل، والطائفة الشيعية بشكل عام، ولا تدخل في مواجهات إعلامية وتصعيد سياسي مع إيران وبعض دول الجوار، وكذلك تحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، وأيضاً كان باستطاعتها كسب الود العراقي الرسمي والشعبي في الداخل، ولاسيما بعد فتح سفارتها في بغداد، إلا أن النظام السعودي كان له مقاصد كثيرة من هذا الفعل. لكن يبقى السؤال المطروح هو: لماذا تعمد النظام السعودي إعدام النمر في هذا الوقت؟ ولماذا وقتت السعودية هذا الفعل مع اليوم الأول لفتح سفارتها في بغداد؟ وما الذي تريد المملكة تصديره من خلال عملها هذا؟ وهل أنها تحاول تكبير نفسها بنفسها من خلال شد أنظار الدول العربية، وأنظار العالم نحوها؟
ربما كانت السعودية تحت ضغط أمريكي وضغط سني عربي وعراقي، لفتح سفارتها في بغداد، ولهذا كان توقيت حالة الإعدام مع فتح السفارة السعودية في بغداد. كذلك -وعلى ما يبدو -إن الفشل السعودي في إفشال صفقة الاتفاق الغربي الأمريكي مع إيران “الاتفاق النووي”، واكتساب إيران ثقة الدول الغربية بعد هذا الاتفاق، واستعداد الغرب لرفع العقوبات الاقتصادية والسياسية عن طهران، هذا بالتأكيد سيزيد من نفوذ إيران الإقليمي وتطلعاتها وأطماعها السياسية في المنطقة. في موازاة ذلك، ازدادت حالة التخوف السعودي والخليجي من هذا النفوذ، مما دفع السعودية إلى طرق أخرى لتسقيط الواجهة السياسية والدبلوماسية التي اكتسبتها طهران بعد الاتفاق النووي من خلال قضية إعدام الشيخ النمر، ولاسيما بعد فشل كل المحاولات السعودية السابقة لاستفزاز إيران. وقد يكون العامل الاقتصادي ورفع العقوبات عن النفط الإيراني أحد دواعي وأهداف السعودية من هذا الفعل؛ لأن التصرف الإيراني والإقدام على حرق السفارة السعودية في طهران، ربما يعيد الحسابات في العقل الأمريكي والغربي من رفع العقوبات عن إيران، وإعادة النظر في الاتفاق النووي. ولهذا، ربما أخطأت طهران عندما أججت الوضع بشكل غير مسيطر عليه، الأمر الذي تسبب بحرق السفارة السعودية؛ لأن ذلك يعد خرقا للعهود والمواثيق الدولية، ولاسيما أن هذا التصرف لم يكن الأول من نوعه من قبل طهران. وبهذا، كانت هناك تداعيات وتضامن طائفي تمثل بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران من الجانب البحريني والسوداني الجيبوتي والاماراتي والكويتي وربما نشهد دخول أطراف أخرى على خط المواجهة والتصعيد، هذا فضلاً عن التصعيد الشعبي الطائفي. زيادة على ذلك، استطاعت السعودية جر إيران لهذه المواجهة، وبذلك فهي تحاول أن تعقد حل الأزمة في سورية، ولاسيما بعد رفع الولايات المتحدة والغرب الخطوط الحمراء عن الاسد وبقائه في السلطة ولو مؤقتاً، ولهذا نرى أن جيش الإسلام الذي يمثل اليد السعودية في سورية، رحب بقطع علاقات السعودية مع إيران، وربما هذا العمل من قبل السعودية في الإقبال على اعدام النمر يتم قراءته كرد فعل على مقتل قائد جيش الإسلام ورجل السعودية في سوريا “زهران علوش” التي اتهمت طهران بمقتله.
هذا التصعيد الطائفي ستكون له نتائج وخيمة على الشأن الداخلي لبعض الدول، إذا ما استمر التصعيد الطائفي لهذه الأزمات، ولاسيما في العراق؛ لأن ذلك سيزيد من حالة الانقسام السياسي الطائفي الحكومي والشعبي، وقد يكون الغرض من ورائه إرجاع العراق إلى مربع الأعوام 2006 و2007 وما سبقها من قتل وتهجير وحرب أهلية، ولهذا تزامن مع هذه التأجيج الطائفي الإقليمي تفجير بعض الجوامع وقتل أئمتها لدواعٍ طائفية، ومطالبة البعض بقطع العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، مما يزيد الوضع تأزما ويؤجج المشاعر الطائفية، وهو ما تبحث عنه السعودية من خلال هذا التصعيد، بأن ترمي الكرة في ملعب الحكومة العراقية، وتظهرها بمظهر الحكومة العاجزة، وغير القادرة على ضبط حركة الاحتجاجات الداخلية شأنها شأن الحكومة الإيرانية، وعليه فهي غير جادة في مد جسور التواصل، ومن ثم عدم إلقاء اللوم على الجانب السعودي في عدم تطبيع العلاقات مع الجانب العراقي. إذاً، هي لعبة بين اللاعبين الإقليميين لجر المنطقة إلى تحالفات سياسية بوتر طائفي، وزعزعة الاستقرار الداخلي لبعض الدول كالعراق؛ لأن كلا الطرفين السعودي والإيراني يعتاشان على تصعيد الأزمات الداخلية لدول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبذلك ستوفر لهم تلك الدول بيئة ومساحات واسعة للمناورات السياسية فيما بينهم، ومن ثم يحاولون الإبقاء على حالة عدم الاستقرار لتلك الدول، والإبقاء على حالة الانقسام السياسي الداخلي وتصعيد التوترات الطائفية، ولهذا تعد قضية إعدام الشيخ النمر المحرك الأساس لهذا التصعيد، ولاسيما بعد الفشل السعودي في تصعيد التوتر الطائفي ضد إيران من خلال حادثة منى وجرها إلى مواجهة إقليمية طائفية.
وعليه، يمكن أن يتخذ العراق حكومة وشعباً موقفا تضامنيا سلميا مع قضية الإعدام دون المساس بأمن الدولة العراقية أو وضعها في موقف حرج أمام المجتمع الدولي والعربي؛ لأن التعاطف الطائفي ومهاجمة السفارات ستترتب عليه تداعيات على الحكومة العراقية في المدى البعيد، وقد تعدها بعض الدول تدخلا مباشرا في القضايا الداخلية، وحينها يعامل العراق من قبل الدول العربية بالمثل في المستقبل القريب أم البعيد. فالحكومة العراقية وصانع القرار العراقي والقوى السياسية والقيادات الدينية، مسؤولة مسؤولية مباشرة في التخفيف من حدة التصعيد الداخلي والإقليمي؛ لأن عكس ذلك يوفر فرصة ذهبية لكلا الطرفين “السعودي والإيراني” لسد الفراغات الداخلية، وتصعيد المناورة السياسية بالوكالة، وتصدير أزماتهم الداخلية إلى دول الجوار، والإبقاء على الحالة العراقية واليمنية والسورية ساحة مناورة إقليمية. إذاً، هو صراع سياسي من أجل النفوذ الإقليمي في المنطقة يوظف الطائفية، لاستدراج مكونات الدول الداخلية وكسب تعاطفها مع هذا الطرف أو ذاك، وليس صراعا شيعيا سنيا. وعليه، فإن هذا التصعيد والتوظيف الطائفي سيلقي بظلاله على الحل السياسي في سوريا، وعلى المواجهة ضد تنظيم “داعش”، وسيزيد من حالات التطرف والإرهاب، ويعقد الوضع العراقي الداخلي والأزمة اليمنية، ولذلك لابد أن يغلب العقل والحنكة السياسية على العاطفة. صحيح أن السعودية استفزت الطائفة الشيعية بهذا التصرف، إلا أن ذلك لا يعني مواجهة الفعل طائفياً أو بالتصعيد السياسي؛ لأن هناك أهدافا أرادت السعودية الوصول إليها من خلال إعدام الشيخ النمر، وعلى العقلاء وصناع القرار أن يدركوا تلك الأهداف. ولهذا، يتسائل الكثيرون ما هي مصلحة السعودية من هذا الفعل؟ وما الذي يمكن أن تجنيه من ذلك؟ ولماذا صعدت إيران كل هذا التصعيد الداخلي والإقليمي؟ هل هو بقصد تعقيد الأزمات الإقليمية بعد الانفراج الجزئي أم نفاد الصبر الإيراني من التصرفات السعودية المتكررة، أم غير ذلك؟