علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية
نيسان-أبريل 2016
قبل أن نخوض في تفاصيل ما جرى مؤخرا من أحداث داخل أروقة مجلس النواب العراقي, لا بأس هنا أن نستعرض جانبا مختصرا لأهم مراحل مسيرة البرلمان العراقي. فمنذ بداية الدورة البرلمانية الأولى بعد انتخابات عام 2005 والتي تمخض عنها تشكيل أول برلمان عراقي بعد عام 2003 بصورة دائمة (أي لدورة برلمانية كاملة) استمرت أربع سنوات وصولا إلى عام 2006، ومن ثم الدورة الثانية حتى العام 2010، وكان آخرها الدورة الثالثة التي بدأت عام 2014 وما زالت مستمرة. كل هذه الدورات هي محصلة عملية انتخابية، وهذا الأمر لا ينكره أحد، لكن المشكلة المشخصة من قبل أغلب المتابعين هو أن البرلمان صار طوائف وقوميات، كما أنه منقسم على نفسه أيضا، فاقد لدوره، غير ملم بمهامه, وأغلب مواقفه نابعة من تبعيته للسلطة التنفيذية, وإلا هل يعقل في دورة كاملة يستجوب وزير أو اثنين أو يستضاف مسؤول أو أكثر بقليل مع كل هذا الفساد السياسي وضياع الأموال. أيضا من ضمن ما تم تشخيصه، هو عدم إقراره للقوانين المهمة المحركة لعجلة التقدم ومعالجة المشاكل، وكذلك كل نائب يصرح بما يحلو له. والأدهى من ذلك، أن بعض النواب تحولوا إلى ناطقين باسم بعض الوزارات ولا سيما في الأمور الخارجية، إذ كل نائب يعطي رأيه بما يحدث خارج العراق، والبعض من تلك المواقف يفسر بحساسية من قبل هذه الدول، ومما لاشك فيه أن هذه المواقف لا تحل عبر خطابات تحريضية وإنما تحتاج إلى دبلوماسية في حلها، وإلا ما معنى وجود وزارة للخارجية في ظل هكذا ظروف؟
من جانب آخر – وفي ظل ثلاث دورات برلمانية – ازدادت الفجوة اتساعا بين الشعب ونوابه، وهذا خلل كبير في المنظومة العامة لدور البرلمان. وبإمكاننا هنا أن نضع بعض النقاط التي تلخص أهم الأسباب التي تقف وراء التباعد بين النائب والمواطن:
1- إطلاق الوعود الكبيرة قبيل موعد الانتخابات في كل دورة انتخابية. إذ يطلق المرشح لعضوية مجلس النواب وعوده غير المحدودة بتحقيق الرفاه والأمن والوظيفة للمواطن البسيط، وحالما يحصل على موطأ قدم في قبة البرلمان يبدأ العد التنازلي لتلك الوعود لتصل إلى خبر كان وسرعان ما تتلاشى, إما لاصطدام النائب بواقع جديد تشوبه المصالح والمنافع الشخصية أو أن يكون وراء إطلاق تلك الوعود هو الوصول إلى البرلمان لا غير أو أنه يتحجج بأن مهامه تشريعية وليست تنفيذية.
2- الامتيازات الشخصية التي يحصل عليها النائب والتي من شأنها أن تخلق فوارق اجتماعية كبيرة: انتقال النائب من حال إلى حال, كثرة أعداد حماياته الشخصية, العربات المصفحة, المنازل الفخمة, وبقاء المواطن البسيط على ما هو عليه.
3- الصراع الداخلي ما بين أعضاء البرلمان وتحوله في بعض الأحيان إلى منبر خطاب طائفي، بمعنى أن بعض النواب يخاطبون بصورة علنية طوائفهم ومصالحهم، متناسين أنهم ممثلون عن عامة الشعب حالما دخلوا قبة البرلمان. صحيح أنه ليس معيباً أن يدافع النائب عن دائرته الانتخابية، لكن أن تكون بصورة إيجابية تتضمن عمومية في طرح المواقف.
4- السعي وراء المناصب التنفيذية مهما كلف الأمر (والحديث هنا عن البعض وليس الكل)، غير مدركين لدورهم التشريعي الذي هو الركيزة الأساس لعمل الدولة، وأن النائب هو صاحب الامتياز الأول، وله الحق في أن يسائل أي شخص في أي موقع تنفيذي وفق آليات دستورية وقانونية متعارف عليه.
5- كثير من القوانين التي أقرها مجلس النواب لا ترقى لمستوى الخطر المحدق, بمعنى أننا لم نر قوانين تلامس حياة المواطن في تحسين وضعه أو تجد الحلول لمشاكله, وعلى سبيل المثال: في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية، هناك الكثير ممن عول على إقرار قانون يعالج لب الأزمات، إلا أن مجلس النواب يقر قانون حماية الطيور مثلا، أو انضمام العراق لاتفاقية التعاون البيئي!!
6- محاصصة المحاصصة، إذ وصل تقسيم المناصب على أساس طائفي لأدنى المستويات في وظائف الدولة, بعيدا عن المهنية وبناء كادر يلبي حاجة الدولة من أجل النهوض بالتنمية الشاملة.
وفقاً لما ذكر أعلاه من رؤية مبسطة لطبيعة مشاكل البرلمان ولأسباب تنامي الفجوة ما بين المواطن والنائب, نستعرض هنا ما جرى ويجري من أحداث متسارعة في المشهد السياسي بشكل عام والبرلماني بشكل خاص. فبعد التظاهرات لسنوات عدة والاعتصامات والمطالبات والاحتجاجات, ومواقف المرجعية ورجال الدين, الكل يدعو لأن يأخذ البرلمان دوره في التشريع والرقابة ومحاسبة المقصرين, إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل ولم تلق أذناً صاغية. وبعد حركة الاعتصامات الأخيرة، صار التوجه نحو تحقيق حزمة من الإصلاحات كانت بدايتها التوجه نحو تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، لعلها تنقذ ما تبقى، وعلى إثرها قام السيد رئيس الوزراء بتقديم كابينة جديدة وصفت بأنها بعيدة عن التحزب وجل أعضائها من الشخصيات التكنوقراط, ليعرضها على البرلمان وإعطاء مهلة 10 أيام لدراستها ومن ثم التصويت عليها. هذا الأمر لم يرق لكثير من الكتل، فبدأت بتوجيه التهم وسهام النقد، إذ إن بعض الأحزاب اتهمت الكابينة الجديدة بأن أغلب عناصرها هم من المشمولين بالاجتثاث, والبعض عدها لا تمثل مكوناته، والبعض الآخر ذهب بعيدا وعدها تضم عناصر إرهابية, أما الكرد فلا يعنيهم الأمر بأي وزير أو مسؤول لا يأتي عن طريقهم!، لتعود الأمور إلى نصابها لكن بتسمية جديدة، وهي حكومة تكنوقراط ترشحها الكتل والأحزاب تحت ذريعة تمثيل الكتل والأحزاب والقوميات والحفاظ على وحدة الوطن وعدم تهميش أي فئة. لذا تم توقيع ما سمي بوثيقة الشرف، من أغلب قادة الكتل، باستثناء التيار الصدري والقائمة الوطنية, وبهذا صرنا أمام خيارين، الأول حكومة تكنوقراط بعيدة عن الأحزاب, والثاني حكومة تكنوقراط حزبية ترشحها الأحزاب نفسها. كل هذه المباحثات جرت ما بين رؤساء الكتل والأحزاب, الأمر الذي لم يتقبله بعض الذين شعروا انهم اصبحوا مجرد اداة يحركها رئيس الكتلة كيفما يشاء, فجاءت حركة البرلمان الاخيرة في ظل ضغوط شعبية غير مسبوقة, فتمرد بعض النواب على رؤساء كتلهم وعقدوا لأول مرة – بعد ثلاثة عشر عاماً- جلسة برلمانية ضمت مجموعة من النواب موزعين على أغلب الكتل أطلق عليهم (النواب المعتصمون)، وصوتوا على إقالة رئيس البرلمان ونوابه في جلسة عاصفة، ربما يكون الفيصل فيها هو اللجوء إلى المحكمة الاتحادية، فأخذت المخاوف تتزايد شيئا فشيئا المخاوف من وجود برلمانين في العراق. وما يمكن ملاحظته هو أن جعل رئاسة البرلمان لشخصية سنية , قد يعيدنا إلى المحاصصة مرة أخرى تحت شعار الاصلاح.
ان الحركة البرلمانية الأخيرة تعد تحولا ملفتا حتى وإن أجهض مشروعها. فما يمكن ادراكه هنا هو أنها حققت أمورا عدة نتيجة لضغط الشارع الشعبي والتحديات الهائلة التي تواجه عمل الحكومة، منها:
1- خروج غير مألوف لبعض النواب من عباءة رؤساء الكتل، وهذه بادرة طيبة باتجاه تعبير النائب عن رأيه بصراحة واستقلالية.
2- اعتصام النواب ظاهرة تحدث لأول مرة, والملفت في الأمر هو تنوع الانتماءات: سنة وشيعة وأكراد.
3- إرضاء مطالب الجماهير في خطوة وإن كانت متأخرة، فهي خطوة صحيحة قد تعقبها خطوات متلاحقة تحقق رضى شعبيا واسعا.
4- بداية تهاوي الزعامات السياسية التقليدية التي هيمنت على المشهد السياسي منذ عام 2003 مما يمهد الى صعود شخصيات جديدة، بشكل قد يطرح احتمالية انتقال المشهد وزمام المبادرة للجيل الثاني من القيادات السياسية.