ميثاق مناحي العيساوي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ قسم الدراسات الدولية
حزيران/ يونيو 2016
صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في قرار تاريخي، وهذا القرار ستكون له تداعيات على الاتحاد نفسه وعلى السياسة البريطانية الداخلية، وذلك بعد 43 عاماً من العضوية.وصوت 51.9% من الناخبين البريطانيين مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، مقابل 48.1% عبروا عن تأييدهم للبقاء فيه، وفق النتائج النهائية التي أعلنتها اللجنة الانتخابية الجمعة 24/حزيران/يونيو/2016. وعلى أثر ذلك أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن استقالته من منصبه. وتلقت أوروبا صدمة مدوية بعد قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي. وتبقى التوقعات كبيرة الآن حيال فرنسا وألمانيا، البلدان المؤسسان للاتحاد، لإنعاش الوضع في أجواء الانكماش الاقتصادي وصعود التيارات الشعبوية والقومية. وقد طالب زعيم حزب الاستقلال البريطاني “نايجل فاراج” بتشكيل حكومة خروج من الاتحاد الأوروبي أو “حكومة بريكسيت” بعد هذا القرار التاريخي. وقد جاءت ردود فعل التيارات المحافظة “المتشددة” في بريطانيا وأوروبا بشكل عام لصالح الخروج من الاتحاد. إذ دعا الزعيم الهولندي المعارض للهجرة “خيرت فيلدرز” إلى استفتاء على عضوية هولندا في الاتحاد الأوروبي بعد أن صوتت بريطانيا لصالح الخروج. وقال في بيان له “نريد أن نتولى مسؤولية إدارة شؤون بلدنا وأموالنا وحدودنا وسياستنا للهجرة”.كذلك دعا حزب الجبهة الوطنية اليميني في فرنسا إلى إجراء استفتاء على عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي بعدما صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد. وقال “فلوريان فيليبو” نائب رئيس الحزب في تغريدة على تويتر “حرية الشعوب تفوز دوما في النهاية “برافو للمملكة المتحدة.. الدور علينا الآن”. ودأب حزب الجبهة الوطنية على الدعوة لخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي. وتأتي هذه الاحداث نتيجة الدعوات التي تطلقها التيارات والاحزاب المحافظة ليس في بريطانيا فقط وإنما في اوروبا بأكملها، بسبب سلوك سياسات القارة العجوز حيال القضايا الدولية ولاسيما حيال أزمة اللاجئين والوافدين إلى القارة الأوروبية، وكذلك ازاء الاحداث الإرهابية التي ضربت أوروبا وتنامي نشاط تنظيم “داعش” في القارة الأوروبية، فضلاً عن سياسة الاتحاد الداخلية، لاسيما السياسية المالية التي تتبعها دول الاتحاد الأوروبي داخله. وكان هبوط الجنيه الإسترليني لأدنى مستوياته منذ العام 1985 امام الدولار أكثر تداعيات هذا القرار. وعلى الرغم من أن التنبؤ بتفكك الاتحاد البريطاني ما زال مبكراً، إلا أن ولربما يكون تفككه احد تداعيات قرار الخروج من الاتحاد؛ لأن كلام رئيسة وزراء اسكتلندا الذي جاء بعد نتيجة الاستفتاء، والتي أكدت فيه “على إن بلادها ترى مستقبلها داخل الاتحاد الأوروبي”، قد يتسبب بخروج اسكتلندا من الاتحاد البريطاني، كذلك الحال بالنسبة لجمهورية إيرلندا الشمالية، التي أيدت الخروج وربما تنضوي مع جمهورية إيرلندا الجنوبية، فضلاً عن أمارة ويلز المنضوية تحت التاج البريطاني، فهي كذلك تريد الحفاظ على نفسها داخل الاتحاد الأوروبي،. ولهذا ستكون هناك تداعيات سياسية كبيرة على الاتحاد البريطاني، فضلاً عن التبعات الاقتصادية للاستفتاء؛ وذلك بسبب انقسام المجتمع والاقتصاد البريطانيين على نفسهما بشأن الموقف من الوحدة الأوروبية. ومما يعنيه ذلك، هو استمرار العراك السياسي بين القوى والأحزاب السياسية بعد الاستفتاء إلى أجل غير مسمى. ويحذر من هذا الانقسام ممثلو البنوك والشركات العاملة في بريطانيا وخارجها، لاسيما وأن تبعاته تتجاوز القارة الأوروبية وتسمم مناخ العمل والاستثمار العالمي. وهذا من شأنه أن يدخل المملكة المتحدة في مشاكل داخلية سواء بين الاحزاب السياسية أو بين انكلترا وباقي الجمهوريات المنضوية تحت لواءها، وكذلك مشاكل خارجية مع دول الاتحاد الأوروبي، والتي ولربما تحاول أن تعاقب المملكة على خروجها من الاتحاد. ويبرز في مقدمة هذه التبعات غياب الوضوح وزعزعة الثقة بمستقبل العمل والاستثمار في لندن التي أضحت أهم مركز مالي عالمي بعد نيويورك.
وقد استغلت الاحزاب والتيارات المحافظة في أوروبا “التيارات الشعبوية” قضية اللاجئين وتدفقهم إلى أوروبا نتيجة تدهور الأوضاع الانسانية والحرب المستمرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، ضد سياسة الاتحاد، وعدّتها كوسيلة ضغط على حكوماتها وحشدت جماهيرها من أجل المطالبة بالخروج من تكتل المجموعة الأوروبية. وهذا ما أكده رئيس وزراء المجر “فيكتور أوربان” بأن تأييد البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي يظهر أن على بروكسل أن تستمع لصوت الشعوب وتقدم حلولاً ملائمة للقضايا المهمة مثل قضية الهجرة. وهذا ما أيدته رئيسة وزراء النرويج على أن التكتل يجب أن يقر، بأن كثيراً من المواطنين في بريطانيا والاتحاد غير راضين عن الاتجاه الذي تسلكه القارة، لاسيما في قضية اللاجئين. وعلى الرغم من فرص النجاح الذي حققها الاتحاد الأوروبي في بعض دوله، إلا أن ثمار هذا النجاح لم تصل إلى فئات واسعة من مواطني دول الاتحاد بسبب الغلاء والبطالة. كما تراجع حجم الطبقة الوسطى مقابل تزايد الثراء الفاحش للقلة الغنية. على سبيل المثال تراجعت هذا الطبقة في ألمانيا من 66 إلى 54 بالمائة خلال السنوات العشرين الأخيرة. ومع ارتفاع الأسعار في منطقة اليورو وغرق مؤسسات الاتحاد بالبيروقراطية والامتيازات ضعفت ثقة الناس بالاتحاد الذي أصبح بنظر الكثيرين اتحاد النخب السياسية والبنوك والشركات العابرة للحدود. وهو الأمر الذي أعاد إحياء الشعور القومي وإلى صعود الأحزاب الشعبوية واليمينية التي تريد العودة إلى الدولة الوطنية رغم التبعات الاقتصادية السلبية لذلك.
وعلى الرغم من تزايد بعض الردود الإيجابية لاسيما من قبل التيارات المحافظة لقرار بريطانيا في الخروج من الاتحاد، إلا أن الحديث عن تفكك الاتحاد الأوروبي ما زال مبكراً. ولايمكن لخروج بريطانيا أن يؤثر على سرعة تفكك الاتحاد أو أن تصاب أوروبا بعدوى الخروج. وقد استبعد المستشار النمساوي، “كريستيان كيرن”، أن يكون لتصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي “أثر الدومينو” على باقي الدول الأعضاء، مؤكداً أن بلاده لن تقدم على مثل هذه الخطوة؛ لأن الكثير من دول الاتحاد الفاعلة ترى نفسها داخل هذا الاتحاد ولا ترغب بالخروج منه، وكذلك ومن المؤكد أن تبادر دول الاتحاد إلى إصلاحات سياسية واقتصادية من شأنها أن تعيد الثقة للمواطن الأوروبي بالاتحاد، ولاسيما اتجاه قضية اللاجئين العرب والمسلمين، وهذا بدوره ربما سيعّجل من حل الأزمة السورية حلاً سياسياً؛ لإرجاع اللاجئين وتخفيف العبء عن أوروبا ، ولربما تكون هناك حلول عاجلة لعملية الاستقرار في الشرق الأوسط بتوافقات دولية، الذي اصبح تهديده كبير على أمن أوروبا ووضعها السياسي والاقتصادي، لاسيما فيما يتعلق بتنامي بتنظيم “داعش” في أوروبا. وأن محاولة الإبقاء على الوضع القائم وعلى هذا الجمود سيشكلان انتحارا سياسيا للاتحاد الأوروبي، وهذا ما حذر منه “معهد مونتيني” في فرنسا. ولهذا يرى المختصون بأن الإصلاح الأوروبي خطوة مهمة في إعادة وضع الاتحاد واستعادة ثقة شعوب أوروبا بعد خروج بريطانيا؛ لأبعاد شبح تفكك الاتحاد أو انهياره بعد الاستفتاء البريطاني. وعليه ستكون نتيجة الاستفتاء دافعا لبروكسل ومعها برلين وباريس وعواصم باقي دوله، للعمل بسرعة على إصلاح مؤسسات الاتحاد وجعله أكثر عدالة بحيث تصل ثمار نجاحاته إلى الفئات الشعبية المتضررة. ومما يتطلبه ذلك جعل هذه المؤسسات أكثر كفاءة وأقل بيروقراطية. كما يتطلب من الحكومات التوقف عن التمسك الشديد بما تسميه المصالح الوطنية ولو كان ذلك لمصلحة غالبية سكان الاتحاد. ولهذا طالب رئيس الوزراء الأسباني “ماريانو راخوي” بالتركيز على النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل والاندماج بشكل أكبر.
وعليه، نعم هناك كثير من الامتيازات التي ستخسرها بريطانيا أزاء خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها ستستعيد توازنها تدريجياً، وستستعيد قوتها السياسية والاقتصادية، لاسيما إذا ما حافظت على اتحادها الانكليزي، وأقنعت اسكتلندا وايرلندا وويلز في البقاء داخل تحالفها التاريخي. أيضاً وعلى الرغم من التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية التي ستصيبها في المستقبل القريب سواء داخليا أم خارجياً مع دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنها من المتوقع أن تجتاز كل تلك التداعيات وستبني نفسها تدريجياً. وستحصل على امتيازات كثيرة مقابل تلك الامتيازات التي خسرتها، لكن كل ذلك سيكون بمرور الوقت، وستتخلص بريطانيا من قيود الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته الشديدة. وقد تكون هنالك فرصة جديدة لتعزيز التجارة البريطانية، لاسيما مع الاسواق العربية. ولهذا يمكن أن نطرح تساؤلاً، هل أن خروج بريطانيا سيصيب دول أوروبا بعدوى الخروج من الاتحاد، لاسيما مع تصاعد التيارات الشعبوية في أوروبا وأمريكا؟، أم سيحافظ الاتحاد ودوله الفاعلة على هذا التكتل ومقاومة التيارات المتشددة، لاسيما مع تزايد اعداد اللاجئين.