ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ قسم الدراسات الدولية
19 حزيران/ 2016
على الرغم من أن عمليات تحرير مدينة الفلوجة جاءت لصد الأنظار عن الاختناق السياسي وحالة التأزم والانسداد الذي أصاب العملية السياسية العراقية برمتها بعد اقتحام المتظاهرين المنطقة الخضراء وتصاعد شدة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإصلاحات حقيقية، وبعد موجة العنف والهجمات التي ضربت العاصمة بغداد وبعض المحافظات، إلا أن تحرير مدينة الفلوجة من تنظيم “داعش”، واستمرار الانتصارات العسكرية لابدّ أن يرافقها إصلاح سياسي على المستوى الحكومي. وتاريخيا، مرت مدينة الفلوجة عبر التاريخ المعاصر (أي بعد عملية التغيير التي حصلت في النظام السياسي العراقي في العام 2003)، بعدة مراحل ومحطات بدءًا بالمعارك مع القوات الأمريكية حينها وانتهاء باستيلاء تنظيم “داعش” عليها مطلع العام 2014. ففي15نوفمبر/تشرين الثاني عام 2004، أعلن رئيس الوزراء آنذاك السيد أياد علاوي في مقابلة متلفزة انتهاء معركة الفلوجة، وأن الهجوم على الفلوجة حقق أهدافه على الرغم من أن القتال استمر بعد ذلك. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول من نفس العام (2004)، سُمح للنازحين من سكان الفلوجة بالعودة إلى منازلهم بعد إجراء تدقيق للعائدين، إذ زُوّد العائدون ببطاقات شخصية خاصة من قبل القوات الأمريكية. وفي 24 ديسمبر/كانون الأول 2014، اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب إلى الأحياء الشرقية من المدينة بسبب هجمات الجماعات المسلحة.وفي 28 ديسمبر/كانون الأول عام 2004، نشرت جماعة مسلحة “إرهابية” شريطا يُظهر إعدام 20 شخصا من منتسبي الحرس الوطني العراقي في الفلوجة بتهمة القتال إلى جانب الجيش الأمريكي. وبعد معركتي الفلوجة منذ بداية عام 2005 وحتى أواخر عام 2007، استمرت أعمال العنف والقتال المسلح في مدينة الفلوجة مع التفجيرات والعمليات المسلحة.
وفي 18 آذار/مارس عام 2007، قام مسلحو تنظيم القاعدة بتفجير صهريج لغاز الكلور السام جنوب الفلوجة تسبب في مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وشخصين واختناق 350 شخصا في الفلوجة – ناحية العامرية.وفي 18 أيار/مايو عام 2008، انسحبت القوات الأمريكية تقريباً بالكامل من مدينة الفلوجة. أما في 26حزيران/يونيو عام 2008، فقد قُتل ثمانية جنود أمريكيين وجُرح ستة وعشرون أخرين عندما قام شرطي بتفجير حزام ناسف على تجمّع لجنود أمريكيين في الفلوجة – ناحية الكرمة(1). وقد شهدت الفلوجة هدوءًا واستقرارا بعد سيطرة الشرطة على مدينة الفلوجة بعد إخراج مسلحي تنظيم القاعدة وانسحاب القوات الأمريكية من القواعد والثكنات العسكرية في بداية شهر آيار/مايو عام 2008. وفي بداية عام 2014، سيطر تنظيم “داعش” على المدينة، وقوّض سيطرة الحكومة المركزية عليها بالكامل.وفي 26آيار/مايو 2016، تم تحرير كرمة الفلوجة بالكامل من سيطرة “داعش”، فيما تشهد مدينة الفلوجة تراوحا في السيطرة بين القوات العراقية والحشد العشائري من جهة، وتنظيم “داعش” من جهة أخرى، قبل أن تعلن قيادة العمليات المشتركة في 17حزيران/يونيو 2016 تحرير قائممقامية الفلوجة ومستشفى الفلوجة العام وتحرير حي نزّال وحي الشهداء بالكامل بعد معارك عنيفة ضد التنظيم.
كل تلك المراحل التاريخية وحالة عدم الاستقرار التي مرت بها مدينة الفلوجة وبعض مدن العراق، هي في الواقع جزء من حالة الصراع السياسي والصراع على السلطة الذي تشهده الدولة العراقية بعد العام 2003 وحتى يومنا هذا. وقد تراوحت تلك الصراعات في مدينة الفلوجة بأشكال متعددة، تارة كعمليات مقاومة ضد الأمريكان، وتارة كعمليات إرهابية، من مثل استهداف القوات الأمنية العراقية بدواعي الانتقام من العملية السياسية الجديدة، وتارة كان الصراع صراعا طائفيا يُوظف بدواعٍ مذهبية، الهدف منه إشعال الحرب الأهلية بين مكونات الشعب العراقي، وهي الحرب التي ما يزال تنظيم “داعش” يتبنى آيديولوجيتها. هذه المراحل باختلاف فتراتها الزمنية والمكانية، سواء في الفلوجة أم في غيرها من باقي مدن العراق، هي في الحقيقية مؤشرات عامة، تؤشر على الخلل البنيوي الذي بُنيت عليه الدولة العراقية بعد العام 2003، ومشكلة إدارة الحكم فيها. ولربما كان بإمكان الحكومة العراقية والقوى السياسية أن تحافظ على استقرار محافظة الأنبار ومدينة الفلوجة وبعض المحافظات الغربية بمجملها بعد العام 2007 (بعد تجربة الصحوات)، إلا أن الصراع السياسي وغياب الوعي والإدراك عند صانع القرار العراقي، وتسيس المؤسسة العسكرية وزجّها في الصراعات السياسية وغياب مهنيتها في بعض الأحيان وفقدانها لكيفية التعامل مع المواطن هناك، أثر كثيراً في تأجيج عمليات العنف المنظمة وغير المنظمة، وزاد من عمليات الانقسام والانشققات بين كل هذه الأطراف، فضلاً عن تقاطعات القوى السياسية وصراعها السياسي السلطوي وحالة عدم الاندماج السياسي التي انعكست على المجتمع بشكل عام، والتقاطعات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية أو الخصام الدائم بين حكومات المحافظة نفسها (مجلس المحافظة والمحافظة). وبالتالي، فإن كل تلك التقاطعات تزاوجت مع البيئة السياسية والاجتماعية وحالات السخط الاجتماعي، مع تزايد حالات التطرف والتردي الاقتصادي والبطالة في صفوف المدنيين، فضلاً عن الانفتاح الفضائي والإعلامي بأنواعه المختلفة، الذي صّور السياسات الحكومية السابقة على أنها سياسات تستهدف أبناء المكون السني، وتمارس معه سياسات الإقصاء والتهميش، وأن المواطن الشيعي ينعم بخيرات التغيير السياسي في محافظات الوسط والجنوب عكس ما يعانيه المواطن السني؛ مما ساعد على ظهور تنظيم “داعش”، الذي كسب تأييد أغلب الشباب العاطل عن العمل بقناعات ردّ الحيف ورفع المظلومية عن أبناء المكوّن السني في تلك المحافظات.
وعليه، لا خيار أمام الحكومة العراقية وصانع القرار والقوى السياسية إلا الإصلاح السياسي المدروس، وفق استراتيجية وطنية شاملة، تمّهد لعقد اجتماعي جديد بين السلطة والمجتمع؛ لإعادة ثقة المجتمع المفقودة بالحكومة والسلطة السياسية أولاً، ومن ثم الانطلاق نحو تصحيح الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحصر الخلاف الحزبي والانقسام السياسي داخل الحكومة بين القوى السياسية المعنية، وإبعاد المجتمع عن ذلك الصراع أو الخلاف. كذلك لابد أن تكون للحكومة العراقية استراتيجية إعلامية واضحة، تستطيع من خلالها السيطرة على الإعلام الوطني والإعلام المضاد بإعلام ناجح ومقبول محلياً وإقليمياً؛ لأن الإصلاح السياسي الشامل كفيل بمعالجة كل تلك التشقّقات والأخطاء السياسية والحزبية وأخطاء السلطة المتراكمة بعد مرحلة التغيير السياسي عام 2003، فضلاً عن التركة الثقيلة من النظام السابق. وكذلك لأن الانتصارات العسكرية لا يمكن أن تعطي ثمارها إن لم تكن مصحوبة بمعالجات سياسية حقيقية وبرامج إصلاحية في هيكل الدولة العراقية بعيداً عن سلطة الأحزاب السياسية. ولهذا، تمثل تلك الانتصارات فرصة للحكومة العراقية والقوى السياسية، ونقطة تحول حقيقية للانطلاق في مشروع الإصلاح السياسي الذي دعا إليه رئيس الوزراء “حيدر العبادي”. فهل يدرك صانع القرار العراقي والقوى السياسية أهمية هذا المشروع، أم أنهم سيستمرون بالمماطلة والتسويف للحفاظ على الوضع الراهن، أم سيكون للمتظاهرين رأي آخر؟.