علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية/قسم إدارة الأزمات
أيار/مايو 2016
تدل أغلب تجارب الحكم الناجحة في مختلف بقاع العالم على ضرورة إذابة الحواجز ما بين الحاكم والمحكوم واتباع أبسط طرق التواصل ما بين المسؤول والرعية، حتى يتمكّن المسؤول من سماع صوت رعيته عن قرب، بعيداً عن الحاشية أو ما يطلق عليهم بـ “البطانة السيئة” التي تصور للمسؤول أن شعبه يعيش برفاهية ولا يوجد ما يطالب به أو يحتج عليه. وبالانتقال إلى تجربة العراق ما بعد العام 2003، نجد أنه بعدما استبشر الشعب في هذا البلد خيراً بزوال النظام الدكتاتوري والانتقال إلى مرحلة جديدة بعيداً عن الحروب والفقر وانعدام الخدمات، فإن النتيجة قد انعكست تماما، إذ ظهرت طبقة سياسية حاكمة عزلت نفسها وتحصّنت بداخل منطقة محاطة بكل أنواع الحماية ووضعت الحواجز بينها وبين المواطن البسيط، فأخذت تتّسع الفجوة ما بين المواطن وحاكميه مع تمسك الآخرين في المنطقة الخضراء شديدة التحصين، والتي أصبحت محل سكن لكبار المسؤولين في الدولة وعوائلهم مع توفير الحماية المشددة والرفاهية الباذخة. في المقابل، فإن أوضاع المواطنتسوء يوماً بعد يوم, مما جعل الناس ينظرون إلى تلك المنطقة بعين الريبة وهم يرون أنوارها التي لا تنطفئ وشهوق مبانيها وفخامة عيش ساكنيها على عكس المناطق المجاورة لها، شأنها شأن بقية مناطق العراق.
هذه كلها تراكمات أخذت بالتنامي طيلة الثلاثة عشر عاما على الرغم من جميع المطالب الشعبية والتظاهرات والاعتصامات لمدة سنتين، والتي قابلها المسؤول بالتسويف والمماطلة لاعتقاده أنه في مأمن داخل المنطقة المحصنة. وما أن قاد مقتدى الصدر تلك التظاهرات، حتى وجد فيها كثير من فئات الشعب متنفّسا لطموحهم، مع علمنا بأن أنصار التيار الصدري هم من أكثر فئات الشعب فقراً وتضرراً وبساطة، لذلك التفوا ومن ساندهم حول الصدر. كما وإن الأخير كان واعياً لخطورة الموقف، وكان يطمح للتغيير التدريجي دون الرئاسات الثلاث (على الأقل في الوقت الراهن)، لذلك دعا لمساندة العبادي في تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة من خارج الأحزاب السياسية، وهذا الأمر لم يرق لكثير من تلك الكتل والأحزاب، مع علمهم بتضرر مصالحهم ومكاسبهم، فكانوا حجر عثرة نحو التغيير، فيما قابلهم الصدر بمهل عدة، ابتدأت بمهلة الـ 45 يوماً، لتعقبها مهلة الـ 72 ساعة، ومن ثم ثلاثة أيام وصولاً إلى جلسة الثلاثاء 26/نيسان. ومع احتشاد الآلاف من المتظاهرين على أبواب الخضراء، جرى التصويت على خمسة وزراء وُصفوا بالتكنوقراط، وحددت جلسة الـ 30 من نيسان لإكمال بقية الكابينة الحكومية المستقلة. إلا أن ما حدث كان العكس من ذلك، فقد هددت تلك الأحزاب بأنها لا تعترف بأي تغيير من خارج كتلها، وبخلاف ذلك فإنها لا تحضر جلسة التصويت، مما سيمنع تحقق النصاب، وهذا ما حصل، فاضطرت رئاسة البرلمان إلى رفع الجلسة البرلمانية.
لذلك اتجهت الأنظار صوب النجف الأشرف متأملين موقفاً حازماً من زعيم التيار، ولا سيما بعد نفاذ جميع المهل التي حددها دون تحقيق ما يسمو إليه، فخرج الصدر عبر مؤتمر صحافي أعلن خلاله اعتكافه لمدة شهرين احتجاجاً على استمرار المحاصصة، وبين أنه لا يُساند أي تشكيلة حكومية غير مستقلة، كما ودعا الشعب إلى الثورة، وعلى إثر ذلك سارع المتظاهرون إلى اقتحام المنطقة المحصنة ومن ثم توجهوا نحو قبة البرلمان، فدخولها لبضع ساعات قبل أن يتمّ سحبهم خارج المبنى نحو ساحة الاحتفالات وسط المنطقة الحكومية ومن ثم خارجها. وبهذا انقلبت المعادلة، فمن كان يحتمي داخل الحصون أصبح خارجها والشعب بات يتجول بداخلها، وبذلك انكسرت تلك الحواجز التي طالما أزعجت العراقيين وكانت صداً منيعاً لإيصال صوت المواطن. لكن البعض قد وجه انتقادات عدة منها، أولا: لا يجوز الاعتداء على نواب الشعب. ثانيا: على المتظاهرين احترام مؤسسات الدولة. ثالثاً: جرى الاعتداء على نواب واستثناء غيرهم، وهذا ما رأى فيه البعض أنه يولد استفزازية ويحسب لجهة دون أخرى. رابعاً: إن التيار الصدري لا يملك رؤيةً وطريقا واضحا للإصلاح وإنما ردود أفعال من زعيمهم على ضرورة الإصلاح دون معرفة خطتهم للإنقاذ. وعلى ضوء ذلك صدرت تبريرات لما جرى، ولا سيما من كتلة الأحرار، إذ أكّدت أن من دخل إلى البرلمان هم مئات الآلاف، ولا يمكن الحد من بعض التصرفات غير المحسوبة نتيجة غضب الجماهير واحتمال وجود بعض المندسين بينهم. وأدانت الاعتداء على بعض النواب، وفي الوقت نفسه وفرت الحماية لنواب آخرين، وجرى تأمين خروجهم بسلام. وإن طرحها لحكومة التكنوقراط المستقلة إنما هو حلقة أولية تتبعها خطوات عملية للمضي قدماً بخارطة الإصلاح بالتعاون مع الآخرين.
في ضوء ما تقدم يمكن الخروج بمجموعة من الاستنتاجات تلخّص ما حدث وما سيحدث مستقبلا:
1- حصول نقلة نوعية في التعبير عن المطالب والخروج عن المعتاد بعدما كانت العادة أن يتم التظاهر في ساحة التحرير وسط بغداد وتنتهي بنهاية اليوم دون استجابة. فما حدث مؤخراً هو زيادة الضغوط عبر تهديد مركز صناعة القرار.
2- إن تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين وعدم الاحتكاك معهم ولد ردوداً متباينة، فهناك من اتهمهم بالتهاون، وهناك من يرى في ذلك اتفاقا مابين العبادي ومنظمي التظاهرات من أجل إيجاد نوع من الضغوط على أعضاء البرلمان، وهناك من عدّه زيادة وعي للقوات الأمنية بصعوبة مواجهة مدنيين عزل, ورأي آخر يرى أنها شكلت دليل تضامن وشعور بالغبن حتى من القوى الأمنية من الواقع العراقي السائد، وإنهم وإن صدرت لهم أوامر بالمواجهة ربما لن يفعلوا ذلك؛ لأنهم يرون أنفسهم جزءاً من الشعب وما يقع عليه يقع عليهم.
3- بعض المتابعين فسروا اقتحام الخضراء ومجلس النواب بهذه الطريقة وانسحاب المتظاهرين إلى ساحة الاحتفالات ومن ثم خارج الخضراء على أنها دليل على إيصال رسالة مفادها أن الشعب في المرحلة القادمة ربما لا يكتفي بمجرد الدخول، وربما هذه الخطوة تمهيدية لمرحلة أخطر.
4- كان من الأفضل أن يرافق الاحتجاجات – وعلى مسار موحد – تحرك نيابي لحشد عدد محدد من أصوات النواب، ومن ثم سلوك طريق دستوري بإمكانه تمرير التعديلات الحكومية بسلاسة دون الانشغال بمشاكل جانبية لا تخلو من الشخصنة.
5- ظهور طروحات تتحدث عن إمكانية تشكيل حكومة إنقاذ وطني أو الذهاب باتجاه سحب الثقة من الرئاسات الثلاث وإعادة التشكيلة الحكومية، وهذه الطروحات تصطدم بمعوقات داخلية وخارجية كثيرة.
6- يصاحب كثرة المبادرات الإصلاحية غياب الحلول، وهذا يستدعي التوقف والمراجعة، ولاسيما مع تزمّت كل جهة برؤيتها ومبادرتها، مما يشتت الجهود دون الخروج بصيغة واقعية للحل.
7- يوحي المعلن من ردود الأفعال الخارجية، ولاسيما الأمريكية والإيرانية عن رغبة خارجية تدعم الرئاسات الثلاث، مما يولد زيادة في الضغط على الأطراف بضرورة عدم المساس بهذه المناصب.
خلاصة القول، أنه بعد الاعتراض الذي أبدته الكتل السياسية اتجاه اقتحام البرلمان، والمطالبة بمحاسبة المحرّضين والمسبّبين، وربما رفع الحصانة عن بعض النواب، وما رافقه من إقالة قائد الفرقة الخاصة المسؤول عن حماية المنطقة الخضراء، واتهامه بالتهاون مع دخول المحتجّين واستبداله بآخر، فضلا عن احتجاج الكرد وإصرارهم على عدم العودة إلى بغداد دون ضمانات ترتبط بحمايتهم، يرجح بأن السيناريو القادم ينذر بأن قمع المتظاهرين أو الصدام معهم ربما سيكون خطوة خطرة تؤثر على المشهد المعقد أصلاً، مع احتمال زراعة مندسين ما بين الطرفين، سواء في جانب المتظاهرين أم في جانب القوات الأمنية، لذلك ينصح أن يكون للعقلاء من السياسيين وصناع القرار الكلمة الفصل في إعادة البرلمان للاجتماع مجدداً، ومن ثم المضي بخطوات الإصلاح كما يريدها الشعب.