ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/قسم الدراسات الدولية
أيار/مايو 2016
يعد مفهوم الإصلاح من المفاهيم الشمولية التي لا تختص بدراسة وتطوير حالة معينة أو وضع معين بقدر ما هو مفهوم شامل، يؤشر على نمو وتطور المجتمعات البشرية بما يتناسب مع مواردها وثرواتها ووضعها السياسي “الداخلي والخارجي”. وربما هناك بعض الدول تجاوزت إمكاناتها السياسية ومواردها الاقتصادية بشكل ملفت للنظر بموضوع الإصلاح، وأصبحت دولاً متطورة على كافة الأصعدة، وتمكنت من إصلاح وضعها بشكل عام بعيداً عن قدراتها السياسية والاقتصادية. والإصلاح المقصود به هنا هو “الإصلاح الشامل” المبني على روئ واستراتيجيات وطنية، ولو بشكل تدريجي. إلا أن الإصلاح يمكن أن يتبلور كمشروع سياسي واضح وشامل، ولعل أولى خطوات الإصلاح تكمن في إصلاح الدعامة الأساس في البلد، إلا وهي “المؤسسة العسكرية”؛ لأن إصلاحها وإبعادها عن التسييس والتقاطعات السياسية هو ضمان للأمن الداخلي والخارجي والبيئة السلمية المشجعة على السير بطريق الإصلاح، حتى وإن كانت التحديات كبيرة وخطيرة. وعلى الرغم من كل التحديات التي تواجهها المؤسسة العسكرية العراقية ومخاطر التنظيمات الإرهابية، إلا أنها نجحت نجاحاً كبيرة في الحفاظ على سلمية التظاهرات، وعلى ما يبدو أن هذا النجاح هو ثقافة جديدة تؤطّر عمل المؤسسة العسكرية العراقية بعد كل الإخفاقات السابقة، وفقدان الثقة بين المؤسسة والمواطن، مما انعكس سلباً على الوضع العام للبلد، ولاسيما الوضع “السياسي والأمني”.
وعلى الرغم من تعثر مشاريع الإصلاح في العراق وفشل كل مبادرات الإصلاح السياسي لحد الآن، وتعقد الأزمة السياسية، واستمرار القوى السياسية في المراهنة على الوقت والتسويف والمماطلة والالتفاف على مطالب المتظاهرين “المطالبين بالإصلاح والرافضين للمحاصصة”، إلا أن التظاهرات والاعتصامات الأخيرة كشفت عن جزء من “الثقافة المفقودة للمؤسسة العسكرية العراقية”، المتمثلة في الثقافة المهنية التي تتمتع بها أغلب المؤسسات العسكرية في العالم المتحضّر، وهي ثقافة غير مسبوقة من جانب المؤسسة العسكرية في السابق للتعامل مع المتظاهرين والمعتصمين، ولاسيما وأن كثيراً من الساسة كانوا يعوّلون على دور المؤسسة العسكرية في إجهاض أي تجمعات أو تظاهرات شعبية تنادي بالإصلاح أو غير ذلك. إذ وظفت المؤسسة العسكرية بكامل صنوفها في السنوات السابقة سياسياً، وجُيّرت لأغراض سياسية شخصية وفئوية (أي أنها أصبحت قوات لحماية السلطة الحاكمة تدين بالولاء والطاعة لشخص الحاكم)، وابتعدت عن المهنية ودورها العسكري النبيل، مما جعل المواطن العراقي يفقد ثقته بالمؤسسة الأمنية بشكل عام، ومن ثم زادت الفجوة بين المواطن والمؤسسة العسكرية في الغالب؛ بسبب قمع بعض التظاهرات، أو استخدام أساليب عنيفة اتجاه المواطن، والتعامل معه بلغة خشنة بعيداً عن الثقافة العسكرية المتحضّرة، التي قد تخدش بكرامته وهيبته أو إهانته، أو غير ذلك من الأساليب التي تزيد من اتساع الفجوة وخلق الفراغات وتضيق خطوط الاتصال بين المواطن والمؤسسة العسكرية، سواء في الشارع أم في التظاهرات أم في تنفيذ عمليات إلقاء القبض أم في حالات التوقيف والتفتيش، أو التعامل الطائفي والقومي الممزوج بالعدائية والكراهية والعنصرية في بعض الأحيان، وغياب المحاسبة والمراقبة من قبل الجهات المسؤولة، كل هذه السلبيات أدت إلى فقدان الثقة بالمؤسسة العسكرية، الأمر الذي انعكس سلبا على روح التعاون بين المواطن وهذه المؤسسة برمتها في العمليات الاستخبارية وعمليات إلقاء القبض فضلاً عن تفضيل بعض المواطنين الاستعانة ببعض المجاميع المسلحة أو الإرهابية، أو انخراطهم معها، بقصد حمايتهم من بطش قوات الأمن في بعض الأحيان، أو لرد الحيف والكرامة التي يتعرض لها بعض المواطنين. وقد شهد العراق حالات “فضّ بعض التظاهرات بالقوة العسكرية”، مما أدى إلى صدامات بين المؤسسة العسكرية والمتظاهرين، وربما كانت أغلب حالات القمع للتظاهرات هي بأمر السلطات والقيادات السياسية وليس خيارا عسكريا للتعامل مع الوضع الأمني. إلا أن المظاهرات والاعتصامات الأخيرة في بغداد والمحافظات، عكست الوجه الحضاري والثقافي للمؤسسة العسكرية العراقية بتأريخها العريق، من خلال احترامها لرأي الشعب وحقوقه في التجمع والتظاهر والاعتصام، وقد أنعكس ذلك إيجاباً على كل المظاهرات والحركات الشعبية والجماهيرية المنظّمة لهذه المظاهرات، مما كان لها الأثر الكبير في الحفاظ على سلميتها، إذ كان هناك ودٌّ وعناق، وطعام مشترك بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وهو الأمر الذي افتقدته المؤسسة العسكرية طيلة السنوات السابقة، ولهذا فإن هذا الاحترام المتبادل بين المؤسسة العسكرية والشعب يجب أن يُطوّر أكثر في الشارع والأماكن العامة وعمليات تنفيذ إلقاء القبض وكذلك في السيطرات الأمنية؛ لما فيه من مردودات إيجابية تنعكس على الأمن القومي العراقي بشكل عام؛ لأن استقلال المؤسسة العسكرية وعدم تسييسها واحترامها لمواطنيها بعيداً عن السلطة السياسية وسلطة الحاكم هو دليل على تمتعها بالمعايير الحضارية في تثبيت أركان الدولة والحفاظ على هيبتها من العدو الخارجي والخروقات الأمنية الداخلية، وهذا لن يأتي إلا بمساندة شعبية من قبل المواطنين لعمل المؤسسة العسكرية. وعليه، لابدّ للمؤسسة العسكرية بقياداتها الأمنية وجميع صنوفها أن تعي دورها الحقيقي في الحفاظ على المواطن وأمنه، والحفاظ على استقلاليتها العسكرية، والابتعاد عن أي مواجهة أو صدام مع الشعب، ولاسيما وأن كثيراً “من السياسيين” قد راهنوا على دور قوات الأمن في إجهاض التظاهرات بعد اقتحام المتظاهرين للمنطقة الخضراء، وكثيراً منهم حمّلوا المسؤولية للقوات الأمنية بهذا الاقتحام، على الرغم من أن الكل كان يعي – ولاسيما المؤسسة العسكرية – بأن أي مواجهة أو احتكاك مع المتظاهرين قد يتسبب بأزمة فعلية في العاصمة “بغداد”، مما يعرض المتظاهرين وقوات الأمن وأمن العاصمة إلى الخطر الفعلي، وقد تؤدي تداعياته إلى تهديد العملية السياسية، وربما يؤدي إلى إشاعة حالة من الفوضى السياسية والأمنية وغياب القانون. ولهذا، فإن دور المؤسسة العسكرية وموقفها الأخير اتجاه التظاهرات والمتظاهرين موقف يستحق التقدير والاحترام، وهو خطوة كبيرة لبناء مؤسسة عسكرية بعيدة عن التسييس والتحزب وسلطة الحاكم، إلا أن هذا الموقف بحاجة إلى التعضيد، سواء من قبل المؤسسة العسكرية نفسها أم من قبل المواطنين “المتظاهرين”، فضلاً عن الدعم السياسي لها، والدفع بها إلى الحيادية والاستقلال، وإبعادها عن الأزمات السياسية التي تضرب العملية السياسية. وعلى القائد العام للقوات المسلحة أن لا يخضع للضغوطات السياسية في تغيير بعض القيادات الأمنية التي حافظت على سلمية التظاهرات؛ لأن ذلك سيخلق حساسية بين المتظاهرين والقيادات الأمنية الجديدة، وربما يتسبّب بصدامات بين الطرفين، الأمر الذي سينعكس سلباً على الوضع السياسي والأمني العام في البلد.