علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
نيسان 2016
شاع مؤخرا وعلى نطاق واسع مصطلح “التكنوقراط” ولا سيما في الأوساط السياسية، إذ أخذ البعض يردد الكلمة حتى وإن كانت في غير محلها. وبإمكاننا هنا أن نبيّن أن المراد منه هو الاعتماد على أصحاب الخبرة والشهادة والتخصص في إدارة الأمور ضمن نطاق تخصصهم، بمعنى – وعلى سبيل المثال – من يتسنم وزارة الكهرباء ينبغي أن يحمل شهادة في هذا التخصص، وعمل مدة ليست بالقصيرة في هذا المجال، ويمتلك باعا طويلا فيه، فضلا عن كونه مستقلا ولا يخضع لحزب سياسي؟! وهذا الأخير صار محلا للخلاف. فمنذ أن خرجت تظاهرات يقودها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر وعدد من القوى الوطنية والمدنية ورفعوا شعار التغيير، كان من أبرز مطالبهم الدعوى لتشكيل حكومة تكنوقراط، ما أثار حفيظة الكتل السياسية، ودق ناقوس الخطر لدى الكثير منها. وللتعمق أكثر في هذا الموضوع، بإمكاننا هنا استعراض مواقف القوى الكبرى الماسكة بخطوط اللعبة السياسية وهم أهل الحل والعقد.
مواقف ورؤى الكتل السياسية الكبرى
بالنسبة للتحالف الوطني “الكتلة البرلمانية الأكبر، التي ينتمي إليها رئيس الوزراء” فهي منقسمة فيما بينها. فائتلاف دولة القانون يعد نفسه الأكثر عددا، وعليه فإن منصب رئاسة الوزراء خط أحمر. والمجلس الأعلى الذي حصل لأول مرة على نسبة تمثيل تضم ثلاثة وزراء، ليس من السهل التفريط بهكذا امتيازات، إلا أنه بعد ضغط المرجعية وتنامي احتجاجات الشارع اتخذ خطوة باتجاه تقديم وزرائه الاستقالة للسيد العبادي، لكنها مشروطة، ومن أبرز شروطهم أن يكون التغيير شاملا، بما في ذلك منصب رئاسة الوزراء، وأن يؤتى بكابينة مستقلة شاملة، أو أن يستقيل السيد العبادي من حزب الدعوة. دولة القانون هي صاحبة حصة الأسد في التحالف الوطني، وبهذا فإن المنصب يقسم على عدد النقاط، وفي المحصلة يكون من حصتها وبالتحديد حزب الدعوة. حزب الفضيلة الإسلامي يمتلك ستة مقاعد، فضلا عن وزارة العدل، لذلك اتخذ موقف من الكابية الجديدة بأن بعض الأسماء مرتبطة بالنظام السابق. أما تيار الإصلاح فبقى ينتظر الأمور إلى أين ستؤول، خصوصا وأن زعيمه هو نفسه رئيس التحالف الوطني ووزير للخارجية. وبالانتقال إلى التيار الصدري، فإنه يكاد يكون الحلقة الأقوى في هذه الديناميكية؛ وذلك لأن زعيم التيار هو من أشد الداعين لحكومة التكنوقراط، وهو من قاد التظاهرات والاعتصامات، وكذلك هو أول من تخلى عن وزرائه، وهذا ضوء أخضر للسيد العبادي بتغييرهم متى شاء وبإمكانه الإتيان بأناس مستقلين، ومن ثم فإنهم يستطيعون – وبواسطة زعيم التيار – تحريك الشارع متى شاءوا وبأي موقعٍ يحدد، وبهذا فهم لا يرتجون مكسبا شخصيا أو شيئا آخر، لذلك يدفعون باتجاه حكومة مستقلة حتى وإن كانت على حساب باقي أطراف التحالف الوطني.
تحالف القوى السنية يمارسون دور المراقب للأوضاع، فأين تميل الكفة يميلون لتحقيق مكاسب عدة، ولا سيما أن أكثر مناطقهم تحت سيطرة تنظيم “داعش”، فضلا عن أن حكومة المستقلين القادمة أو حتى في مرحلة ما بعد تشكيلها من المتوقع أنهم سيدفعون باتجاهها ما دامت لا تخضع لسيطرة الأحزاب الشيعية الكبرى.
التحالف الكردستاني هو الآخر لا يعترف بشيء خارج إرادته، وعبروا بكل صراحة عن (أن أي مرشح لا يحصل على موافقة الكرد لا يعد مرشحاً عنا)، بل ذهبوا بعيداً عن ذلك، فعدوا خطوة العبادي بترشيح وزراء مستقلين كرد تمثل محاولة لعزلهم، وأن هذا الأمر (لا يختلف عن سياسات صدام)، فما كان من السيد العبادي إلا أن يعطيهم الحق بترشيح وزراء تكنوقراط وفق إرادتهم. موقفهم الأخير يدل على أن مكاسبهم خطوط حمراء لا يحق لأحد تجاوزها في أصعب الظروف، وإلا فإنهم ماضون بالدولة الكردية المستقلة.
معرقلات التكنوقراط سواء قبل أم بعد التشكيل
ينبغي علينا عدم الاستهانة بخطوة تشكيل حكومة تكنوقراط، وفي المقابل لا ينبغي التكهّن بسهولة التغيير، وذلك للأسباب أدناه:
1- استمرت هيمنة الأحزاب على السلطة قرابة الـ 14 عاما.
2- مبدأ المحاصصة وهو السمة الأبرز لمرحلة ما بعد 2003 ولا سيما عندما يتم تأطيرها بأطر متعددة، سواء الشراكة الوطنية أم تمثيل المكونات أم الاستحقاقات الانتخابية، وهذا ليس عيباً وإنما العيب يكمن في تحويلها إلى حكومة محاصصة طوائف بعيدة عن حكومة دولة.
3- ليس من السهل أن تضحي بعض الأحزاب بمكاسبها، إذ إن بعض الوزارات تحولت إلى ملكية خاصة للحزب المسيطر عليها، بمعنى أن لجان اقتصادية تابعة للحزب تستحوذ على المقاولات وما شابه، وأن مئات المنتسبين للوزارة يجري تنسيبهم للعمل في مختلف مكاتب الأحزاب المنتشرة في المحافظات، وكذلك هناك المئات من السيارات التابعة للوزارة مستغلة من قبل الأحزاب وعناصرها.
4- هذه الكتل تعد نفسها من أرباب التغيير ما بعد 2003 والراعية له، فكيف تأتي بوزراء مستقلين لا يخضعون لها؟.
5- أغلب الوزراء الحاليين هم قيادات أحزاب أو ما يطلق عليهم (صقور العملية السياسية)، وهنا تمكن الصعوبة في عزلهم.
حلول نسبية تلوح بالأفق
لا أحد يستطيع غضّ البصر عن الضغوط الشعبية والتظاهرات والاعتصامات، لذلك ليس من السهل أن تُضرب عرض الحائط. كما ولا ننس ضغوط المرجعية وتخليها عن التحدث في الأمور السياسية في خطبتي الجمعة، وهي رسالة امتعاض للكتل السياسية. لذلك ربما تلجأ هذه الكتل إلى الخروج بحلول جزئية تتمثل في ترشيح وزراء تكنوقراط هي تحددهم ومن ضمن حصصهم في محاولة لتمثيل المكونات وتقليل الخسائر، أو أنها قد تلجأ إلى سحب الثقة حتى من العبادي وتشكيل حكومة إنقاذ أو تسيير أمور، وهذا يعد من الأمور المعقدة والتي تدخل البلاد في دوامة. لكن في كلتا الحالتين، سواء تشكلت الحكومة الجديدة، وكانت مكونة من مستقلين أم من ترشيح الكتل، فهي خطوة في طريق الإصلاح وإن كان جزئيا، وستكون بادرة خير في المراحل المقبلة. ربما صعود التكنوقراط للواجهة مع الصعوبات المالية ومخاطر تنظيم “داعش” لا يعطيها الحرية التامة في استثمار خبراتها على أرض الواقع، إلا أنها ستقلب المعادلة، وستخرج شيئا فشيئا من عباءة وهيمنة الأحزاب، كما وأنها ستبتعد – ولو بشيء قليل – عن شبهات الفساد.