ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ قسم الدراسات الدولية
أيار/ مايو 2016
أعلنت المملكة العربية السعودية مؤخراً عن سلسلة من القرارات والإجراءات والتغييرات في مجلس الوزراء تهدفإلى تعبيد الطريق أمام تحقيق رؤية 2030 التي أعلن عنها منذ أيام وليّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان ووافق عليها مجلس الوزراء لتصبح بعد ذلك وثيقة توجيهية لسياسات المملكة خلال الأربع عشرة سنة القادمة.
فقد اجتمع المئات من المسؤولين السعوديين والمدراء التنفيذيين، فضلاً عن استشاريين أجانب نهاية فبراير/ شباط من العام الحالي، بأحد فنادق العاصمة السعودية الرياض، لبحث مستقبل الاقتصاد السعودي في ظل تراجع أسعار النفط، والتأكيد على خطة المملكة في المضي بالإصلاحات السياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن برنامج الإصلاح يبدو غامضا ومحفوفا بالمخاطر؛ لأنه يشتمل على بيع أصول، وزيادة في الضرائب، وخفض الإنفاق، فضلاً عن تغيير في أسلوب إدارة الدولة لاحتياطاتها المالية ودور أكبر للقطاع الخاص، إلا أن استراتيجية المملكة العربية وخطتها الاقتصادية للنهوض بالواقع السياسي والاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل ومعالجة الترهل والبيروقراطية في مؤسسات الدولة، هو ما يؤكد عزم المملكة على المضي بخططها الإصلاحية ومعالجة وضعها الاقتصادي. وهذه ليست المرة الأولى التي يتم التحدث فيها داخل المملكة عن مشاريع وخطط للتطوير دون أن تترجم إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع. لكن متابعين ومختصين يرون أن هذه المرة قد تختلف عن سابقاتها لعدة أسباب، أهمها الظروف الاقتصادية التي تمر بها المملكة، فضلاً عن تركز سلطة اتخاذ القرار والتنفيذ في مجلس واحد “مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية”، والذي يترأسه الأمير “محمد بن سلمان” شخصيا.
تأتي هذه التغيرات في مجلس الوزراء السعودي والإصلاحات الهيكلية التي تطال الإدارة في المملكة، انسجاماً مع رؤية المملكة التي طرحتها في وقت سابق للعام 2030، وهي خطوات واضحة لمعالجة الاقتصاد السعودي وعدم الاعتماد على النفط بشكل كبير وخلق صندوق سيادي للمملكة تستطيع من خلاله مواجهة التحديات السياسية والأزمات الاقتصادية، كالوضع العام التي تعيشه المملكة منذ أكثر من عام وتحديداً مع انخفاض أسعار النفط، وحربها في اليمن “عاصفة الحزم”، وإدارتها الإقليمية للصراع في سوريا لإسقاط نظام بشار الأسد، وصراعها الإقليمي المستمر مع إيران، فضلاً عن ظهور تنظيم “داعش” والتنظيمات الإرهابية التي تمثل تهديدا خطيرا على مستقبل المملكة السعودية ونظامها السياسي، والصراع السياسي الداخلي الذي تشهده المملكة بين العائلة المالكة بعد وفاة الملك عبد العزيز، كذلك تعد هذه التغييرات عاملا مهما لخلق المناخ الملائم للإصلاح ومكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، ومكافحة البيروقراطية، وهي المفردات التي أعلن عنها “الأمير محمد بن سلمان”، والتيتعني بأنه ينوي فتح معركة الإدارة من بابها الواسع رغم وجود معارضين لهذا التوجه من داخل الإدارة نفسها. فجاء البيان الملكي الذي أعلن فيه عن “إلغاء ودمج وترتيب اختصاصات العديد من الوزارات والأجهزة والهيئات العامة والمصالح الحكومية بهدف تركيز المسؤوليات ووضوحها وتسهيل الإجراءات لتوفير أفضل الخدمات بما ينسجم مع سياسة الدولة”. وقد تم تعديل اسم وزارة البترول إلى وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية، وإعفاء وزير البترول علي النعيمي – الذي تم تعينه مستشاراً في الديوان الملكي – وتعيين خالد الفالح (وزير الصحة) خلفا له، “والفالح هو الرئيس التنفيذي السابق لشركة أرامكو التي أعلن الأمير محمد بن سلمان عن طرح أقل من خمسة بالمئة من أسهمها للاكتتاب العام في سياق خطته لتطويرها، ولا شك أن وجود الفالح كرئيس سابق لها سيكون عنصرا داعما لعملية التطوير”. ويرى سبيستيان آشر “محرر الشؤون العربية في بي بي سي العالمية” أن ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يدير السياسة الاقتصادية في البلاد، وتغيير النعيمي بمثابة مؤشر على رغبته في إحكام سيطرته على النفط. أما الأنشطة المتعلقة بالكهرباء والصناعة فستكون من مشمولات وزارة الطاقة، كما ستتولى إدارة “البرنامج الوطني لتطوير التجمعات الصناعية”. وتم تغيير وتعديل أسماء بعض الوزارات بغاية تدقيق مهامها، وحصر المهام المتشابهة أو القريبة من بعضها في وزارة واحدة، والغرض من وراء ذلك إكسابها الفعالية اللازمة التي تجعل مختلف القطاعات تتحرك بنفس السرعة التي تتطلّبها رؤية السعودية للعام 2030.
وأعلن البيان الملكي أيضاً عن إنشاء “هيئة عامة للترفيه” يكون لها مجلس إدارة يعين رئيسه بأمر ملكي، و”هيئة عامة للثقافة”، ويكون لها مجلس إدارة يرأسه وزير الثقافة والإعلام.ومن الواضح أن إحداث هيئة عامة للترفيه وأخرى للثقافة هدفه تأكيد اتجاه المملكة للانفتاح والتخلص من تأثير الفكر المتشدد وتأثير هيئة الأمر بالمعروف التي ضيقت على السعوديين بشكل جعل أيّ شيء يختلف عن تفسيرها مناقضا للدين، بما في ذلك الترفيه والسياحة والثقافة.ويأتي إحداث هذه الهيئات بعد أسابيع من تقويض سلطة هيئة الأمر بالمعروف وتحديد دورها كجهة ناصحة دون أن تكون لها أيّ صلاحية تنفيذية مثلما كان في السابق، وهو ما شكى منه السعوديون بشكل واسع.فضلاً عن الخطوة المهمة التي اتخذتها المملكة بمشاركة المرأة في الانتخابات المحلية كمرشّحة، ما مكّن من صعود 20 امرأة.وقد شملت الرؤية الجديدة رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل السعودي من 22 في المئة حاليا إلى 30 في المئة. وهي خطوات تنتصر للاعتدال والانفتاح رغم معارضة المتشددين الذين ما يزالون يسيطرون على مواقع حساسة في المملكة، لكن وجود إرادة سياسية قوية هادفة للإصلاح سيجعلهم يرضخون للأمر الواقع.
وبموجب سلسلة القرارات التي أصدرها الملك سلمان بن عبد العزيز، تمت إقالة وزراء، فيما تولّى آخرون حقائب جديدة.وقد تم إلغاء وزارة المياه، وتعديل اسم وزارة التجارة والصناعة لتكون وزارة التجارة والاستثمار، وتعيين ماجد القصبي وزيرا لها بعد أن كان وزيرا للشؤون الاجتماعية.كما تم تعيين توفيق الربيعة، وزيرا للصحة خلفا لخالد الفالح، بعد أن كان الربيعة وزيرا للتجارة والصناعة سابقا، فضلاً عن تعيين ياسر بن عثمان الرميان، مستشارا في أمانة مجلس الوزراء بدرجة وزير.وقد تم دمج بعض الوزارات، من ذلك دمج وزارتي “العمل” و”الشؤون الاجتماعية” في وزارة واحدة باسم “وزارة العمل والتنمية الاجتماعية”.
ومن أبرز الأوامر الملكية ذات الشأن الاقتصادي، تعيين أحمد الخليفي محافظا لمؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي) بدرجة وزير، خلفا لفهد المبارك، (وكان الخليفي، يشغل منصب وكيل محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي للأبحاث والشؤون الدولية منذ مايو عام 2013).
وتعد هذه التغييرات بمثابةإجراءات لاحقة على خطة الملك سلمان منذ توليه رئاسة المملكة العربية،إذ أصدر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز مطلع هذا العام 25 أمرا ملكيا أجرى بموجبها تعديلات واسعة، تمثلت بتعيين الأمير محمد بن نايف (البالغ من العمر 55 عاما) وليا جديدا للعهد خلفا للأمير مقرن بن عبد العزيز، وتنصيب نجل الملك الأمير محمد بن سلمان، (البالغ من العمر 30 عاما) وليا لولي العهد، وتغيير وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل وإسنادها للوزير الحالي الشاب “خالد الجبير”، وهي رسالة هدف من خلالها الملك، أن لديه خطة تهدف لإشراك الشباب في المراكز القيادية، وأن الباب مفتوح للجميع في بناء مستقبل الدولة السعودية، حتى من خارج العائلة المالكة، وأن من يتولى المهام هم الفئة التي تتميز بالكفاءة.
هذه التغيرات تأتي ضمن الرؤية التي أعلن عنها ولي ولي العهد ضمن استراتيجية المملكة للعام 2030، إذ من المتوقع أن تعيش المملكة عام 2020 دون الحاجة إلى النفط، للتأكيد على ضرورة تنويع مصادر الدخل القومي للمملكة، وعدم الاعتماد على مصدر وحيد، وإشراك القطاع الخاص في عملية التطوير. وتهدف المملكة من خلال الرؤية الجديدة إلى خفض معدل البطالة من 11.6 في المئة إلى 7 في المئة من خلال إعادة تهيئة الموظف والعامل السعودي لدخول سوق العمل عبر إنشاء شراكات مع شركات القطاع الخاص وشركات مملوكة بنسبة عالية للحكومة، فضلاً عن ربط مخرجات التعليم باحتياجات السوق والرؤية المستقبلية واحتياجات السنوات القادمة، وإلى رفع نسبة مساهمة القطاع الخاص من الناتج المحلي إلى 65 في المئة، فضلاً عن زيادة نسبة الاستثمار الأجنبي من 3.8 في المئة حاليا إلى 5.7 في المئة. كذلك تسعى المملكة إلى زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 مليار ريال حاليا إلى تريليون ريال. وقد أشار الأمير محمد من خلال هذه الرؤية إلى نية المملكة الاستثمار في الصناعات العسكرية، مستنكرا أن تكون أكبر ثالث دولة تنفق عسكريا خلال عام 2015، وليس لديها تلك الصناعة. وأضاف أنه إذا استطاعت المملكة استيفاء طلبها العسكري داخليا بمعدل 30 أو 50 في المئة، فذلك سوف يخلق قطاعا صناعيا جديدا وسوف يدعم الاقتصاد بشكل قوي ويخلق وظائف كثيرة جديدة. وتهدف الرؤية الاستراتيجية أيضاً إلى زيادة نسبة تملك السعوديين لسكنهم الخاص من 47 في المئة إلى 52 في المئة بحلول عام 2020.
ويرى مراقبون أن تلك الإصلاحات وكذلك جذب الاستثمارات الأجنبية تحتاج إلى قطاع خدمات مدني قوي غير متوفر حاليا في المملكة، كما تحتاج إلى إجراء تعديلات على القوانين الحالية. ويضيف هؤلاء أن ذلك التغيير قد يصطدم بمعارضة شريحة من فئات المجتمع السعودي.
ويمكن القول أن هذه التغييرات ربما تعكس المزاج السياسي والصراع السائد بين العائلة المالكة سياسياً، ولاسيما وأن محمد بن سلمان يحاول إحكام سلطته السياسية والاقتصادية في رسم القرار واتخاذه من خلال “مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية” الذي يترأسه شخصياً، وعليه فإن تغيير وزير النفط “النعيمي” ربما لا يخلو من ذلك المزاج والصراع السياسي والدور الذي يلعبه محمد بن سلمان من خلال هذه التغييرات. إلا أن هذه التغييرات من الناحية الاقتصادية تبدو طبيعية جداً ليس للسعودية فقط، وإنما لكل الدول “أحادية الاقتصاد”، التي تعتمد على النفط بشكل كبير، ولاسيما بعد الانهيار في أسعار النفط العالمية وما سببته من عجز كبير باقتصاديات الدول النفطية، وخصوصا إذا ما عرفنا بأن السعودية وضعت خطة استراتيجية لسنة 2030، ووفق هذه الخطة ستستغني عن النفط بشكل كبير في غضون أربعة سنوات (أي في العام 2020)، ولذلك فإن هذه التغيرات هي طبيعية جداً لمعالجة الاقتصادي السعودي بغضّ النظر عن تداعياتها ودواعيها الوزارية واستحداث الهيئات. ولهذا فإن أغلب الدول النفطية اليوم تضع خطط واستراتيجيات مستقبليه لبلدانها بعد كارثة أسعار النفط العالمية منذ العام 2014، والعراق اليوم أيضاً مطالب بوضع خطة استراتيجية مرسومة للاقتصاد العراقي يفعّل من خلالها الاقتصاد غير النفطي وينوّع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، وإلا ستكون البدائل والنتائج خطيرة جداً على الدولة العراقية برمتها، ولاسيما مع تصاعد مخاطر الإرهاب الدولي المنظم وتفاقم الصراعات الإقليمية، وربما أيضاً اختلاف المزاج العالمي، ولاسيما الأمريكي وتداعيات الانتخابات الأمريكية وانعكاساتها على الدولة العراقية بشكل سلبي. أما قراءة التغييرات في مجلس الوزراء السعودي من الناحية الاجتماعية والدينية، فإنها تبدو للوهلة الأولى، وكأن المملكة عازمة بالفعل على تحجيم دور هيئة الأمر بالمعروف وربما إلغائها في السنوات القادمة، وتمكين المرأة السعودية وإعطائها دورا أكبر في المجتمع السعودي والتأكيد على دورها الفعال في بناء المجتمع، ومحاربة الفكر المتطرف والسلفي بشكل تدريجي، من خلال إنشاء الهيئة العامة للترفيه، وتحجيم دور هيئة الأمر بالمعروف التي تضيّق الخناق على السعوديين وغير السعوديين ولاسيما النساء، مما يعطي الانطباع العام على جدية المملكة العربية السعودية في المضي بخطتها الإصلاحية المرسومة للعام 2030، والاستغناء عن النفط وتفعيل القطاع الخاص والصناعة الوطنية والتأكيد على مخرجات التعليم بما يتناسب مع حاجة المملكة، على الرغم من مخاطر هذه الاستراتيجية في رفع الضرائب وتقليل الإنفاق ورفع الدعم الحكومي وغيرها من المخاطر.
لكن ومع هذا، سيبقى السؤال المطروح: هل هذه التغييرات هي تغييرات من أجل الوصول لرؤية 2030، وإنعاش الاقتصاد السعودي، وهل هي تغييرات كافية، أم هي تحركات سياسية وتغيير مواقع لا أكثر لمواجهة الضغوط السياسية والصراع داخل العائلة المالكة؟.