علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية / قسم إدارة الأزمات
حزيران-يونيو 2016
المتتبع لطبيعة العملية السياسية في عراق ما بعد 2003 يستنتج من هذه التجربة وبوضوح افتقادها للأسس العلمية والعملية لبناء الدولة وفق المفهوم الحديث، والسبب يكمن في التغاضي عن الهدف الاستراتيجي في إكمال مسيرة التحول الديمقراطي، والذي هو نتاج طبيعي لمرحلة بناء ونمو الدول الديمقراطية بالصورة الصحيحة. فوفقاً للتصنيفات الحديثة، هناك دول ذات نظام دكتاتوري، وأخرى نظامها ديمقراطي، والنوع الثالث دول في طريقها إلى التحول الديمقراطي. ومشكلة العراق أنه وقف عند النوع الثالث، أي خرج من النظام الدكتاتوري إلى مرحلة التحول الديمقراطي، فتوقف عند هذا الحد لتبدأ بعدها مرحلة صراع وصدام ما بين الأقطاب الحاكمة، وهذا – في حد ذاته – يمثل انحرافاً للهدف عن مساره والبقاء في ديمومة الانتقال الديمقراطي دون العبور إلى مرحلة الدولة الديمقراطية؛ لذلك فإن وتيرة المشاكل أخذت بالتزايد يوماً بعد يوم، يرافقها غياب الرؤية الواضحة في تشخيص جذور المشكلة وسبل علاجها لمن تصدروا المشهد السياسي ما بعد 2003. فالسمة الأبرز لديهم، إدارة الدولة من منطلق حلّ الأمور والمشاكل بصورة جزئية دون الرؤية الاستراتيجية وإيجاد الحلول الجذرية، وهذا ما يفسّر سرعة عودة الخلافات وتصاعدها باستمرار، كما هو في مسألة التشكيلة الحكومية، إذ تأخذ جدالاً واسعاً في الأوساط السياسية حتى تصل إلى اتفاق يتم بموجبه تقاسم السلطة على أساس محاصصة حزبية وطائفية سرعان ما تظهر تأثيراتها وتتصدر المشهد من جديد عبر اتهام كل طرف الطرف الآخر بتهميشه أو أنه يقف وراء تردي الأوضاع السياسية والأمنية، وتبقى هذه الخلافات تتصدر المشهد السياسي حتى نهاية مدة الدورة الحكومية ومن ثم تعاود إلى الظهور مجدداً. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ينطبق أيضاً على أغلب مفاصل العمل الحكومي بما في ذلك موضوعة إقرار الموازنة العامة للدولة. فبداية كل سنة تظهر الخلافات على إقرار الموازنة وتأخذ أبعاداً مختلفة وتوضع أمامها العراقيل حتى يتم إخضاعها إلى المساومات وإرضاء الأطراف ومن ثم يتم اقرارها. كذلك ينطبق هذا الموضوع على الجوانب الأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ومن أخطر ما يهدد ويعقد المشهد السياسي باستمرار، هو “اتباع سياسة ترحيل المشاكل الى الإمام دون علاجها، حتى وصلت الحالة إلى حدودها النهائية والتي بات من الصعب تأجيلها أو دفعها للأمام”. لذلك، فإن ما حصل مؤخراً من موجة شعبية مطالبة بالإصلاح كانت نتيجة حتمية وليست اختيارية، بمعنى بعد أن وصل الحال إلى مرحلة الإخفاق السياسي في إيجاد حلول للمشاكل المتراكمة والتي من ضمنها تردي الواقع الاجتماعي، وترهل الجانب الاقتصادي، وغياب الجانب الخدمي، وضياع الحلول الأمنية, وتخبط الرؤية المستقبلية، فضلًا عن التدخل الخارجي كل بحسب مصالحه، عبر تحريك التابعين لهم في الداخل، واتباع سياسة المحاصصة في أصغر الوظائف الحكومية صعوداً لقمة الهرم، فضلا عن دخول المتظاهرين والمحتجين واقتحامهم الخضراء ومجلس النواب؛ ظهرت هذه التجاذبات ما بين من يريد الإصلاح ومن يريد البقاء في نفس الدوامة للحفاظ على مكاسبه الشخصية، بدليل أن أغلب الكتل السياسية تقريباً تطالب وتطرح مبادرات إصلاحية تُعقّد من الأزمة بدل حلها، وربما أن بعضها وإن كان واقعياً، إلا أن البعض الآخر يفتقد للرؤية الواقعية، كما إن من أصعب معرقلات الإصلاح ادّعاء الجميع أنه يقف في خانة الإصلاح، في الوقت الذي يغض النظر ويعترض عندما يمسّ الإصلاح فريقه السياسي، ويطالب بشمول الآخرين به متناسيا أن الإصلاح يبدأ من الذات.
أيضاً ومن ضمن ما يعقد المشهد السياسي، تداخل الأدوار والصلاحيات، وهذا يظهر جلياً في مواقف عدة لعل أبرزها: القضايا الخارجية. فمن البديهي أن يكون تعامل الدولة موحداً وواضحاً إزاء المواقف الخارجية، إلا في العراق فإن وزارة الخارجية لها رأي ومجلس النواب له رأي آخر والكتل السياسية كل واحدة تبني آراءها وفقاً لمصالحها وخلفيتها الطائفية والسياسية، وهناك أمثلة عدة: “موضوع البحرين، الأزمة السورية، الموقف من حرب اليمن، التدخل الإيراني والسعودي، موقف العراق من الأزمات الدولية والعربية”، وهذا يبعث برسائل سلبية إلى العامل الدولي على حجم الخلافات ما بين أطراف العمل السياسي.
وإذا ما انتقلنا لموجة الإصلاح الأخيرة، فإن السمة الأبرز هي تداخل وضياع الأدوار، بمعنى أن مجلس النواب يطالب الحكومة بالمبادرة لتقديم رؤية إصلاحية تشمل جميع مفاصل الدولة، يقابل ذلك أن بعض الكتل المهيمنة على القرار داخل مجلس النواب باعتبارها تستطيع تكوين أغلبية لتمرير أي قرار إصلاحي، ترفض المساس بمسؤوليها ووزرائها، وتجاهر بالتغيير والإصلاح!. اما السلطة التنفيذية، فتلقي باللوم على السلطة التشريعية بأنها تقف وراء تعطيل المشروع الإصلاحي، يقابلها اتهام من الأخيرة بأنها لا تملك مخرجاً واضحاً للأزمة، وأن مبادراتها ترقيعية.
وبهذا، بدلاً من أن يكون الإصلاح مخرجاً للأزمة، صار – في حد ذاته – أزمة، وذلك للأسباب أعلاه: التداخل وضياع الأدوار وركوب الموجة والخوف من فقدان المكاسب الشخصية وأثر العامل الخارجي وغياب رؤية بناء الدولة والمحاصصة في توزيع المناصب الحكومية والإرهاب والعمليات العسكرية والفساد في مؤسسات الدولة وغيرها من الأمور. لذلك، هناك مجموعة من الأمور لو تم استثمارها بالصورة الصحيحة يمكن من خلالها تصحيح مسار المشهد السياسي، ومنها:
1- إعادة النظر بقانون الانتخابات بما يتلاءم مع طبيعة المرحلة وصياغة مسودة قانون يمكن من خلالها تلافي الأخطاء السابقة، ويكون جوهر القانون التمثيل السياسي لا الطائفي.
2- تطبيق قانون الأحزاب الذي أقره مجلس النواب العراقي مؤخراً والذي يمكن من خلاله فلترة الأحزاب والقوى السياسية وإبعاد تلك التي تمتلك مجاميع مسلحة خارج منظومة الدولة أو التي يشوبها الفساد في عملها، كما ويحدد طرق ووسائل تمويل تلك الأحزاب ومراقبة عملها. فضلا عن العديد من الفقرات التي تساهم – ولو بشكل جزئي – في ولادة نخبة سياسية مقبولة.
3- إعادة النظر في الخطط الأمنية والعسكرية والتركيز على الجهد الاستخباري والعامل التكنولوجي وإبعاد المؤسسات الأمنية عن المزايدات السياسية.
4- محاربة الفساد بكافة أنواعه عبر صياغة ضوابط من شأنها تقليل الروتين في التعامل الحكومي وردع المتجاوزين على المال العام بما يكفله القانون.
5- تحديد وتفعيل صلاحية السلطات الثلاث كل بحسب وظيفتها التي كفلها الدستور، ولا سيما السلطة القضائية التي عليها أن تأخذ دورها بعيداً عن المجاملات السياسية وتحكم في المنازعات وتصدر أحكامها بحق المتجاوزين بغض النظر عن طبيعة مناصبهم.
6- اعتماد الكفاءة في اختيار المرشحين إلى المناصب الحكومية والتخلص تدريجياً من المحاصصة الطائفية.