حسن سعد عبد الحميد
كلية العلوم السياسية / جامعة النهرين
آذار – مارس 2016
منذ انهيار النظام السياسي في العراق بعد عام 2003م بفعل التدخل الخارجي العسكري من قبل القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها، سعى العراق – وبغض النظر عن التداعيات التي نتجت عن ذلك التدخل – إلى إعادة بناء الدولة العراقية بأسلوب جديد وفكر جديد لم يألفه البلد من قبل، قائم على أساس الفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة واعتماد التجربة الديمقراطية منهجاً وسلوكاً، في ظل وجود دستور دائم يشكل الوعاء الرئيس الذي تدور حوله تلك الأفكار. وعلى الرغم من أن العراق قد عرف نجاحاً نسبياً في ممارسة تلك الأفكار على أرض الواقع، إلا أن مراحل واستراتيجيات إعادة بناء الدولة العراقية مرت بمخاضات صعبة وتداعيات عدة، ولعل في مقدمتها الإرهاب وأنموذج المحاصصة، ذلك الأنموذج الذي ميّز العملية السياسية في العراق التي كان معولا عليها في بناء الوطن بأبهى صورة، إذ كان من المؤمل أن تسير تلك العملية وفق الأنموذج الديمقراطي السليم كي تكون مفتاحاً لتحقيق الأمن والاستقرار والسلم الأهلي في العراق، عندما يشعر المواطنون بأنهم يمثلون بأفضل طريقة، مما سيعزز من جو الثقة بين المواطن والسلطة. إلا أن تلك الثقة اصطدمت بوصفة المحاصصة التي وجد بها الفرقاء السياسيون العلاج والمسكّن الوحيد لإرضاء الجميع والمشاركة في السلطة، دون أن يعوا مخاطر ذلك الفعل على البنية الاجتماعية العراقية والتحديات التي سينتجها في المستقبل.
إن المحاصصة عبارة عن منهج سياسي اتبعتهُ الكتل والأحزاب السياسية العراقية في توزيع المناصب والمكاسب السياسية والوظيفية على المكونات الحزبية الفائزة في الانتخابات تحت شعار إدارة شؤون البلاد من قبل الجميع دون استثناء. ومن هنا برزت مشكلة المحاصصة في العراق؛ كون أن قادتها السياسيين عدّوها الخيار الأمثل لتحديد هوية العراق السياسية بعد 9\4\2003م، وعلى أساسها وضعوا برامجهم الانتخابية والحزبية المفتقدة للطابع الوطني الشامل، فمن الصواب أن نحترم خيارهم هذا من إطار حقهم المشروع في تمثيل الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها، إلا أنهُ يجب أن يحتل هذا الأمر الدرجة الثانية بعد درجة بناء الوطن الأم وهو العراق، فمثل هذا المشهد جعل المواطن العراقي البسيط يُسقط صفة الوطنية من أقطاب العملية السياسية، وبات ينظر إليها من منظار الهويات الفرعية الثانوية نهجاً وسلوكاً، وهذا ما تجسد فعلياً في شعاراتهم وحملاتهم الانتخابية ذات الطابع القومي الطائفي.
إن مشهد المحاصصة في العراق مر بثلاث مراحل، كانت بدايته الأولى بعد الاحتلال الأمريكي، والذي أخذ صورة المحاصصة الطائفية، ذلك الأنموذج الذي أسس ووضع لبناته كبرنامج عمل قواتُ الاحتلال الأمريكي المتمثلة بسلطة الائتلاف الموقته السابقة برئاسة الحاكم المدني الأمريكي السابق (بول بريمر)، والذي جسدهُ مجلس الحكم الانتقالي الذي كان النقطة السياسية الأولى في مشروع المحاصصة الطائفية. وعلى الرغم من خطورة هذا الإجراء، إلاَ أن القوى السياسية العراقية رضيت به وفق فكرة أنها مرحلة انتقالية ممهدة لإقامة حكومة شراكة وطنية عراقية تمهيداً لمنهج التوافق في الحكم، متناسين ما قد ينتج عنهُ من تداعيات ما يزال المواطن العراقي يعاني منها.
ثم شهد العراق نوعاً جديداً من المحاصصة، وهي المحاصصة الحزبية. فالجميع يعلم أن النظام الحزبي في العراق بعد عام 2003م أظهر لنا عددا كبيرا وغير مسبوق من الأحزاب والتيارات السياسية لدرجة صَعُب حينها اقتراح اسم ما لحزب سياسي جديد؛ لكون هذا الاسم قد سجل باسم حزب سياسي سابق، وهذا التعدد الحزبي لم يأتِ من فراغ في ظل سيادة أنموذج الحزب الواحد لمدة طويلة في العراق، إلا أن هذه التعددية لم تكن مثمرة بقدر ما كانت محاصصة سياسية بحتة يبحث من خلالها كل حزب عن مصلحته الخاصة. فالمحاصصة الحزبية هذه لم تأتِ لصالح الواقع الخدمي والأمني بقدر ما جاءت لإرضاء المشاركين في النسق السياسي العراقي، ولأجلهم تم استحداث وزارات جديدة بدلا من ترشيقها في الحكومات السابقة والتي وصلت لأكثر من (40) وزارة، واستحداث ثلاث نواب لرئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، ونائبين لرئيس مجلس النواب، وقد تمت هذه المحاصصة تحت عباءة الطائفية على الرغم من رفض الشعب والمرجعية لهكذا ممارسات. هذا النوع من المحاصصة استفحل بدرجة كبيرة بعد الانتخابات البرلمانية الثانية التي كان حينها السياسيون العراقيون عاجزين عن تشكيل حكومة عراقية لأكثر من ثلاثة أشهر، والتي تشكلت لاحقاً وفق نظرية (خذ وأعطِ) وفق تفسير مشوّه للمحاصصة الديمقراطية.
إن مشكلة المحاصصة الحزبية في العراق تكمن في أن أقطابها لا يدركون مفهوم العمل الحزبي أو معنى التحزب، فما يفهمونه هو مصالحهم الحزبية قبل كل شيء، فكل حزب يريد نصيبه من التمثيل البرلماني والحكومي وكأنه وقف سياسي له، لا يحق للآخرين الاقتراب منه بغض النظر عن مدى كفاءة أعضاء الحزب المرشحين لتولي تلك المناصب من عدمها.
وفي المدة الأخيرة، شهد العراق – على ما يبدو – نوعاً جديداً من المحاصصة (محاصصة تكنوقراطية). فمنذُ اندلاع الاحتجاجات العراقية المطالبة بالإصلاح ومحاسبة السراق والمفسدين، برز مصطلح التكنوقراط بقوة في الخطاب السياسي العراقي. والتكنوقراط كلمة يونانية تتكون من مقطعين: (تكنو) وتعني فنيا أو تقنيا، و (قراط) أو (كراتس) وتعني سلطة أو حكم، وهي إشارة إلى تشكيل حكومة الكفاءات والطبقات المهنية الرفيعة، أي تشكيل حكومة متخصصة من أهل الخبرة والدراية في المجالات كافة، حكومة غير متحزبة وبعيدة عن التخندق الطائفي والسياسي.
وبقدر تعلق الأمر بالعراق وفي خضم المشاكل التي يعاني منها على الأصعدة كافة، برزت المطالبات نحو تشكيل حكومة تكنوقراط مهنية تتضمن أصحاب الكفاءة والنزاهة الوطنية العابرة للهويات الفرعية الطائفية، إلا أن هذه المطالبات اصطدمت بهواجس الكتل السياسية المنقسمة على نفسها والتي ترى في وزرائها الحاليين شخصيات تكنوقراط تارة، وتارة أخرى متحججة بالسياقات القانونية والدستورية المعمول بها في العراق. فمما لاشك فيه أن العمل بالدستور والقانون مطلب أساس وهو أمر ليس ببعيد عن فلسفة عمل حكومة التكنوقراط، لكن يبدو أن الكتل السياسية قد فهمتها ضمن عقلية المحاصصة الطائفية والحزبية في ظل رفض بعض تلك الكتل من استبدال وزرائها بآخرين، والذي يبدو أنها لا تريد أن تغادر فلسفة المحاصصة الأولى والثانية التي تطرقنا إليهما سابقاً، أي إنها تريد حكومة تكنوقراط وفق مقاييسها الخاصة. فتلك الكثل السياسية لديها شخصنة قوية ومفرطة لبعض شخوصها التي ترى فيهم الحل الأمثل لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وإن كان الأمر يسير وفق الاستقطاب القومي والطائفي.
في الحقيقة، إن الحكم على نجاح أو فشل حكومة التكنوقراط أو التجربة السياسية العراقية الحديثة مرهون بمجرى الحراك السياسي والجماهيري المستمر حتى اللحظة، خصوصاً وأن كل السيناريوهات باتت مفتوحة وكل المشاهد محتملة، لكن الثابت أولاً وأخيراً أن الشعب العراقي هو من سيقرر في نهاية المطاف مصير المحاصصة (بقاؤها من عدمه). ومن هنا نجد أن المطلوب من صناع القرار في العراق ما يأتي:
- تجاوز حالة المحاصصة الطائفية وتغليب الهويات الوطنية على حساب الهويات الفرعية.
- إن مستقبل العملية السياسية في العراق مرهون بشرعية الإنجاز على أرض الواقع، وإعطاء الأولوية للمواطن في رسم السياسات العامة.
- من الضروري تبني مشروع سياسي بعيد كل البعد عن ظاهرة شخصنة السلطة يعمل على تفكيك مشاكل المجتمع العراقي وحلها كلاً على حده.
- إن إعادة بناء الدولة العراقية في ظل مشهد المحاصصة لم يعد مقبولاً، فالحاجة تدعو إلى مأسسة حقيقية قائمة على مبدأ سيادة القانون، وجعل التعددية السياسية ساحة للتنافس الإيجابي بعيدة عن الولاءات الفرعية.
- إن بناء دولة المؤسسات في العراق أمر ممكن، وهو الضامن الوحيد والأمثل لاستيعاب المجتمع وتعبئته وتوظيفه في تعزيز دور الدولة.
- ينبغي إعادة النظر بأطر العمل الحزبي في العراق، وضرورة أن يستند على أسس سليمة وصحيحة تعتمد الهوية الوطنية والولاء الوطني وتعديل مسار العمل الحزبي وحصوله على شرعية الشعب بجميع أطيافه ومكوناته لبناء وطن جديد موحد خال من الديكتاتورية والتسلط والطائفية السياسية والتطرف العرقي والإثني.