ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ قسم الدراسات الدولية
أيار/ مايو 2016
بدأ “العصر الأميركي” بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأخذت الولايات المتحدة مكانتها العالمية تتسع مع تطور دورها العالمي، ولاسيما السياسي والأمني ومساعدتها الاقتصادية لبعض الدول. وربما كانت أوروبا مركز السياسة الدولية في العالم لما يزيد عن ثلاثة قرون، غير أن الحربين العالميتين المدمرتين قد دمرتا القوى العظمى الأوروبية بالكامل، وقد تحدث علماء العلاقات الدولية عن هذه اللحظة بوصفها اللحظة التي انتقل فيها النظام العالمي متعدد القوى إلى نظام ثنائي القطبية، وفيها امتلكت الولايات المتحدة الأميركية القوة البحرية والجوية الأكبر في العالم، وقاعدة صناعة لا قرين لها، والقوة الوحيدة التي تمتلك الأسلحة الذرية آنذاك، واستطاعت تفكيك الاستعمار، ودعم إعادة البناء الأوروبي من خلال خطة “مارشال”، والتي تمتعت من خلاله واشنطن بالسمعة المقبولة في معظم دول العالم النامية والمتقدمة على حد قول عالم السياسة وأحد منظري المدرسة الواقعية (“ستيفن وولت” في مقالته “نهاية العصر الأمريكي”، المنشورة في جريدة “ذي ناشيونال إنترست”). كذلك لا ننسى الدور الأمريكي في مساعدة اليونان وتركيا من خلال مبدأ ” ترومان” في إنقاذ كلا البلدين واحتواء الاتحاد السوفيتي.
وقد أعادت “خطة مارشال” إحياء الاقتصادات المحلية الأوروبية،والتأكد من أن الأحزاب الشيوعية لن تصل إلى الحكم في هذهالدول. واستطاع الناتو أن يؤمن السلام الأوروبي ويردع ضغط القوة العسكريةالسوفييتية. وبهذا يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأميركية نجحت نجاحاً باهراً من خلال إنقاذ أوروبا المحطمة بعد الحرب واحتواء الاتحاد السوفيتي آنذاك، لتتجه بعدها إلى محاصرة السوفييت في الشرق الأوسط، إلا أن الشرق الأوسط ذات أوضاع ودلالات مختلفة عن أوروبا بالنسبة للرؤساء الأميركان والسياسة الأميركية. وقد ارتبط اسم الشرق الأوسط والعالم العربي بالرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية عن الحزب الجمهوري (دوايت آيزنهاور 1953– 1961)، من خلال مشروع أو مبدأ آيزنهاور (سياسة ملء الفراغ). وقد تجسد هذا المبدأ في الإعلان الصادر عن الكونغرس الأمريكي في العام 1956، والذي حدد الإطار العام للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، في المرحلة التي أعقبت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي هدف “مشروع آيزنهاور” أساساً إلى احتواء التمدد السوفيتي باتجاه المنطقة. ووفقاً لهذا المبدأ أو المشروع “فإن بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية المسلحة الأميركية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى، وهذا المساعدة إما على صعيد اقتصادي، بمساعدة دول شرق أوسطية على تنمية أحوالها الاقتصادية، وإما على صعيد عسكري باتخاذ تدابير عسكرية تشمل استعمال القوات الأميركية المسلحة “بتفويض من الكونغرس الأميركي”، لضمان وحماية الكيانات الإقليمية والاستقلال السياسي للدول التي تطلب هذا العون”. وبهذا فقد أرسا الرئيس آيزنهاور مبدأ التدخل في الشرق الأوسط ضمن المساعدة العسكرية والاقتصادية للدول، بعد أن ضمنت الولايات المتحدة أمن أوروبا ومساعدتها اقتصاديا للنهوض بوجه التمدد السوفيتي عن طريق مشروع مارشال. وكانت لبنان في عهد “كميل شمعون” الدولة العربية الوحيدة التي التمست المساعدة العسكرية في إطار مشروع آيزنهاور، عندما تفاقمت الاضرابات فيها. لكن وباستثناء مدة حرب الخليج الثانية وإخراج القوات العراقية من الكويت بقرار أممي طبقاً لقرارات مجلس الأمن، لم تستطع الولايات المتحدة مساعدة أي دولة من دول الشرق الأوسط أو دولة عربية في إعادة بناء نظامها السياسي والاقتصادي والأمني بعد تغيير نظامها السائد أو الاطاحة بأحد رؤسائها، كما حدث في أفغانستان والعراق في عهد الرئيس “بوش الأبن”، وكذلك الحال بالنسبة لدول الربيع العربي باستثناء تونس (ليبيا، اليمن، وسوريا وحتى مصر)، أما البحرين فالحالة معها مختلفة!.
أفغانستان والعراق
بالطبع، لم تؤدِّ الحربان في العراق وأفغانستان إلا إلى الإسراع بتهديد الهيمنةالأميركية، والتأكيد على حدود القوة الأميركية (كما يقول ستيفن وولت). وتكلفة الحرب العراقية وَحْدها ستزيد على 3 تريليون دولار، إذا ما حسبت كل التكاليف، ومع كل هذه التكاليف والخسائر الاقتصادية “الأميركية والعراقية”، فضلا عن الخسائر البشرية، إلا أن العراق ما زال يبحث عن مستقبله السياسي، وما زال يعاني من الفساد السياسي والمالي وعدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، فضلاً عن تهديد تنظيم “داعش”، وتفككه اجتماعيا، كذلك الفشل في المشروع التوافقي الذي أرسته الولايات المتحدة لإدارة الدولة العراقية، والفشل السياسي لكل القوى السياسة العراقية، التي عجزت عن إيجاد مشروع وطني حقيقي، كل هذا الفشل هو بالنتيجة فشل للولايات المتحدة الأميركية التي رعت هذا النظام بعد عام 2003، ومع كل هذا الخسائر والتضحيات ربما تكون النهاية، وجود دولةشبه ديمقراطية غير مستقرة بكافة جوانبها “ومعادية بدرجة كبيرة لإسرائيل، وعلى الأقل متحالفة معإيران” على حد قول الخبراء الأمريكيين. وإن طهران هي المستفيد الرئيس من هذه المغامرة غير المحسوبة،وهو ما لم يكن في حسبان إدارة “بوش الابن” حين زجت ببلادها في هذه الحرب.
أما بالنسبة للحرب الأفغانية، فمن المتوقع أن تنتهي نهاية أسوء حتى لو حاول قادةالولايات المتحدة الأميركية أن ينسجوا منها رايات النصر؛ فقد تمكنت إدارة أوباما من الإمساكبـ”ابن لادن”، ولكن محاولتها القضاء النهائي على طالبان وبناء دولة على النمط الغربيفي أفغانستان باءت بالفشل، حتى وأن أبقت الولايات المتحدة جنودها هناك لعشرات السنين.
وإذا كان النصر يتحدد بتحقيق المرء لأهدافه الرئيسة، وإنهاء الحرببتعزيز الأمن والازدهار، فيجب أن نعد، “أن كلَّا الصراعين في العراق و أفغانستان منالهزائم الماحقة”.ولكن حربي العراق وأفغانستان – على حد قول “الأميركيين” – لم تكونا جراحًا تسببنا فيها بأنفسنا فقط، لكنهاكانت مؤشرات بالغة على حدود القوة العسكرية الأميركية، فلم يكن هناك شكّ كثيرمن قبل “حول قدرة الولايات المتحدة” على الإطاحة بحكومات ضعيفة نسبيًّا ولاتتمتع بشعبية، كما هو الحال في بنما وأفغانستان والعراق وأخيرًا ليبيا، ولكن الحربفي أفغانستان والعراق أظهرت أن قدرات أميركا العسكرية المنتشرة حول العالم لاتصلح لبناء نظم سياسية ذات كفاءة فور إطاحتها بالحكومات المعادية (وواقع العراق وأفغانستان المعاصر خير دليل على هذا الطرح). وفي المناطقالتي ما زالت الهويات التقليدية قوية، وأن التدخل الأجنبي لا يتمتع بقبول طويل، ومعادية للنمط الغربي،فإن القوة العظمى مثل الولايات المتحدة ستواجه مصاعب في الحصول على النتائجالسياسية المرجوة.ويذهبالبعض ليقارن وضع أميركا بالامبراطورية البريطانية في نهاية القرن التاسع عشر؛في وضع حروب أفغانستان والعراق كمعادل لحرب “البوير” البريطانية التي كانت شاقةومدانة أخلاقيًّا.
فلسطين
يتضح الفشل الأميركي في الشرق الأوسط أيضا، بالعجز المتكرر في حل النزاع الفلسطينيالإسرائيلي. فقد مرّ أكثر من عقدين منذ توقيع اتفاقات “أوسلو” في سبتمبر 1993،وقد كان للولايات المتحدة احتكار على مسار عملية السلام منذ هذا اليوم الواعد،ومع ذلك لم تلاقِ جهودها إلا الفشل الكامل بما يبرهن بدون شك أن واشنطن غيرقادرة على أن تمارس دورها كوسيط فعال ونزيه. وربما جددت دعوة أوباما إلى دولتينلشعبين في خطابه الذي ألقاه إلى العالم العربي في يونيو 2009 بعض الأمل، ولكنتراجعه السريع في مواجهة العنت الإسرائيلي والضغوط السياسية الداخلية أدت إلىانتكاسات في مصداقية الحكومة الأميركية.
دول الربيع العربي
لم يكن الربيع العربي ربيعاً بالمعنى الحقيقي، بقدر ما كان خريفاً، أسقطت فيه الأنظمة السياسية القائمة “والمحافظة قدر المستطاع على ما هو كائن”، دون أن يأتي بجديد أو بديل ناجح، وهو دليل على ضعف دور الشعوب العربية في خلق أنظمتها السياسية طبقاً لرغباتها وميولها. وربما كان العامل الخارجي والتدخل الأجنبي المعتاد هو ما تعوّل عليه شعوب الربيع العربي وشعوب المنطقة برمتها. وكذلك لم يكن الربيع العربي مفاجئاً للولايات المتحدة، ولكن ردة الفعل الأميركية أظهرت قدرتها المتضائلة على التدخلفي الأحداث لصالحها. وبعد محاولتها اليائسة لإنقاذ نظام مبارك، سرعان ما وضعتإدارة أوباما نفسها في جانب القوى التي تمثل تحدياً للنظام الإقليمي الحالي. وقدألقى أوباما خطبة قوية لدعم التغيير، ولكن أحدًا في المنطقة لم يهتم بها. وفي الحقيقة،باستثناء جزئي في ليبيا، فإن نفوذ الولايات المتحدة في هذه المسألة هو متواضع فيأحسن الحالات. فأوباما لم يستطع منع السعودية من إرسال قواتها إلى البحرين، حيثعملت الرياض على قمع مطالب الإصلاح. كما لم يفلح في إقناع الرئيس السوريبالتنحي.كما فشلت الولايات المتحدة في التأثير على مجريات الأمور بمصر في نظامما بعد مبارك، أو على إنهاء النزاع في اليمن، وغيرها من الملفات المهمة في الشرق الاوسط.
أولاً: ليبيا
مثل نظام الحكم في ليبيا في ظل حكم القذافي تحديا في مرات عدة للولايات المتحدة الأميركية، وربما قضية “لوكربي” ما زالت عالقة بذهن وعقل الأمريكيين والغرب بشكل عام، فضلا عن علاقة “معمر القذافي” بالغرب والشخصية المثيرة للجدل. وعلى ما يبدو بأن تدخل الإدارة الأميركية في ليبيا لم يكن موفقاً، وقد أتى بنتائج معاكسة، فضلاً عن فشل المساعي الأممية فيها، حتى مع التقدم الإيجابي في المفاوضات الأممية ومحاولة فض النزاع بين الأطراف الليبية. إلا أن ليبيا أصبحت اليوم مستنقعا كبيرا وبيئة أمنة لتنظيم “داعش” وأخواتها، في “سرت” وباقي المحافظات الليبية. وليبيا الحالية تقدم دليلا جديدا على الفشل الأمريكي في المنطقة، حتى وإن تعكزت الإدارة الأميركية على غيرها أو على بعض الحجج. ولعل هذا الطرح هو ما لخصه أحد المشاركين في (“الندوة الحوارية التي استضافها مركز بروكنغز في الدوحة” أواخر العام الماضي حول السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط خلال السنة الأخيرة لإدارة الرئيس باراك أوباما”)، والذي أشار فيها “إلى أن إدارة أوباما قائمة على مبادئ متناقضة؛ لأن بداية ولاية الرئيس أوباما كان هدفها تحويل تركيز السياسة الخارجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى آسيا. ولكن عندما بدأ الربيع العربي، وقعت الإدارة الأميركية فريسة لإغراء محاولة قولبة الأحداث من أجل تحقيق المزيد من المصالح الأميركية. وإن تدخل الإدارة في ليبيا أحدثت نتائج عكسية على المدى الطويل، الأمر الذي جعل أوباما متردداً إزاء التدخل العسكري المباشر في سوريا. ووجد أوباما نفسه مرة أخرى أمام أهداف متناقضة، فهو يريد إزالة الرئيس بشار الأسد من السلطة، ولكن ليس على حساب السماح للمتطرفين بملء الفراغ الرئاسي جراء إزالته”.
ثانياً: سوريا
عززت الأحداث السورية وتفاقم أزمتها السياسية من فشل الإدارة الأميركية وضعف استراتيجيتها في المنطقة. فبعد أن دفعت واشنطن الشعب السوري بمظاهرات بهدف إسقاط النظام السوري وطالبته بالتنحي، وعدّت العدة مع حلفائها في المنطقة “دول الخليج وتركيا” إلى تسليح المتظاهرين، وتشكيل نواة المعارضة السورية، وسمحت لدول الخليج وتركيا ولاسيما السعودية بأن تشكل فصائل مسلحة تحمل أجندتها السياسية والإقليمية وتدفع بها إلى مواجهة الجيش السوري بهدف إسقاط النظام، وأخذت على عاتقها “الولايات المتحدة” تسليح وتمويل عناصر “الجيش السوري الحر”، وبموازاة ذلك كان النظام السوري يقاتل ضد شعبه بجيشه وحلفائه في المنطقة (إيران وحزب الله، فضلاً عن وجود بعض الفصائل الشيعية المساندة للنظام)، مما أدى إلى تعقد الأزمة السورية، حتى تحولت إلى حرب أهلية، انبثق من خلالها تنظيم “داعش” وأخواتها، فضلاً عن الحركات الإرهابية والمتطرفة الأخرى التي أخذت تنتعش سياسياً واقتصادياً. وربما بروز تنظيم “داعش” بهذا الحجم هو بسبب تفاقم الأزمة السورية، التي شكلت له بيئة خصبة وجاذبة للمتطرفين من كل بقاع العالم، وهو بالنتيجة فشل أمريكي للتعامل مع الأزمة السورية، وقد تجلى هذا الفشل فيما بعد بعزوف الولايات المتحدة عن وقف التسليح لعناصر الجيش الحر وفصائل المعارضة الأخرى؛ لأنها علمت بأن عناصر هذا الجيش التي سلحته ومولته، قد ذاب بين الفصائل العسكرية المتطرفة والحركات الإرهابية، وأن لا وجود لهذا الجيش على أرض الواقع، سوى عناصر محدودة جداً وأن تسليحها له يذهب إلى التنظيمات الإرهابية الأخرى. كذلك تجلى هذا الفشل بالتدخل العسكري الروسي الذي نشّط النظام السوري وبعث به روح الحياة من جديد، وأجبر الولايات المتحدة الأميركية على خيار الحل السياسي وليس العسكري. وحتى هذا الخيار الأخير ما زال متعثراً على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الأمم المتحدة ومبعوثها الأممي “دي ميستورا” بهذا الشأن، وهو نفس الفشل السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة وساسة البيت الأبيض المتوارثة في المنطقة؛ لأنها تسببت ليس في تفاقم الأزمة السورية فقط، وإنما أدت إلى ظهور تنظيم “داعش” واحتلاله لأجزاء واسعة من الأراضي السورية ومن ثم اجتياحه للأراضي العراقية، وأدت إلى قتل وتهجير الآلاف من الشعب السوري، وتفاقم أزمة اللاجئين إلى أوروبا، فضلا عن تفكيك الدولة السورية وضبابية مستقبلها السياسي والاجتماعي، وتزايد النفوذ الروسي في المنطقة المنافس للولايات المتحدة.
ثالثاً: اليمن
أحداث ربيع اليمن، والإطاحة بالرئيس “علي عبدالله صالح”، وتفاقم أزمته السياسية بعد اجتياح “أنصار الله الحوثيين” العاصمة اليمنية وبعض المحافظات الأخرى، ومن ثم تدخل السعودية بحربها ضد الحوثيين بما سميه بـ “عاصفة الحزم”؛ لاسترداد الشرعية السياسية للرئيس هادي (على حد قولهم)، ليست بالبعيدة عن الدور الأمريكي واستراتيجيته الفاشلة في المنطقة ولاسيما في الدول العربية؛ لأن السياسة الأميركية تدار من خلال عدسة سياستها اتجاه السعودية، ولأن السعودية لم تقدم على فعل سياسي بهذا الحجم “شنّ الحرب على اليمن” لولاء الدعم الأميركي. ولربما دعمت الولايات المتحدة السياسة السعودية في اليمن لتوصل رسالة، بأنها لم تتخلَ عن حليفتها التقليدية “السعودية” بعد الاتفاق الإيراني، “وهي رسالة كانت المملكة بحاجتها الفعلية”، ولاسيما بعد الحديث عن التقارب الأمريكي – الإيراني. وبهذا اشتركت الولايات المتحدة مع المملكة السعودية بهذا الفشل في اليمن. فـ “عاصفة الحزم” لم تحقق شيئا ملموسا لحد الآن، ولم تحقق الهدف الذي أعلنت من أجله، على الرغم من مرور أكثر من عام على انطلاقها. ولعل مفاوضات الكويت بين الحوثيين وجماعة الرئيس هادي، هي فشل آخر يؤشر على الفشل الأمريكي – السعودي؛ لأن خيار المفاوضات كان مطروحاً أمام السعودية “وجماعة هادي” منذ بداية الأمر وقبل تفاقم الأزمة، إلا أن صانع القرار السعودي ربما لا يملك قراراً سياسياً بمفرده دون خضوع الأمر للآخرين.
إيران والاتفاق النووي
تنامي الدور الإيراني، ونفوذ إيران في المنطقة، وإدارتها لملفات (سوريا، العراق، اليمن، لبنان)، فضلاً عن تطوّر برنامجها النووي، أجبر الولايات المتحدة وإدارتها السياسية والدول الأوروبية على إنجاح الاتفاق النووي بين إيران ودول الخمسة زائد واحد، وربما يعده البعض “الاتفاق النووي” هو الإنجاز الأكبر لإدارة أوباما، إلا أنهم يحذرون من إساءة تفسير هذا الاتفاق كدليل على القوة الإيرانية أو كدليل على تغيير في سياسة أميركا الخارجية في المنطقة؛ لأن إيران سعت لتأمين الاتفاق بسبب حالة اقتصادها المزرية ليس إلا “على حد قولهم”. وعلى الرغم من كل التفسيرات وعلى اختلافها، إلا أن الدور الإيراني في المنطقة هو تأكيد ودليل فشل آخر على فشل الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في العراق وسوريا، فضلاً عن لبنان واليمن. ولذات الأسباب وبسبب إبرام الاتفاق النووي أيضاً مع إيران، وتنامي دورها في المنطقة ولاسيما في سوريا، وفشل أميركا في إيجاد حل للازمة السورية وتنحي الأسد عن السلطة، تعكّر صفو العلاقات الأميركية السعودية، وقد كان مشروع قانون الكونغرس الأمريكي المقدم ضد السعودية مؤخراً لمحاكمة المتورطين في أحداث 11/سبتمبر دولياً، تعكس صفة هذه التوتر بين البلدين.
وعليه، فإن واشنطن تتعاطى مع مصالحها الاقتصادية في العالم تحت عنوان “الأمن القومي”، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط؛ لتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية والحفاظ على ما هو كائن قدر المستطاع، والحفاظ أيضاً على أمن إسرائيل. وحتى حرب الخليج الثانية، وهي الحالة الوحيدة التي نجحت فها واشنطن في إعادة النظام والشرعية لدولة عربية، لم تكن بعيدة عن المصالح الاقتصادية والسياسية لأميركا؛ لأن الحصول على النفط الكويتي حينها، وتأمين مصالحها الاقتصادية في الدول المجاورة، ولاسيما في السعودية بعد أن برزت مخاوف أميركية – سعودية من احتلال صدام حسين للأخيرة، كانت حاضرة في عقل صانع القرار الأميركي آنذاك. أما الأسلوب الحاضر والمعتمد في منطقة الشرق الأوسط من الحروب الأميركية، فيقوم على مبدأ خلق (الدولة الفاشلة)، وهذا ما لمسناه في أفغانستان والعراق بالتدخل العسكري المباشر، على الرغم من إطاحتها بأنظمة ديكتاتورية ومتطرفة في هذين البلدين، ليكون البديل الدولة الفاشلة (دولة المكونات والطوائف، دولة القوى السياسية والأحزاب، دولة شعوبية ليست دولة مؤسسات). وحتى لا نخرج من فرضية المقال وانسجامها مع المضمون، يمكن إرجاع أسباب هذا الفشل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط إلى عدة أسباب، منها:
- علاقة أميركا بإسرائيل، جعل منها حليفا غير موثوق به في المنطقة، حتى مع العلاقة التي تربطها بحلفائها التقليدين “دول الخليج”، هي علاقة غير نزيهة وغير موثوق بها، لكن البديل ربما يكون غير متوفر لهذه الأنظمة “الأنظمة الخليجية”.
- لم تعمل الإدارة الأميركية على إيجاد ديمقراطيات حقيقية بالشرق الأوسط، وإنما ديمقراطيات متوافقة قدر المستطاع مع مصالحها في المنطقة.
- هدف الولايات المتحدة بالشرق الأوسط مرتبط بمشاريعها ومصالحها الحيوية، ولذلك أرادت أميركا الحفاظ على الوضع الشرق أوسطي قدر المستطاع.
- مواجهة الإسلام الراديكالي والحركات الإرهابية والمتطرفة قوضت من عملية نجاحها السياسي في المنطقة.
- لم تتعامل أميركا مع الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل على أنها أنظمة سياسية حليفة أو أنهم حلفاء حقيقيون يمكن الوثوق بهم.
- تقويض دور شعوب الشرق أوسطية في تغيير أنظمتها السياسية من قبل الولايات المتحدة، واعتمادها على الأنظمة القبلية.
هذه الأسباب وغيرها، فضلاً عن الأسباب الداخلية الأميركية، ولاسيما تلك المتعلقة بذهن صانع القرار الأمريكي أو من يتربع على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، قد تكون أسبابا أخرى للفشل الأمريكي في المنطقة. وعليه، فأميركا فشلت في الشرق الأوسط بشكل كبير وهي غير قادرة على وضع حد لحالة عدم الاستقرار في المنطقة، وعجزها الأخير يتبين في عدم قدرتها على بلورة استراتيجية واضحة المعالم لمواجهة تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وحتى النجاحات الأخيرة للقوات الأمنية العراقية وقوات الجيش السوري، هي ليست بسبب دور واشنطن أو دور تحالفها الدولي ضد التنظيم المذكور، بقدر ماهي جهود ذاتية تتعلق ببسالة وتكاتف الجهود العسكرية بين الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي ومن يساندها في العراق. أما في سوريا، فهي بسبب الدور الروسي الذي أعطى الأسبقية وعنصر المباغتة للجيش السوري. ولهذا، فحتى الرئيس الأمريكي القادم الذي سيخلف أوباما، سوف يعاني في منطقة الشرق الأوسط بغضّ النظر عمّن يكون “جمهوري أم ديمقراطي”، ولاسيما في تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار، ومواجهة بلادها لتنظيم “داعش”، وعجزها عن إيجاد استراتيجية واضحة المعالم لمواجهة التنظيم الإرهابي، وبخاصة إذا ما عرفنا أن الصوت الداخلي في أميركا يؤكد على إمكانية تقليل التزاماتها فيما وراء البحار للتركيز على بناء الأمة في الداخل، بدلاً من أن تستمر في تشكيل العالم كما كان الأمر في الماضي. وعليه، يمكن أن نضع تساؤلاً بديهياً: لماذا نجحت أميركا في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على الرغم من حجم الدمار الذي تعرضت له أوروبا، وتواضع الإمكانات الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة آنذاك مقارنة بما هي عليه الآن؟. ولماذا لم تنجح في الشرق الأوسط على الرغم من توفر الإمكانات السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وللمنطقة نفسها؟. فأميركا هي أميركا. لماذا تفشل بشكل متكرر في الشرق الأوسط؟. ولماذا أوجد التدخل الأميركي في المنطقة الإرهاب والتطرف؟. وبهذا يمكن أن نبرهن فرضية المقال مع المضمون، ويمكن القول أن (أميركا فشلت في الشرق الأوسط).