د. حسين أحمد السرحان
مركز الدراسات الاستراتيجية
شباط/2016
إن الوضع الذي تمر به الدولة العراقية في المرحلة الراهنة على قدر كبير من الخطورة في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الضعف الكبير في قدرة مؤسساتها على إنفاذ القانون. وهذه الحالة لم تشهدها الدولة العراقية منذ تأسيسها، مما يجعل الإصلاح حتميا، على أن يكون مسبوقا برؤية واضحة وهدف سامِ مضمونهما بناء الدولة العراقية الحديثة، وأن تُترجم تلك الرؤية بإرادة جماعية للإصلاح وفق الأطر القانونية الصحيحة. |
طوال شهور “منذ 31 / تموز / 2015” والحديث كثير حول الإصلاح في العراق وضرورته بعد الاحتجاجات الشعبية في المحافظات الوسطى والجنوبية والتي اكتسبت تأييد المرجعية الدينية في النجف الأشرف، والتي طالما عدّتها الكتل السياسية -ولاسيما في التحالف الوطني – المسدد والضابط للعملية السياسية في العراق بعد عام 2003. وقد استمرت المرجعية، وعبر خطب الجمعة، بالتأكيد على أهمية الإصلاح وتأكيد الهوية الوطنية للدولة العراقية وتجاوز الأزمة المركبة والمتشابكة أضلاعها (السياسية – الأمنية – الاقتصادية – الاجتماعية) ومحاسبة الفاسدين والاستعانة بذوي الخبرة والنزاهة والاختصاص لتسيير مؤسسات الدولة وإعطاء الجانب الاقتصادي الأهمية اللازمة في وضع سياسات اقتصادية تنموية تعوض الانخفاض الكبير في أسعار النفط عبر تنمية القطاعات الصناعية والزراعية لتزيد من زخم المعارك ضد التنظيمات الإرهابية في شمال وغرب البلاد، إلا أن تلك الدعوات لم تلقي آذان صاغية إلى أن وصلنا إلى مرحلة تعليق المرجعية للجانب السياسي في خطب الجمعة واقتصارها على المستجدات المهمة.
على الرغم من تباين مواقف الكتل السياسية المعلنة اتجاه هذا الأمر، إلا أن المواقف غير المعلنة عبرت عن خشية كبيرة لدى تلك الكتل من موقف المرجعية في المستقبل المنظور، وفي الوقت ذاته أيقظت أمرا مهما لدى صانع القرار والمسؤول الأول عن صنع وتنفيذ السياسات العامة دستوريا في الدولة العراقية السيد رئيس مجلس الوزراء إلى ضرورة التحرك الجدي والموضوعي باتجاه الاصلاح الحقيقي. كما أنه استلم رسالة ضمنية من مواقف المرجعية المتتالية واستمرار الاحتجاجات الشعبية مفادها أن ما قام به وسُميت وقتها “إصلاحات”، لم تعدو كونها إجراءات فاقدة للرؤية الواضحة والشاملة للإصلاح، وهدفها امتصاص غضب الجمهور، لذا لم تحقق على أرض الواقع نتائج عملية فعلية، كما أنها لم تكن إجراءات قانونية، لذلك فتحت باب الانتقاد والاعتراض من قبل من شملتهم تلك الإجراءات.
كل ذلك حتم على السيد رئيس مجلس الوزراء دعوة الكتل السياسية إلى مساندته في القيام بإصلاحات حقيقية تشمل السلطة التنفيذية بجانبها الحكومي بعد تصريحاته وأعضاء مجلس الوزراء المستمرة حول خطورة المرحلة التي يمر بها العراق سياسيا وأمنيا وفزع شبح أزمة السيولة المالية والتي هي جزء من نتاجات سوء الإدارة المالية والفساد والأزمة الهيكلية للاقتصاد العراقي. وهنا تباينت مواقف الكتل السياسية من تلك الدعوة، نتج عنها تضاد الرؤى وتصارع الإرادات الحزبية حول الإصلاح.
الرؤية الواضحة لبناء الدولة العراقية
لست هنا بصدد استعراض مواقف الكتل السياسية من “أحزاب” وغيرها من تلك الدعوة، فهي معروفة للجميع. ولكن من خلال قراءة تحليلية موضوعية حيادية صريحة لتلك المواقف يتجلى أمر هام في غاية الخطورة ألا وهو غياب رؤية واضحة جامعة لدى تلك الكتل حول بناء الدولة العراقية. وعلى الرغم من أن تلك المواقف انطوت على حتمية الإصلاح وضرورة تجاوز الأزمة الراهنة التي تمر بها البلاد، إلا أن الجزئيات والتفصيلات تدلل على التصادم والتضاد المبطن بين رؤى الكتل السياسية حول الإصلاح، ومحدودية التركيز على مصير المصالح والمكاسب الشخصية والحزبية والفئوية التي تحققت خلال المرحلة السابقة، ناهيك عن الالتفاف على أي إجراء يمكن أن يعرض تلك المكاسب للخطر.
السؤال هنا، هل تدرك تماماً تلك الكتل طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد والأزمة المتعددة الأبعاد (أمنيا، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً،…) ولاسيما وأن العراق لم يشهد أزمة منذ تأسيس الدولة الحديثة، وأين مواقف تلك الكتل من الدستور الذي كتبته وضمنته طبيعة الدولة العراقية كدولة اتحادية واحدة مستقلة، كفلسفة حكم وكنظام سياسي؟.
وعليه، تتطلب المرحلة الحالية اتفاق الرؤى وانصهار المصالح حول مصلحة عليا وهدف أهم يتمثل بالعمل الجماعي للمحافظة على الدولة العراقية وإبعاد شبح الانهيار والفوضى، وأن يترجم ذلك بالخروج من دائرة الشخصنة والحزبية والطائفية.
الإرادة الجمعية والإطار القانوني
لعل المتتبع لدعوة السيد العبادي يقرأ أن الدعوة كان هدفها استنهاض الرأي العام وحقنه بجرعة إصلاحات تغذي فيه الحماس لمواصلة المطالبة بالإصلاحات من أجل الضغط على الكتل السياسية لقبول دعوته للتغيير الوزاري وبشكل مواز لجهوده في رمي الكرة في ملعبها. فالدعوة ربما تعبر عن إرادة السيد العبادي أو إرادة أعضاء مجلس الوزراء بالإصلاح.
ومع أن مواقف كتل التيار الصدري والمواطن واتحاد القوى والتحالف المدني إيجابية حسب البيانات الصحفية من الإصلاح، إلا أنها تعبر عن إرادات منفردة، ووصل الحال ببعض منها إلى التهديد بالانسحاب من العملية السياسية إذا لم يُنفذ برنامجهم الإصلاحي كما في موقف كتلة التيار الصدري. لذا لابد من بلورة إرادة جماعية بالإصلاح قبل الإعلان عنه لتجنب تضارب الرؤى وتضاد الإرادات عبر مراحل أهمها:
الأولى:قبل تغيير الأشخاص لابد من العمل على إعادة مراجعة منظومة عمل مؤسسات الدولة العراقية وتشخيص مواطن الخلل والتعارض من خلال فحص التشريعات النافذةفي مختلف القطاعاتووضع خطة الإصلاح على ضوء هذه المراجعة.
الثانية: إعداد خطة مناسبة للإصلاح الشامل والجذري على المستوى السياسي والإداري والاقتصادي وفق أطر قانونية لتتناسب مع هدف بناء دولة المؤسسات، على أن يراعى فيها معيار التكامل النظمي القائم على تناسق السياسات وتكاملها بغض النظر عن تغيير الأشخاص.
الثالثة: إيضاح حقيقة ما تمر به الدولة العراقية في الوقت الحاضر وبموضوعية وصراحة تامة لباقي الشركاء في العملية السياسية، وتكون البداية مع رؤساء السلطة التشريعية والجمهورية ورؤساء الكتل الممثلة في البرلمان لبناء إرادة صلبة تهدف إلى إنقاذ البلاد مما هي عليه.
الرابعة: إعداد خارطة تشريعات مناسبة تتطابق وخطة الإصلاحات المعدة سلفاً، ومطالبة مجلس النواب بسن تلك التشريعات حسب المدد اللازمة. وعلينا الاستفادة من التجربة في ما سمي بـ “حزم الإصلاح” السابقة والتي صدرت بأوامر ديوانية. فمن غير المنطقي أن يتم إلغاء قانون نواب رئيس الجمهورية رقم (1) لعام 2011 [1] – والصادر تنفيذا للبند (ثانيا)، المادة (69) من دستور 2005 النافذ – بأمر ديواني، فالقانون لا يُلغى إلا بقانون.
الخامسة: التوجه إلى مجلس النواب والكشف بكل شفافية عن الخطوات المقبلة للإصلاح وخارطة التشريعات ومطالبته بتفويض بموجب قانون يتضمن المدة اللازمة والصلاحيات المطلوبة. فالتفويض لايُمنح – كما حصل سابقاً – برفع الأيادي داخل البرلمان والتصريح لوكالات الإعلام وكأن الهدف تحميل مجلس الوزراء المسؤولية أمام الشعب والناخبين. وأن يتعهد مجلس النواب بالعمل وفق الخطة بالمشاركة مع رئيس مجلس الوزراء وسحب الثقة عن أعضاء مجلس الوزراء الذين سيشملهم التغيير ومنح الثقة للشخصيات المختارة وفق معايير بعيدة عن الطائفية وتعتمد على التخصص والنزاهة والخبرة العملية.
[1]جريدة الوقائع العراقية، العدد 4174 الصادر بتاريخ: 24/1/2011 .