أ.م. د حيدر حسين آل طعمة
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
شباط / فبراير 2016
ناقش تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالعراق والصادر نهاية العام الماضي أبرز العواقب الناجمة عن الصدمة المزدوجة التي تواجه العراق. فقد خلف الهبوط الحاد لأسعار النفط والحرب مع تنظيم “داعش” جملة تحديات طالت الاقتصاد والموازنة منذ أواخر العام 2014 ولغاية الآن. كما استعرض التقرير أبرز ملامح الأزمة المالية والاقتصادية في البلد معرجاً على الجهود الحكومية المبذولة في هذا السياق. وقد تناول الجزء الأول من المقال رصد صندوق النقد الدولي لمسار الوضع المالي في البلد وسبل إصلاح المالية العامة. فيما كرّس هذا الجزء لتحليل رؤية صندوق النقد الدولي لاتجاه السياسة النقدية وأبرز التحديات المحدقة بالنشاط المصرفي في العراق.
إصلاح السياسة النقدية
1- يوفر استقرار سعر الصرف ركيزة اسمية رئيسة للاقتصاد في ظل بيئة تكتنفها أجواء عدم اليقين، مما يحتم على السلطات الحكومية الحفاظ على نظام ربط سعر الصرف بالدولار على الرغم من تدهور المركز الخارجي للبلد. وسعيا لتهدئة المخاوف المتعلقة بالتدفقات النقدية غير القانونية الخارجة من البلاد، قام البنك المركزي العراقي بتخفيض كميات المبيعات من العملات النقدية، وفرض في أوائل العام 2015 شرط الإيداع المسبق بمدة 15 يوما لمعاملات النقد الأجنبي. وفضلا على ذلك، فرضت الحكومة رسما جمركيا مسبقا قدره 5% وضريبة دخل تقديرية نسبتها 3% كلاهما يُسدد عند طلب النقد الأجنبي لتمويل الواردات. ومع ذلك، سارعت السلطات في شهر حزيران / يونيو الماضي إلى إلغاء هذه الإجراءات؛ نظرا لارتفاع الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية بشكل كبير. وقد تقلص الفارق سريعا إلى حوالي 6% بنهاية الشهر ذاته.
2- كثف البنك المركزي العراقي جهوده الرامية إلى تعزيز إدارة الاحتياطيات الدولية التي ما تزال – رغم انخفاضها مؤخرا – تتجاوز المؤشرات التقليدية لكفاية الاحتياطيات. كذلك قام البنك المركزي، بدعم من المساعدة الفنية المقدمة من صندوق النقد الدولي، بتحديث المبادئ التوجيهية لعام 2008 المعنية بإدارة الاحتياطيات لجعلها تتماشى مع قانون البنك المركزي العراقي والوفاء كميا بجميع الأهداف الاستراتيجية الرئيسة لإدارة الاحتياطيات، بما في ذلك تخصيص الأصول الاستراتيجية، وحدود مخاطر الائتمان، ومتطلبات السيولة. ويعمل البنك المركزي العراقي على تحقيق هدف طويل الأجل لنقل الإدارة النشطة لاحتياطاته الدولية إلى بغداد.
3- بسبب تأثر القطاع المالي سلبا بالصدمات التي تصيب الاقتصاد العراقي، تتوقع السلطات زيادة القروض المتعثرة نتيجة تراجع الثقة بين دوائر الأعمال، وانخفاض نشاط القطاع الخاص، والدمار المادي وعمليات السطو على بعض المؤسسات المصرفية. لذا، تكثف السلطات من أعمال المراقبة والإشراف على القطاع المصرفي وتتعاون مع صندوق النقد الدولي لتحسين مؤشرات السلامة المالية لديها حتى تضاهي المعايير المقبولة دوليا.
4- قام البنك المركزي العراقي في الآونة الأخيرة بتجديد عقده مع شركة (إرنست آند يونغ)، والتي تعمل على تحسين ممارسات الرقابة المكتبية والميدانية وتشترك في تدريب المراقبين. كذلك قام البنك المركزي العراقي بتعيين 35 موظفا جديدا في قسم الرقابة المصرفية، الذي يكثف أيضا مراقبته على مصرفَي الرشيد والرافدين المملوكين للدولة والمؤثرين على النظام المالي.
5- تكثف السلطات الحكومية جهودها لتطوير القطاع المصرفي، وهو عنصر أساسي في استراتيجيتها طويلة الأجل لتقوية الاقتصاد غير النفطي وتعزيز نشاط القطاع الخاص. ولتحقيق تكافؤ الفرص بين المصارف الخاصة والمصارف المملوكة للدولة، سمحت السلطات للهيئات العامة بقبول خطابات الضمان والشيكات المعتمدة الصادرة عن المصارف الخاصة. ويمكن لوزارة المالية فتح خطابات اعتماد لدى المصارف الخاصة بما يصل إلى 10 مليون دولار بدلا من 6 مليون دولار سابقا. وتم رفع الحد المسموح به للمصارف الخاصة لتحصيل رسوم الدولة. وتسمح الحكومة الآن للمؤسسات المملوكة للدولة بفتح الحسابات، والاحتفاظ بالودائع، ودفع الرواتب عن طريق المصارف الخاصة. ويُؤمّل أن تؤدي هذه المبادرات إلى توفير فرص جديدة للمصارف الخاصة لتوفير الخدمات والتنافس مع القطاع المصرفي المملوك للدولة. ويعمل البنك المركزي العراقي حاليا، بدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، على وضع الصيغة النهائية للقواعد التنظيمية لاستحداث مكتب معلومات الائتمان وينظر في إنشاء نظام للتأمين على الودائع.
6- ما يزال البنك المركزي العراقي لديه ضمانات وقائية مهمة، بما في ذلك عمليات التدقيق الخارجي السنوية التي تجريها شركات التدقيق ذات السمعة الطيبة إلى جانب نشر كشوفاته المالية المدققة. وبما أن السلطات تطلب الاستفادة من موارد الصندوق بموجب “أداة التمويل السريع”، فإنها تلتزم باستكمال تحديث تقييم الضمانات الوقائية لدى البنك المركزي العراقي.
صندوق النقد الدولي طوق تبعية أم طوق نجاة
يشهد العراق مرحلة تاريخية بالغة الصعوبة، حيث تظافرت التحديات السياسية والأمنية مع الاقتصادية لتشكل طوقاً يعيق فرص العراق في التقدم والرفاه، وتزيد من مخاطر انزلاق البلد في ركود اقتصادي عميق. في هذا السياق، سعت الحكومة العراقية مؤخرا إلى الاستعانة بجهود صندوق النقد الدولي في توفير التمويل الخارجي، فضلا على تقديم النصح والمشورة بهدف الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ورغم المحاذير من خطورة التعامل مع الصندوق وما يشكله ذلك من فقدان للاستقلالية الاقتصادية، فإن معظم السياسات المقترحة (حالياً) تتسق والرؤى الوطنية حول الإصلاح الاقتصادي. من جانب آخر، أثبت التجارب السابقة، وبشكل قاطع، ضعف وفساد الحكومات العراقية في إدارة اقتصاد البلد دون رقابة ومحاسبة، خصوصا بعد ابتلاع معظم المؤسسات الاقتصادية والمالية والنقدية من لدن أحزاب السلطة، وهيمنة مافيات السياسة على موارد البلد وثرواته. وبذلك، تعد جهود الحكومة العراقية في الاستعانة بمؤسسات دولية للمراقبة وإبداء الرأي والمشورة خطوة طويلة باتجاه الإصلاح الاقتصادي والمالي في الوقت الراهن، وتؤسس لتنمية اقتصادية مستدامة، مع توخي الدقة والحذر في الحفاظ على المبادئ الوطنية وحرية القرار الاقتصادي ومراعاة الوضع الاجتماعي.
إذ يحتم ضعف الدولة والقانون على العراق التعامل بحذر مع المؤسسات الاقتصادية الدولية وما تقدمه من وصفات جاهزة نظير القروض والتسهيلات المالية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى جملة من التوصيات أهمها:
1- تثمين دور الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية ودعم سياسات البنك المركزي ووزارة المالية في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي للبلد ينبغي أن لا يكون مقدمة لحزمة جاهزة من السياسات المصدرة إلى العراق (كرفع الدعم وخفض الرواتب وتسريح العمال…الخ)، والمشروطة لاستمرار التمويل وتقديم المشورة.
2- يتحتم على الحكومة العراقية إذا ما كانت جادة في الحفاظ على سيادة البلد الاقتصادية والمالية، إعداد كادر وطني رفيع من الخبراء والمختصين وعلى درجة عالية من الوطنية والخبرة في مجال الاقتصاد العراقي لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من جولات التفاوض مع صندوق النقد الدولي وتكييف السياسات المقترحة مع واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي.
3- اعتماد مبدأ الشفافية والإفصاح عن كافة الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة العراقية وصندوق النقد الدولي من أجل تمحيص ومناقشة كافة التقارير والدراسات المتفق عليها بين الطرفين، وإبداء الرأي والمشورة من لدن الباحثين والمختصين في الشأن الاقتصادي العراقي.
4- الاستعانة بصندوق النقد الدولي في مجال تدريب وتأهيل الكوادر الاقتصادية والمالية، واعتماد أحدث الطرق في إعداد الموازنات العامة والتقارير والكشوفات المالية للحد من منافذ الهدر والفساد المالي في البلد، خصوصاً وأن لصندوق النقد الدولي باعاً طويلاً في هذا المجال.
5- التعاون مع صندوق النقد الدولي من أجل تكوين قاعدة بيانات إحصائية تستوعب كافة القطاعات الاقتصادية والمالية والنقدية، وتكون أداة بيد الباحثين من أجل مناقشة المشاكل الاقتصادية وإيجاد الحلول الملائمة والحد من التباين الحاصل في دقة وموثوقية البيانات في الوقت الراهن.