بقلم: الدكتور خالد عليوي العرداوي
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية- جامعة كربلاء
أيميل الكاتب: khalid19751986@gmail.com
الإصلاح والانتصار النهائي الدائم في الحرب على الإرهاب في العراق باتا صنوان لا يفترقان، والعناد والمقاومة والرفض لهذه الحقيقة لا يجدي نفعا، نعم قد يطيل أمد الأزمة، لكنه لن يحلها وستتفاقمالأمور عاجلا وآجلا |
أيار- مايو 2016
شهد شهر نيسان/ ابريل الماضي أحداثا ساخنة جديدة في العراق، ففي الرابع عشر منه عقدت جلسة مثيرة لمجلس النواب برئاسة عدنان الجنابي حضرها طيف من البرلمانيين المتمردين الذين تم تسميتهم بالنواب المعتصمين، جرى خلالها اتخاذ قرار بإقالة رئاسة المجلس الحالية وفتح الباب لانتخاب رئاسة جديدة، تكون مهمتها استجواب رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي تمهيدا لحجب الثقة عنه، وقد واجهت هذه الخطوة البرلمانية عراقيل مرتبطة بقانونيتها من جهة، ومدى قدرة المنضوين لها على توفير النصاب القانوني لجلساتها اللاحقة من جهة أخرى، فضلا عن تقاطع الإرادات السياسية بشأنها داخل البلد وخارجه. ولأسباب كثيرة نجحت رئاسة البرلمان المقالة في عقد جلسة عاصفة برئاسة سليم الجبوري يوم 26 نيسان- ابريل كان محورها الأساس التصويت على كابينة وزارية جديدة تتجاوز المحاصصة الطائفية والعرقية وتعبد الطريق لحكومة تكنوقراط قادرة على مواجهة التحديات الكثيرة التي يمر بها العراق، ولكن على الرغم من إدراك كل من الحكومة والبرلمان لحجم الخطر المحدق ببلدهم، في الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة الخضراء المحصنة التي تضم المقرات الرئيسة للدولة إلى حصار شديد من قبل جموع جماهيرية غاضبة يوجهها رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر فقد فشلت الجلسة في اتخاذ هذه الخطوة ، إذ لم تستطع الحكومة ترشيق وزاراتها ، ولم يوافق البرلمان على إجراء تغيير وزاري شامل، كما فشل في إجراء هذا التغيير في جلسته المقررة يوم 28/ نيسان-ابريل، ثم فشل مرة ثالثة في عقد جلسته يوم 30/نيسان –ابريل، فكان التاريخ الأخير على موعد مع حدث مثير اقتحمت فيه جموع غفيرة من المواطنين الغاضبين أسوار المنطقة الخضراء، وسيطرت على مقر البرلمان، كما قامت بضرب عدد من البرلمانيين، ومحاصرة مقر مجلس الوزراء ومقرات الحكومة الأخرى، قبل أن تتخذ من ساحة الاحتفالات داخل هذه المنطقة مكانا لاعتصامها.
دلالات أحداث نيسان-ابريل الساخنة
إن أحداث نيسان –ابريل على الرغم من توقع حدوثها إلا أن طريقة وسرعة حصولها يشير إلى بدء مرحلة جديدة تشهدها الساحة السياسية العراقية. وتدل دلالة قاطعة على أن قواعد اللعبة الداخلية التي استندت إليها العملية السياسية منذ عام 2003 آخذة بالتلاشي شيئا فشيئا، ومع تلاشيها التدريجي سيختفي الوجود السياسي لكثير من الوجوه البارزة التي اعتاد عليها العراقيون ، ما يفسح المجال إلى بروز وجوه جديدة تحل مكانها في المستقبل.
مثلما تفصح عن عجز القوى الإقليمية والدولية في تثبيت أركان نظام الحكم في هذا البلد، حتى أن ظهور “داعش” وتنامي الإرهاب الأعمى منذ حزيران- يونيو 2014 يمكن أن يندرج ضمن مؤشرات هذا العجز، ويبدو أن الرهان على بناء السلطة في العراق لمصلحة هذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك فشل فشلا ذريعا، وأصبح واضح مقدار هذا الفشل من خلال عدم الاتفاق على مواقف منسجمة وموحدة تعتمد استراتيجية دولية شاملة هدفها ضمان الأمن والاستقرار الدائم في العراق والمنطقة.
ومن جهة أخرى المشاكل الكثيرة التي تواجه المجتمع العراقي (الفساد، والفقر، والبطالة، وفقدان الثقة ، وغياب الأمن، وتنامي مشاعر الإحباط، وانعدام الأمل، والنمو الديموغرافي، وشلل مؤسسات الدولة، وسوء التخطيط الاقتصادي، وتصاعد معدلات العنف والجريمة، وضعف البنية التحتية) وغير ذلك، بدأت تخرج عن نطاق السيطرة والتحمل، فأخذ المواطن يصب جام غضبه على مؤسساته الدستورية وقياداته السياسية، وهذا الأمر يظهر جليا من خلال ما تزخر به وسائل التواصل الاجتماعي وأعمدة المقالات في الصحف والفعاليات المدنية والبرامج التلفزيونية والإذاعية العراقية من نشاطات تعبر عن السخرية تارة، والغضب والاستنكار تارة أخرى مما يحصل في البلد.
كما تزيح أحداث هذا الشهر المتسارعة الستار عن حقيقة مفادها أن المشروع الإرهابي في العراق بدأ يضعف زخمه ويقل خطره، ويتراجع عن تحقيق غاياته، بشكل سمح للمطالب الأخرى أن يعلو صوتها على مطلب الأمن، فـ”داعش” وأخواتها من التنظيمات الإرهابية آخذة بالضعف المستمر الذي من الممكن أن يقود إلى القضاء عليها وإنهاء وجودها العسكري، والحراك الذي نراه داخل العراق وخارجه ما هو إلا خطوات تقوم بها الأطراف جميعا استعدادا لمرحلة ما بعد “داعش” التي ستكون بحاجة إلى نمط تفكير وسلوك وقيادة يختلف تماما عن المرحلة السابقة لها.
الحرب أم الإصلاح أولا؟
يثور جدل واسع بين الساسة والمحللين في الوقت الحاضر حول تساؤلات مفادها هل الوقت مناسب لإجراء إصلاحات جوهرية وشاملة للحكم والإدارة في العراق في وقت يخوض فيه البلد حربا مصيرية مع التنظيمات الإرهابية؟ أليس من الأجدر بالحكومة وشعبها والقوى السياسية تركيز كامل قدراتها على هزيمة “داعش” ودحره النهائي بدلا من تشتيتها على قضية الإصلاح؟.
نعم، إن أوقات الحروب استثنائية، وتحتاج إلى تركيز القوى والجهود والقدرات من أجل تحقيق النصر فيها، ولكن عند استعارة قواعد الحرب من الاستراتيجي الكبير كلاوفيتز، تجد أن هزيمة الخصم في الحرب لا تكون إلا بتدمير مركز الثقل الاستراتيجي لديه، فتحطيم هذا المركز يمثل المعركة الرئيسة للقوات، وما عداها تصبح معارك ثانوية أقل شأنا تسبق إعلان النصر النهائي. وعليه إذا نظرنا إلى حرب مكافحة الإرهاب في العراق اليوم، نرى أن مركز الثقل الرئيس لطرفيها: الحكومة العراقية وشعبها من جهة، و”داعش” وحلفائها من جهة أخرى، هو الشعب العراقي، فكلا الطرفين سيعجز عن الانتصار إذا لم يكسب الشعب بكافة مكوناته.
وإن إدراك الحقيقة أعلاه يجعل من السهل القول: إن العملية السياسية منذ عام 2003 إلى الوقت الحاضر بمؤسساتها الدستورية وأطروحاتها الفكرية فشلت بامتياز في تطوير واقع المجتمع، إذ تنقله من مرحلة النزاع والصراع إلى مرحلة الهدوء والاستقرار والتعايش، كما لم تحافظ على استقلالية القرار السياسي العراقي إقليميا ودوليا، وعجزت عن تعزيز الثقة بين الحكومة وشعبها، وعن تفعيل سلطة تنفيذ القانون، وترسيخ التجربة الديمقراطية .. وهذا التراجع في الأداء الحكومي بدء يصيب في العمق المجتمع بكل أطيافه، فيضعف حيويته ورهاناته الايجابية على المستقبل، وفي ظل هذا الحال لم يعد مهما كثيرا هزيمة “داعش” كهدف استراتيجي؛ لأنه مع بقاء الحال على ما هو عليه، قد يكون العراق على موعد مع النسخة القادمة من “داعش” مستقبلا، وعندها لن تكون هزيمة الإرهاب جذرية ونهائية.
وصفوة القول هنا: إن المطلوب لاستئصال الإرهاب القضاء على الأسباب المنتجة له؛ لتحقيق الأمن والاستقرار الدائم، وهذا يقتضي البدء فورا بعملية إصلاح شاملة لمفاصل الدولة العراقية، بصورة تسمح بميلاد حكومة متجانسة وقوية تتحرك وفقا لقواعد جديدة من العمل السياسي، وتعزز سلطة تنفيذ القانون في البلد بشكل لا يستثني أحدا من قمة هرم السلطة إلى أدنى قواعدها. وإعداد الدولة لمجابهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بفعل انخفاض الإيرادات النفطية بطريقة لا تكون على حساب سلة غذاء المواطن العراقي. وترشيق مؤسسات الدولة لتعمل بكفاءة وسرعة بعيدا عن البيروقراطية المقيتة المعتادة داخلها، وتهيئة المجتمع لمصالحة سياسية شاملة تفتح الباب لمزيد من الاحترام والثقة والتعايش بين مكوناته المختلفة. وقبول بعض القيادات السياسية للحقائق الجديدة التي تشير إلى أنهم لم يعد مرغوبا بهم، وإعادة النظر في العلاقة بين المركز (الحكومة الاتحادية) والإقليم (حكومة إقليم كردستان) بشكل يتناسب مع الحجم السكاني للأخير ، مع إفهام حكومة الإقليم وقياداته الفاعلة بوضوح وبدون لف ودوران أنهم أما يتخلوا عن مشاكساتهم ويكونوا جزءا فاعلا من بناء تجربة الحكم الديمقراطي في العراق، وأما يذهبوا إلى تقرير مصيرهم بأي طريقة يرونها مناسبة وتحمل نتائج خياراتهم أي كانت، وعلى الحكومة الاتحادية قبول نتائج هكذا إجراء، فالتخلص من الجزء المعيق للبناء خيرا من بقائه الذي ينتهي بتهديم البناء بالكامل. ومن المفيد-أيضا- لصانع القرار العراقي في المرحلة القادمة أن يحسن الاستماع إلى الرأي الآخر؛ من اجل إنضاج وإنجاح تجربته الديمقراطية، وان يعيد النظر بأداء الجهات التنفيذية والتشريعية في الحكومات غير المنتظمة بإقليم لمعرفة مكامن الخلل فيها وإصلاحه بسرعة وقوة. فضلا عن إعادة النظر بعلاقات العراق الإقليمية والدولية؛ ليكون منطلقها مدى احترام كل طرف لبناء الدولة في العراق لا بناء السلطة، فقد أثبتت أحداث السنوات الماضية أن جيران العراق جميعا يلهثون وراء بناء السلطة في هذا البلد على حساب بناء الدولة، ربما لأنهم جميعا يشعرون أن هذه الطريقة في التعامل مع جارهم الضعيف تحقق مصالحهم أكثر على المدى القصير، إلا انه حان الوقت ليفهموا أن هكذا سياسات بالقدر التي تؤذي العراق فإنها تؤذيهم على المدى البعيد، أما على المستوى الدولي فكانت أغلب الأطراف الدولية تمارس دور المتفرج تارة، والدور السلبي تارة أخرى اتجاه مجريات الأحداث العراقية، وهذا أيضا من الضروري أن يتغير، فإذا كان الإرهاب في كهوف أفغانستان المظلمة استطاع الامتداد ليضرب المصالح الدولية في قلب العالم الرأسمالي، ويهدد الأمن والسلم الدوليين، فما بالك بإرهاب يكون مصدره القلب الاستراتيجي لاوراسيا؟!!.
وخلاصة ما تقدم، الإصلاح والانتصار النهائي الدائم في الحرب على الإرهاب في العراق باتا صنوان لا يفترقان، والعناد والمقاومة والرفض لهذه الحقيقة لا يجدي نفعا، نعم قد يطيل أمد الأزمة، لكنه لن يحلها، وستتفاقم الأمور عاجلا وآجلا ، لتكون مفتوحة على كل الاحتمالات، فالأحداث لا زالت تحت السيطرة، ويمكن التعامل معها بروية وحكمة؛ لتحويلها إلى منطلق لبناء عراق أقوى وأكثر تفاعلا وتأثيرا ، أو القبول بانزلاقها إلى هاوية لها بداية لكن لا أحد يعرف نهايتها. وأنه وقت الحكمة والمهارة والإيثار والتعاون داخليا وخارجيا لا وقت التطرف والسفاهة والاستئثار والتفرق والرهانات الخاسرة، فليستوعب الجميع ذلك قبل فوات الأوان.