بقلم: رئيس التحرير
“السلام والاستقرار الدائمان في منطقة (الشرق الأوسط) لا يمكن أن يُفرضا من الأعلى أو من الخارج أو بالقوة، إذ إن بناءهما يحتاج أن يكون من الداخل، من خلال الحكومات التي تكون شاملة وقابلة للمساءلة أمام مواطنيها، ومترابطة ومتواصلة مع العالم. والمساعدات الأمنية وحدها لا يمكن أن تخلق الحكومات هناك. فكلاهما – الأمن والاستقرار- يتطلبان تسوية سياسية لتأكيد الحرية والكرامة والأمن لكل المواطنين“. بهذه الكلمات أنهى المحلل الاستراتيجي (انتوني كوردسمان) دراسته الموسومة (الاندفاع التدريجي: استراتيجية الولايات المتحدة في العراق وسوريا للمدة 2011-2015)، والمنشورة من قبل (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) الأمريكي. وقد خصص هذا العدد من إصدار (العراق في مراكز الأبحاث العالمية) لهذه الدراسة؛ لما لها من أهمية كبيرة، إذ وجّه كاتبها انتقادات حادة إلى ما أسماه باستراتيجية الاندفاع التدريجي، وهي التي اعتمدتها واشنطن في محاربة الإرهاب في العراق وسوريا خلال المدة 2011-2015؛ لكونها تعتمد أسلوب ردّ الفعل في التعامل مع التهديدات الأمنية، وغابت عنها الاستراتيجية الكبرى المرتكزة على تحقيق الامن والاستقرار الدائمين. وأكد الكاتب على أن تحقيق الأمن والاستقرار الدائمين يرتبط بحلول تنبع من الداخل، مستدلا على ذلك بقوله: “تمكنت أوروبا واليابان من التعافي بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأنهم طوروا الدولة ووضعوا القادة والمؤسسات الذين بإمكانهم التعامل مع المشاكل في زمن الحرب في السياسة والحكم والاقتصاد”، لذا يجد أن مشاكل الشرق الأوسط عموما، ومشاكل العراق وسوريا على وجه الخصوص، نابعة من الداخل، وأن أي استراتيجية شاملة خارجية لمعالجتها ستفشل ما لم تقترن بشروط داخلية للنجاح. ويحث واشنطن على اعتماد استراتيجية شاملة هدفها تحقيق الأمن والاستقرار الدائمين، مع إدراكه لعدم رغبة الإدارة الأمريكية في التورط بتواجد عسكري فعال على الأرض في العراق وسوريا يمكن أن يقود إلى مزيد من الاحتقان الطائفي، لذا يدعوها إلى جعل الجهد الأساس في هذه الاستراتيجية مبني على دور القوات المحلية، محذرا من احتمال التحوّل إلى استراتيجية الاحتواء في حال فشل الاستراتيجية الشاملة.
لقد أجرى الكاتب في دراسته سرداً موسّعاً للأحداث في العراق وسوريا منذ عام 2011 إلى الوقت الحاضر، منتقدا إدارة أوباما لافتقارها إلى الوضوح الاستراتيجي، وسوء الدعم العسكري – البري والجوي – مبيّنا أن دعمها لأكراد العراق وسوريا قد يجرّ إلى مواجهات مستقبلية بين العرب والأكراد وبين تركيا والأكراد، ومحذرا – أكثر من مرة – من فداحة المشكلة الاقتصادية التي تواجه حكومة بغداد بفعل انخفاض أسعار النفط. كما تطرق إلى الكلف العالية للحرب واحتمال تزايدها، مركزا كثيرا – في نهاية دراسته – على ضرورة ترك استراتيجية الاندفاع التدريجي واعتماد الاستراتيجية الكبرى التي تكون واضحة في ماهيّتها، وشفافة في عرض بياناتها، وتعتمد التركيز على برامج التدريب ذات الجودة العالية، مع تحديد الفصائل العسكرية المحلية التي يمكن التحالف معها، ويطرح مجموعة من الحلول للوضع العراقي والسوري في مرحلة ما بعد “داعش” جديرة بالدرس والتأمّل.
إن تحليل هذه الدراسة وأمثالها مفيدٌ جدا لمعرفة كيف يفكّر صانع القرار الأمريكي، لذا من الضروري عدم إهمالها والتوسّع في ترجمتها وفكّ رموزها؛ من أجل اتخاذ قرارات صحيحة في الوقت والمكان المناسبين.