ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
شباط/فبراير 2016
الخطر الحقيقي في هذا التوجه الجديد من قبل المرجعية الدينية اتجاه الحكومة العراقية يكمن في فهم هذه الاستراتيجية أو هذا التوجه,وقد تُفهم هذه الاستراتيجية وتُفسر بطرق مختلفة، وهذا الفهم ستترتب عليه تداعيات خطيرة.
يلتمس المراقب منا لخطب الجمعة ورؤى المرجعية فيها، خصوصا للشهرين الماضيين، ثمة تغير في مساراتها. وقد صَّعدت المرجعية الدينية خطابها السياسي ضد الحكومة والقوى السياسية وصانع القرار العراقي بشكل تدريجي بعد تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية في الصيف الماضي ضد الحكومة العراقية ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ بسبب التعثر الدائم والتلكؤ المستمر والمتعمد في تنفيذ المشاريع وعدم النهوض بالبنية التحتية واستشراء الفساد والمفسدين في كل مؤسسات الدولة العراقية, الذي سبب بدوره الانهيار الأمني وتصاعد خطر التنظيمات الإرهابية, واشتداد مخاطر الأزمة المالية الحالية, التي تنذر بتهديد خطير لمستقبل الدولة العراقية.وقد طالبت المرجعية الدينية في (7 آب 2015) رئيس الوزراء حيدر العبادي بأن يكون أكثر “جرأة وشجاعة” في خطواته الإصلاحية، داعية إياه إلى الضرب بيد من حديد على من يعبث بأموال الشعب، كما دعته إلى عدم التردد في إزاحة المسؤول غير المناسب حتى وإن كان مدعوما, ومطالبته أيضاً بالكشف عن المعرقلين لمسيرة الإصلاح.
المرجعية الدينية طوال المرحلة الماضية كانت تسدّد وتصوّب وتؤشّر الأخطاء, وتطرح رؤيتها السياسية بشأن العملية السياسية بين مؤيدة ومنتقدة ومشجعة ومستنكرة, إلا أنه في المدة الأخيرة التي تزامنت مع موجة الاحتجاجات الشعبية, كانت المرجعية فيها ممتعضة جداً من كيفية إدارة الدولة وتصرفات القوى السياسية والإصلاحات الشكلية, ودعت في مرات عدة إلى الإصلاح السياسي والقضائي وإبعاد المؤسسة العسكرية من كل أنواع التحزب والتسييس, حتى بدأ خطابها السياسي الموجّه إلى الحكومة والأحزاب السياسية يتصاعد بنبرة قوية, ولاسيما في ظل تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية للبلد، والتي سببت شللا لكل مؤسسات الدولة العراقية, إذ وجهت المرجعية الحديث إلى السلطات الثلاث والجهات المسؤولة, بأن “يتخذوا خطوات جادة في مسيرة الإصلاح الحقيقي وتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد وملاحقة كبار الفاسدين والمفسدين”. وقد أبدت المرجعية تذمرها من هذه السلطات والجهات المسؤولة؛ لعدم تحقيقها لأي شيء واضح وملموس, ثم أكدت في وقت لاحق من على منبر الجمعة عدم وجود ضرورة في تكرار ما قيل سابقا بخصوص مطالبها في حل أزمات البلد، مكتفية بالإشارة إلى أن الأزمة المالية للبلد “بلغت حداً خطيراً”, وأن أصواتها قد “بُحّت” بلا جدوى, “من تكرار دعوة الأطراف المعنية من مختلف المكونات إلى رعاية السِّلم الأهلي والتعايش السلمي بين أبناء هذا الوطن وحصر السلاح بيد الدولة، بعد أن دعتهم إلى أن يَعوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم”, فضلاً عن المؤشرات التي شخصتها المرجعية الدينية في العملية السياسية ودعت إلى إصلاحها.
هذا الامتعاض في خطاب المرجعية ظهر بشكل واضح خلال الخطب الأخيرة المعنية بالشأن السياسي العراقي, وقد قالت في خطبة الجمعة ما قبل الأخيرة (بتاريخ:29/1/2016) “بأن صوتها قد بُحّ، وأنها لم تجد لوصاياها صدى وتطبيقاً فعلياً من الحكومة”، ولاسيما ما يتعلق بمسألة الإصلاحات. وقد وصل هذا الامتعاض إلى حد أنه خلال الخطبة الأخيرة التي ألقاها السيد أحمد الصافي (معتمد المرجعية في مدينة كربلاء المقدسة) قال ما نصه: “كان دأبنا في كل جمعة أن نقرأ في الخطبة الثانية نصاً مكتوباً يمثل رؤى وأنظار المرجعية العليا في الشأن العراقي, ولكن قد تقرر ألّا يكون ذلك أسبوعياً في الوقت الحاضر بل حسبما يستجد من الأمر وتقتضيه المناسبات”؛ لتستبدل الخطبة السياسية بدعاء للمقاتلين في ساحات المعارك, وهذا بحد ذاته هو انتقاد للحكومة العراقية؛ لأنها لم توظف تضحيات القوات الأمنية والحشد الشعبي وأبناء العشائر والحرب ضد تنظيم “داعش” في عملية بناء الدولة وتقويم العملية السياسية ومعالجة مسببات ذلك. ولهذا، فإن عزوف المرجعية الدينية عن توجيه الإرشاد السياسي في خطبها, يعد سابقة خطيرة على العقلاء, ولاسيما الحكومة العراقية وصانع القرار, وعليهم أن يدركوا تداعياتها المستقبلية على العملية السياسية الحالية والطبقة السياسية. ولربما يعد هذا التحول في خطاب المرجعية بمثابة سحب الدعم والتفويض من قبلها للحكومة العراقية بعد أن يأست من جديتها في القيام بإصلاحات حقيقية غير شكلية, ولاسيما بعد الدعم والتشجيع الذي تلقته من قبلها, ودعوتها للقيام بإصلاحات بعد موجة الاحتجاجات الشعبية, التي ما تزال قائمة لحد الآن.
الخطر الحقيقي في هذا التوجه الجديد من قبل المرجعية الدينية اتجاه الحكومة العراقية يكمن في فهم هذه الاستراتيجية أو هذا التوجه, من قبل الشعب أولاً ومن ثم الحكومة الثانية. وقد تفهم هذه الاستراتيجية وتفسر بطرق مختلفة, وهذا الفهم ستترتب عليه تداعيات خطيرة, وأخطر تلك التداعيات هو أن يصاحب توجه المرجعية الدينية سخط الشعب, المستاء أصلاً من الحكومة العراقية, ولاسيما مع استمرار التظاهرات لأكثر من نصف عام دون أي جدوى تذكر أو إصلاح حقيقي في بنية الدولة العراقية؛ لأن هذا التوجه قد يفهم من قبل المتظاهرين بشكل خاص والشعب بشكل عام على أن المرجعية الدينية قد رفعت يدها عن الحكومة, وقد يكون هذا التحول, تحولا في استراتيجية المرجعية الدينية اتجاه الحكومة, وتكون المرحلة المقبلة مختلفة عن سابقتها ولها متطلباتها, فالمرجعية العليا قد وصلت إلى مرحلة قررت فيها طي صفحة النصائح واقتراحات الحلول للحكومة العراقية وكل القوى السياسية, وعليه قد يكون هذا التوجه بمثابة استراتيجية جديدة من قبلها موجهة إلى الحكومة, فكيف يمكن للحكومة العراقية والقوى السياسية التعامل معها؟, ولاسيما في ظل السخط الشعبي المتصاعد والتظاهرات الأسبوعية, فضلاً عن أزمة البلد الاقتصادية والأمنية, وسط غياب تام للحلول الجذرية وعدم معالجة الأسباب الحقيقية التي قادت إلى شلل منظومة الدولة العراقية السياسية والاقتصادية والأمنية والمؤسساتية.
هذا التوجه من قبل المرجعية الدينية هو بمثابة جرس إنذار أخير موجه للحكومة العراقية ولكل القوى السياسية المعنية دون استثناء, ولايمكن لبعض القوى السياسة أن تستخدم هذا الخطاب كسلاح فيما بينها لإلقاء اللوم على الحكومة أو على الكتل الأخرى والنأي بنفسها عن المسؤولية, فالكل مسؤول والمسؤولية مشتركة, وخطاب المرجعية لا يستهدف كتلة بعينها أو شريحة وفئة بذاتها. إن استراتيجية المرجعية هذه تثير الكثير من الأسئلة المبهمة, وعلى صانع القرار العراقي إدراكها, فقد تكون المرجعية بهذا التوجه قد أعطت مساحة واسعة للحراك الشعبي أن يتوجه للمطالبة والضغط على الحكومة؟، أو إنها رسالة أخيرة من قبلها للحكومة ربما قد يترتب عليها تحولات استراتيجية جديدة في نهج المرجعية الدينية اتجاه العملية السياسية؟. وعليه، كيف يمكن للحكومة وصانع القرار العراقي أن يفهم هذا التحول ويتعاطى معه في المرحلة القادمة؟, ولاسيما مع تصاعد سخط الشعب “المقبل على فصل الصيف”، الذي شهد الشرارة الأولى للتظاهرات الشعبية المطالبة بالإصلاحات.
كل تلك الأسئلة والتحولات هي بمثابة تحديات جديدة لصانع القرار العراقي, تتطلب أن يتعاطى معها بشكل مختلف, من خلال محاسبة حقيقية للمفسدين وكشف الفساد ومعالجته بشكل جذري, وإصلاح شامل لبنية الدولة العراقية برمتها, يبدأ من عملية إدارة الدولة وسد الفجوة بين السلطة والشعب, ومعالجة مسببات “داعش”, وإصلاح القضاء, وتحييد المؤسسة العسكرية والأمنية, وصولا إلى الخروج من ثقافة التوافقات الحزبية والمحاصصة الطائفية؛ لأن مؤسسات الدولة العراقية جميعها هي بحاجة إلى إصلاح حقيقي, ولا سبيل غير الإصلاح كخيار استراتيجي وحيد أمام الحكومة للوصول بالعراق إلى بر الأمان.