ويليام مكانتس: زميل في مركز سياسات الشرق الأوسط ومدير مشروع العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي وأستاذ مساعد في جامعة جونز هوبكنز. شغل عدداً من المناصب الحكومية، وعمل في عددٍ من مراكز الفكر المختصة بالإسلام والشرق الأوسط والإرهاب
معهد بروكينغز
ترجمة: هبة عباس
مراجعة وعرض: م. م. ميثاق مناحي العيساوي
١٧/١١/٢٠١٥
ظهر تنظيم “داعش” على مدى الأسبوعين الماضيين على أنه أحد أكثر التنظيمات الإرهابية عدوانية في العالم، إذ قام أعضاؤه بتنفيذ هجمات ضد اثنين من الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (فرنسا وروسيا)، و إن ما حدث من مذابح في باريس يوم الجمعة يعد من أسوأ الهجمات التي تعرضت لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما يعد إسقاط الطائرة الروسية بعد إقلاعها من مدينة شرم الشيخ في ١٣ تشرين الأول احد أسوأ الهجمات التي تعرض لها المدنيين الروس منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد نفذ التنظيم هجمات متزامنة في بيروت يوم ١٢ تشرين الثاني أسفرت عن مقتل العشرات من المدنيين في المنطقة التي يسيطر عليها حزب الله.
وبهذا تم اعتبار تنظيم “داعش” مؤخرا “دولة حقيقية”، ناهيك عن قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبالرجوع إلى تاريخ التنظيم، كان في البدء عبارة عن جماعة إرهابية أو تمرد، لكن مع تزايد قوته أصبح أشبه بالدولة. ولم ينشر العنف فقط في المناطق التي يسيطر عليها، بل قام بجبي الضرائب من السكان وتقديم الخدمات لهم. ومهما كانت التسمية التي أطلقت عليه مثل “شبه دولة” وغيرها، فقد أصبح أكبر من مجرد مجموعة إرهابية، و ينفق الملايين من الدولارات لتمويل عملياته العسكرية في الداخل والخارج.
وعلى الرغم من أنه يحمل فكر تنظيم القاعدة الذي يدعو إلى مهاجمة الغرب، أنفق تنظيم “داعش” معظم أمواله على بناء الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تنفيذ هجمات بين الحين والآخر في دول مجاورة مثل تركيا والمملكة العربية السعودية. وكان بإمكان المجتمع الدولي أن يستريح قليلاً من تركيز التنظيم على الشأن المحلي، فمن الأفضل أن ينفق التنظيم أمواله على إنشاء بنية تحتية بدلاً من تمويل عمليات إرهابية في الخارج.
لكن إذا أضاف التنظيم العمليات الخارجية إلى مصاريفه الحكومية، كما تشير الهجمات الأخيرة، فستكون النتائج مخيفة ومقلقة، إذ لديه تمويل دولة، وطموح قوة امبريالية، وقائمة من الأعداء تشبه قائمة أعضاء الأمم المتحدة، فهو يشبه لتنظيم القاعدة لكنه أقل ضميراً وأكثر عدةً وعدداً.
وتتراوح ميزانيته بين مليار إلى ملياري دولار سنويا، وهذا لا يجعلها مساوية للميزانية العسكرية لأمريكا، لكنه أغنى من بعض الدول مثل بورما وموريتانيا، كما إن أرباحه تفوق أرباح تنظيم “القاعدة” الذي استطاع خلق الاضطراب بشكل أقل من “داعش”.
عادة ما تدعم الدول الراعية للإرهاب الوكلاء؛ لأنها لا تريد إعلان مسؤوليتها، خشية الرد القوي للضحايا المستهدفين، كما في حادثة لوكربي التي أثبتت التقارير مسؤولية القذافي عنها.
لكن ما يحدث هنا هو العكس، إذ يعلن التنظيم بوقاحة مسؤوليته عن الهجمات، حتى في حال عدم تأكد المخابرات من قيام التنظيم بها، وهذه رسالة يحاول “داعش” إيصالها إلى أعدائه ويثبت لهم قدرته على إيقاع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين منهم. وكانت الولايات المتحدة قد فعلت الشيء نفسه بشكل مروع ضد المدنيين في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، ونجحت في جعل اليابان تستسلم دون شروط. لو كان لدى تنظيم “داعش” طائرات وقنابل، لفعل الشيء نفسه لكن ليس بحوزته سوى القنابل اليدوية.
ومن المقلق أيضا أن لا يكون لتنظيم “داعش” علاقة بالهجمات؛ لأن وجود خلايا مستقلة وشركاء تابعين له قادرين على إحداث هذا الحجم من الدمار، سيكون من الصعب إيقافه؛ لأنهم لا يتلقون أوامر يمكن اعتراضها.
هدف تنظيم “داعش” من هذه الهجمات غير واضح، فإذا كان الحفاظ على الأراضي التي يسيطر عليها، فمن غير الحكمة أن يعادي أقوى أعدائه وخاصة روسيا وحزب الله، اللذين لم يمساه. ربما يعتقد التنظيم أن بإمكانه منع الاعتداء على الأراضي التي يسيطر عليها، أو يأمل بتحقيق انتصارات إعلامية لجذب المزيد من المجندين، أو ربما إيمانا بخطابه حول معركة هرمجدون ومحاولة إشعالها. وكما حدث مع تنظيم” القاعدة” بعد هجمات ١١ سبتمبر، قد لا نعرف أسبابها لسنوات عدة.
ومع ذلك، علينا عدم التسرع في اتهام “داعش” بالتفكير المتهور، إذ فكر قادته طويلا في فائدة العنف وقيمة إخافة الناس العاديين. فخلال العقد الماضي، نفذ التنظيم هجمات مروعة ضد المدنيين في العراق لاستفزاز الحكومة العراقية لكي تقوم برد قوي أو لتخويف السكان لقبول حكمه. وقد امتدت حملته الإرهابية إلى الدول المجاورة للعراق، كما فعلت القاعدة عام ٢٠٠٥، إذ استهدفت حفل زفاف في عمّان رداً على تعاون الحكومة الأردنية مع أمريكا من أجل تحقيق الاستقرار في العراق.
أما بالنسبة لمؤسس تنظيم القاعدة في العراق “أبو مصعب الزرقاوي”, فإن إخافة الأعداء والخصوم هي استراتيجية أكثر فاعلية من محاولة كسبهم. ففي الوقت الذي حاول فيه تنظيم القاعدة كسب قلوب وعقول المسلمين، كانت رغبة الزرقاوي تخويفهم واستقطابهم، وحسب رأيه فإن مهاجمة المدنيين هي الطريقة الأكثر فاعلية لتحقيق ذلك.
وتم تفصيل الفكرة في أحد الأدلة الاستراتيجية لتنظيم “داعش” في كتاب “إدارة التوحش” الذي ألفه شخص مجهول يطلق على نفسه اسم “أبو بكر ناجي” في السنة الأولى من حرب العراق, ويستعرض خطة لإعادة الإمبراطورية العالمية أو الخلافة، وكيفية قتل المدنيين في أراضي الأعداء لمنع حكوماتهم من التدخل في مشاريع بناء الدولة، أو لاستفزازهم للرد بشدة من أجل إنهاكهم. وبحسب قوله، يجب تعليق القيود الإسلامية المفروضة خلال الحرب ليتسنى للجهاديين مواجهة النار بالنار.
وتسلل إلى علمنا الآن عندما كان “أسامة بن لادن” على قيد الحياة تطلع تنظيم “داعش” إلى تنفيذ هجمات خارج العراق، وخاصة في إيران والمملكة العربية السعودية؛ لأنها كانت تعمل ضده في العراق. وكشف الخلاف الذي حدث العام الماضي بين زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري والناطق الرسمي باسم “داعش” عن منع تنظيم القاعدة أتباعه من تنفيذ هجمات في الخارج دون ترخيص منه.
ولم يكن التذمر والاحتجاج على تحدي تنظيم “داعش” لاثنين من أقوى خصومه في الشرق الأوسط فقط ، بل لأنه يوهم نفسه بالخلافة, ويحاول استدراج خصومه ليتمكن من السيطرة في نهاية المطاف.
ففي غضون المدة الممتدة بين عامي ٢٠٠٦-٢٠١٠ لم يكن تنظيم “داعش” دولة بمعنى الكلمة، بل كان جماعة متطرفة، حتى قيام الجيش العراقي والأمريكي بالعمل مع العشائر السنية لإجبارها على العمل سراً، وأصبح التنظيم بعد ذلك عبارة عن منظمة إرهابية تنفذ هجمات على المدنيين في العراق.
استغل تنظيم “داعش” فرصة الحرب الأهلية السورية وانسحاب أمريكا من العراق للظهور بمظهر الدولة. ففي الوقت الذي حاربت فيه المجاميع السنية المتطرفة الأخرى الحكومة المركزيةمن دون أن تستعرض الشكل البديل للسلطة، ركز التنظيم على بناء دولته وسيطر على مناطق العشائر السنية المتضررة في العراق وسوريا.
وكجزء من مشروع بناء الدولة الخاصة به، يحاول تنظيم “داعش” القضاء على منافسيه من خلال اغتيالهم وسجنهم، وقام بتطبيق “الحدود” كوسيلة لإرهاب المدنيين وتخويفهم، ومن يعارضه يعد مرتداً ويلقى عقوبة المرتد.
يحاول “داعش” الآن إرعاب وتخويف أعدائه البعيدين، فكيف يجب أن يكون رد فعلهم؟
السياسات المعتادة للمجتمع الدولي هي التعامل مع الدول الراعية للإرهاب وليس مع الإرهاب نفسه “داعش”؛ لأن الأخير ليس جزءا من نظام دولي يمكن فرض عقوبات عليه وتجميد أمواله وحساباته المصرفية، فالإجراءات التي أثبتت فاعليتها في ليبيا لا تنفع هنا، كما لن يؤثر عليه حظر تصدير الأسلحة، إذ سيحصل عليها من أعدائه أو يقوم بشرائها من السوق السوداء.
في البدء، على أعداء التنظيم المتطرف معرفة هدفهم من هذه المعركة، فالتنظيم كالدول المارقة الأخرى يمكن احتواءه أو تدميره. ولكلا السياستين جانب سلبي، فالاحتواء سوف يبقيه لكن يضعف قدرته على القيام بأعمال خارج حدوده، وبهذا سيصبح الإرهاب وسيلة أكثر جاذبية للدولة المحتواة؛ لأنها تملك خيارات تقليدية أقل. أما التدمير سوف يحل المشكلة، لكن ما حدث في العراق خلال العقد الماضي، ينبئ أن ما سيأتي قد يكون أسوأ بكثير من الماضي.
وقد اختارت الولايات المتحدة وحلفاؤها حلاً وسطا ما بين الاحتواء والتدمير ألا وهو تضييق الخناق على “الدولة الإسلامية”، من خلال العمل مع خليط من الميليشيات المحلية في العراق وسوريا، واسترجاع الأراضي في الأطراف والتوجه نحو المركز في غرب العراق وشرق سوريا. وعلى الرغم من كون التقدم بطيئا، إلا أنه حقق نتائج ملموسة، حيث خسر التنظيم حوالي ربع الأراضي التي سيطر عليها السنة الماضية، كما أنه منح المتصدّين لـ”داعش ” فرصة استيعاب الأراضي المحررة حديثا وإحكام السيطرة عليها.
ويعتقد الكاتب أن الهدف من الهجمات التي حدثت ضد المدنيين، كالتي شهدتها باريس، هي لإجبار الحكومات على تغيير سياساتها بشكل كبير، وهذا يؤدي إما إلى الانسحاب كما فعل رئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان عام ١٩٨٣ عندما تم تفجير البناية التابعة للمارينز، أو القيام برد فعل قوي. لكن قبل الرد على “داعش”، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التفكير في مزايا السياسة الحالية وسلبيات البدائل قبل تغيير المسار.
ربما تكون إحدى إيجابيات الهجمات التي ينفذها تنظيم “داعش” هو تغيير موقف روسيا اتجاهه، فحتى الآن لم تجعل روسيا ضرب التنظيم من أولوياتها، لكنها فضلت ضرب الفصائل التي تشكل تهديدا لنظام بشار الأسد. فإذا أصبحت روسيا أكثر جدية في محاربة التنظيم المتطرف، وأوجدت طريقا لتسريع خروج الأسد، سيكون التنظيم قد قدم خدمة للعالم. ومن المستبعد أن يغير الرئيس الروسي مساره في الوقت الحالي، لكن تكرار هجمات التنظيم قد تقنعه بتغيير رأيه.
ويتوقع الكاتب عدم توقف هجمات تنظيم “داعش” في الخارج مستقبلاً، فبعد سقوط دولته في العراق وسوريا، سيستمر في مهاجمة أعدائه البعيدين، ويتمكن من الانتقال إلى دول أخرى مثل ليبيا. وإن كان سيفقد الأموال والمصادر إثر فقدانه للعديد من الأراضي التي يسيطر عليها، لكن تنفيذه لهجمات في الخارج لا يحتاج إلى الكثير من الأموال.
ربما دفعت هجمات “داعش” الأخيرة المجتمع الدولي إلى التحرك من أجل منع وقوع مجازر مشابهة للتي حدثت في باريس، وستكون نتيجة الجهود الدولية المشتركة انهيار التنظيم ببطء، وضعف إمكاناته للتمدد والسيطرة على أراض جديدة. ويمكن أن يحدث أكثر من هذا عند تجاوز مجموعة إرهابية على دولة ما، وهذا خطر تتعرض له أي دولة تستخدم الإرهاب وسيلة للسياسة الخارجية.