الكاتب: رانج علاء الدين (Ranj Alaaldin)
9 آيار 2016
ترجمة بتصرف وعرض: م. د. حسين أحمد السرحان
رئيس قسم الدراسات الدولية/ مركز الدراسات الاستراتيجية
في البداية يشير الكاتب إلى أنه خلال شهر نيسان 2016، شهد العراق وضعا أكثر قلقاً بفعل خروج مئات الآلاف من المحتجين إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم اتجاه العملية السياسية الفاسدة والمختلة، وتوّجت تلك الاحتجاجات باقتحام واحتلال مبنى البرلمان العراقي في نهاية شهر نيسان/2016 من قبل أتباع رجل الدين مقتدى الصدر بعد إلقائه الخطاب التصعيدي الذي دعا فيه إلى “الثورة الشعبية الكبرى لإيقاف الفساد”، حسب رأي الكاتب.
ويؤكد الكاتب أن الصدر أصبح صوت الطبقة الدنيا من الشيعة العراقيين مستثمرا إرث والده محمد محمد صادق الصدر، والذي أسس قاعدة اجتماعية مهمة تابعه له خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، إذ عانى السكان المعدمون من العراقيين الشيعة من قمع النظام البعثي والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على حد سواء.وكما أن والده عمل ضد نظام البعث المسيطر على الدولة آنذاك، حشد مقتدى الصدر مئات الآلاف من مناصريه والكثير من العراقيين الآخرين ضد الدولة العراقية الحالية. وكما حصل مع والده، واجه مقتدى الصدر وتحدى شرعية حكم منافسيه الشيعة،حيث إن التيار الصدري استنكر تاريخيا النخبوية الخاصة بهم.
وقد أثبت رجل الدين مقتدى الصدر بالتأكيد أنه ما يزال الشخص القائد الذي يمكنه تحشيد الجماهير والذين يستطيعون – احتمالا – تسريع برنامج الإصلاح الذي بدأ به رئيس الوزراء حيدر العبادي، والذي حاول تطبيقه وسط معارضة شرسة من منافسيه الأقوياء الذين لهم فائدة ومصلحة في استمرار الوضع الراهن.
ومن جهة أخرى، أكد الكاتب أن مقتدى الصدر ليس منقذ العراق. فهو مشترك في منظومة الحكم الحالية – عبر الكتلة السياسية الخاصة به – التي ساهمت باختلال الحكم الذي عانى منه العراق لأكثر من عقد مضى، وجهوده في التعبئة ترتبط بإعادة إنعاش أهميته السياسية التي تضاءلت خلال مسار الحرب ضد ما يسمى بـ “الدولة الاسلامية” ISIS بسبب صعود أطراف شيعية فاعلة أخرى تتمتع بإشادة واسعة النطاق للنجاحات التي يحققوها في المعركة ضد الإرهابيين. وأضاف: إن مقتدى الصدر أيضا مستمر بقيادة فصائله المعروفة بـ “سرايا السلام” (Peace Brigades)ووجود هذه الفصائل وغيرها لايضعف حكم القانون والعملية الديمقراطية التي يريد مقتدى الصدر علنا تقويتها فحسب، بل يعمق الحكم الذاتي لتلك الفصائل المسلحة. وسرايا السلام هم نسخة معدلة للمسرّحين مما أُطلق عليهم “جيش المهدي”، وهو الذي شكله الصدر كردّ للغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وبعباردة أخرى، فإن العراق لايمكنه تحقيق إصلاح وضع تلك الفصائل إلى أن يتم حلها أو دمجها في جيش مؤسسي.
بعد ذلك يؤكد الكاتب أن الرجل الوحيد الذي يمكنه إنقاذ العراق هو آية الله العظمى السيد علي السيستاني. وعلى عكس الاستقطاب الذي يحظى به مقتدى الصدر، يعد السيستاني على نطاق واسع في العراق كرجل مصالحة. فهو عمل على مدار 87 سنة رجل دين موقّر، وهو قائد العالم الإسلامي الشيعي، وتشكل طروحاته خياراً حاسماً بشأن سلطة النخبة العراقية الحاكمة الفاسدة وضعف المؤسسات التي أصابها الشلل بفعل الانقسامات الطائفية والإثنية.
ويؤكد الكاتب أنه في الوقت الذي تضاءلت فيه سلطة النخب والحركات السياسية والآيديولوجيات، كان لآيات الله العظمى قوة هائلة باستمرار؛ بسبب قيادتهم لشبكة واسعة من المؤسسات المحلية والوطنية التي تمكنهم من الخوض في السياسة والسلطة بطريقة لا مثيل لها.
وهنا يذكر الكاتب عدة أمثلة لدور المرجعية الدينية في النجف الأشرف ومواقفها اتجاه الأحداث السياسية في العراق. ففي عام 1960 على سبيل المثال، حول آية الله محسن الحكيم المدّ الجماهيري ضد الشيوعيين العراقيين وبقوة كبيرة عبر إصدار فتوى حرم فيها الانتماء لعضوية الحزب الشيوعي العراقي، وهذا كان البداية لنهاية الشيوعية في العراق التي تراجع نفوذها بفعل المؤسسة الدينية الأكثر حزما والسياسات القمعية للدولة.
كما حشدت المؤسسة الدينية في العراق أعدادا كبيرة من العراقيين للاحتجاج ومواجهة الرئيس عبد السلام عارف في أواسط عقد الستينات من القرن الماضي، والذي تعرض للهجوم لطائفيته وتهميشه للشيعة. هذه الاحتجاجات لم تؤد إلى حدوث ثورة، لكن الطبقة الدينية اكدت نفسها كمحرك قوي للمجتمع الشيعي المنقسم تقليديا يمكّنها الخوض في السلطة والسياسات في الدولة العراقية الحديثة.
في عام 1958، لعبت المؤسسة الدينية الشيعية دورا مؤثرا ومباشرا في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية (المجموعة الإسلامية الاجتماعية – السياسية الشيعية الرئيسة)، وهو اليوم الحزب الحاكم. وعمل الحكيم بصفة راع للحزب، وأبناؤه كانوا – جنبا إلى جنب مع أعضاء من طبقة رجال الدين – من بين أعضائه المؤسّسين.
خلال المرحلة ذاتها أصدر الحكيم فتوى حرم فيها قتل الأكراد. ووفقا لبحث خاص بالكاتب تضمن مقابلات مع رجال دين شيعة وأعضاء في القوات المسلحة العراقية وجنود شيعة في الجيش العراقي أطاعوا الفتوى من خلال غض النظر عن ضرب الأهداف الكردية عمدا، وبالتالي قاد ذلك إلى تقويض جهود الحكومة العراقية التي أعطت أوامر للقضاء على الحركة الكردية في كردستان العراق.
كذلك تحدت المؤسسة الدينية حزب البعث عندما جاء إلى السلطة في عام 1968. وأراد نظام البعث قمع نفوذ وتأثير المؤسسة الدينية لكنه فشل بسبب قدرة المؤسسة الدينية للعمل باستقلالية عن الدولة. وهي تتمتع باستقلالية مالية (كبار رجال الدين يستلمون التبرعات المعروفة بالخمس من أتباعهم داخل وخارج الحدود)، ويمكن أن تولد مئات الملايين من الدولارات لتمويل نشاطاتها. وتشرف أو تتربع المؤسسة الدينية أيضا على مجموعة من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، والتي تمكّنها من توسيع قاعدتها الاجتماعية وحشد أعداد كثيرة من الناس لأغراض سياسية.
بعد القمع الجماعي للمكوّن الشيعي في أواخر عقد الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن الماضي، وعلى الرغم من تفكيك شبكة المعارضة الشيعية، كان نظام صدام حسين البعثي ما يزال يُواجَه من قبل رجال الدين وأتباعهم، وهو ما أدى إلى الانتفاضة الجماهيرية في 1977 و 1979، وهذه الأخيرة نجمت عن الثورة الإيرانية في السنةنفسها. وخلال الحرب مع إيران في عقد الثمانينات، حاول النظام – كما تُظهر سجلات حزب البعث – ترهيب وإكراه آية الله العظمى أبي القاسم الخوئي الذي سبق السيستاني على إصدار فتوى بشرعية الحرب ضد إيران. لكن المحاولة فشلت، وفي النهاية تعرقلت جهود النظام لتحشيد الدعم الشيعي لصالح الحرب ضد الفرس شركائهم في الدين عبر الحدود، كما يشير الكاتب.
وبعد حرب عام 2003 تضمنت تدخلات السيد السيستاني الضغط على الولايات المتحدة والمسؤولين العراقيين لضمان تشكيل جمعية منتخبة تولت كتابة دستور جديد للبلاد، خلافا لرغبة الولايات المتحدة والآخرين الذين سعوا لعملية الباب المغلقة. كذلك خاطب السيستاني الفصائل الشيعية في عام 2005 لضمان دخولها الانتخابات البرلمانية ككتلة واحدة؛ خوفا من الاقتتال الداخلي بين الجماعات الشيعية المختلفة ومليشيات التطرّف السني التي تضمّ البعثيين والقاعدة في العراق. وفازت الكتلة الشيعية ومنعت إعادة البعث.
في عام 2006 ساعد السيستاني – على الرغم من عدم تمكنه بإيقافها نهائياً – على احتواء موجة جديدة من العنف الطائفي في العراق أعقبت تفجير تنظيم القاعدة لمرقد العسكريين في سامراء، وهو المرقد الشيعيالمقدس في المدينة التي يهيمن عليها السنة من سامراء. ولعب السيد السيستاني دورا مهما في الحد من إراقة الدماء عبر الدعوة إلى الوحدة والاعتدال، وضغط على المسؤولين العراقيين والأمريكان بانتظام لإنهاء الصراع، وهذا لم يمنع العراق من الانزلاق إلى الحرب الأهلية، ولكن تدخلات السيد السيستاني ساعدت بالتأكيد في كبح الفصائل الشيعية ومنعها من ارتكاب إبادة جماعية ضد السكان السنة، وكان يمكن أن تكون الأمور أسوأ بكثير في حالة غيابه ودون جهوده لإنهاء الصراع.
وفي الآونة الأخيرة (حزيران 2014) أصدر السيد السيستاني فتوى داعيا فيها كل الرجال القادرين للدفاع عن بلدهم بعد انهيار الجيش العراقي وسيطرة تنظيم “داعش” على الموصل ومدن وبلدات عراقية أخرى. إذ تشكلت قوة قوامها 100000 مائة ألف مقاتل من المقاتلين الشيعة مع عدد محدود من السنة اندمجت سوية لتشكل ما يسمى اليوم بالحشد الشعبي (قوة الحشد الشعبي Popular Mobilization Force, or PMF )، والتي ساعدت على إيقاف “داعش” ومنعه من التوسّع بشكل أكبر.
وفيما يخص المظاهرات الشعبية، أكد الكاتب أن السيد السيستاني أيد التظاهرات الشعبية التي حدثت السنة الماضية والداعمة لبرنامج الإصلاح الذي طرحه العبادي. لكنه أنهى ارتباطه النشيط مع حملة الإصلاحات للتخلص من الإحباط مع الحكومة. كما أظهر أيضا استياءه من الحكومة من خلال تركه الخطبة السياسية الأسبوعية، وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل العراق.
يؤكد الكاتب أنه في غياب السيد السيستاني، فإن الشخصيات البارزة المستقطبة للجماهير مثل الصدر ورئيس الوزراء السابق السلطوي المثير للجدل نوري المالكي سيملؤون المجال، كما هو حال الجماعات الشيعية المسلحة مثل عصائب أهل الحق وكتائب بدر الذين استغلوا فتوى السيد السيستاني وملئوا الفراغ في ظل الحرب ضد “داعش” الإرهابي.
ولكن هذا لا يعني بأن السيد السيستاني قد تخلى عن الوضع أو رفع يده، وما يزال بالإمكان التراجع عن قراره. ما يزال الفاعل الوحيد الذي بإمكانه إنقاذ البلاد. وقد ترأس مؤسسة الحوزة، وهي مؤسسة قديمة من عدة قرون وتمثل حاليا غالبية المجتمع المدني الأكثر فاعلية وتأثيرا.
خلافا للحكمة الشعبية، فإن الفاعلين في المجتمع المدني مثل السيد السيستاني والمؤسسة الدينية المنظمة بشكل جيد والمزودة بموارد وشرعية كافية، يمكنهم المساعدة في تحسين سلوك الجهات الفاعلة غير الحكومية وابعادهم إلى الهامش.
السيد السيستاني لديه شبكة اجتماعية ودينية كبيرة، يمكنها الحكم المحلي وتوفير الخدمات ودعم البرامج العامة الأخرى مثل المدارس والمستشفيات والمكتبات، وتسخيرها -أي الشبكة -في الاتجاه الصحيح. ويمكنها أن تساعد على قيادة الجهود نحو تأسيس مجتمع مدني قوي في جميع أنحاء العراق بالمشاركة مع المنظمات المدنية الأخرى. وبجهد جماعي، فإنها يمكن أن تحفز السياسات الشعبية ومبادرات الحكم الجيد لتهميش الميليشيات وأولئك الذين أوجدوها وتقوية المعتدلين الذين لديهم رؤية وأفكار لإصلاح العراق.
رابط المقال:https://www.foreignaffairs.com/articles/iraq/2016-05-09/saving-iraq