م. م. علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية/قسم إدارة الأزمات
حزيران-يونيو 2016
أهمية الفلوجة
تقع المدينة على بعد خمسين كيلومتر غرب العاصمة العراقية بغداد، وتعد من أهم مدن محافظة الأنبار وأكبر أقضيتها، وتمثل رمزية دينية للعرب السنة، إذ يطلق عليها “مدينة المساجد”؛ لكثرة مساجدها وارتفاع مناراتها. كما ومثلت مدينة للتمرد العسكري والسياسي طيلة الأعوام السابقة “ما بعد 2003″، إذ شهدت عمليات عسكرية ابان فترة الاحتلال الأمريكي ولا سيما 2004 و 2006 لمرات عدة دون أن يتمكن من حسم سيطرته بشكل تام لعدة أسباب، منها عسكرية تتعلق بشدة القتال، ومنها سياسية ولا سيما بعد تدخل أطراف سنية وعربية لعقد هدنة في كل عملية تشن ضدها. كما وتُعد الفلوجة أولى المدن التي شهدت تظاهرات واعتصامات بالضد من الحكومة المركزية. وبعد فض تلك الاعتصامات، قامت مجاميع مسلحة بالسيطرة على تلك المدينة قبل عامين ونصف العام، وبهذا تعد أولى مدن العراق التي سقطت بيد التنظيمات الإرهابية، بعد حادثة سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم “داعش” وما أعقبه من انهيار سريع للقطعات الأمنية وصولاً لمناطق حزام العاصمة بغداد، فكانت هذه المدينة (أي الفلوجة) تمثل عاصمة التنظيم في العراق “لرمزيتها الدينية وحواضنها الشعبية وقربها من بغداد”، وهي تمثل الخاصرة الأخطر على أمن العاصمة بغداد من الجهة الغربية، إذ تمكن التنظيم من إقامة عدة خطوط دفاعية ومنها خط الصد الأول في مدينة الكرمة الفاصلة بين بغداد والفلوجة ومدينة الصقلاوية، كما عمد التنظيم إلى تحصين مواقعه داخلياً عبر حفره لعشرات الأنفاق والتي من خلالها يتنقل ما بين أحياء المدينة. كما كانت تمثل مركزا لاستقبال الإرهابيين الأجانب وتدريبهم وإرسالهم للجبهات الأخرى فضلاً عن مشاغلة القوات العسكرية في حزام بغداد عبر شن هجمات بمجاميع صغيرة في محاولة – أراد التنظيم من ورائها – استنزاف القوات وإشغالها عن التفكير في التقدم لمدينة الفلوجة التي عدها التنظيم عاصمته داخل العراق. كما وعمل على إرسال الانتحاريين للعاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب عبر تلك المدينة، فيما سعى للحصول على مكاسب سياسية عبر تحريك بعض المساندين له ولا سيما بعض الهاربين والمطلوبين للقضاء العراقي والمتواجدين في كردستان أو بعض دول الجوار، عبر إطلاق التصريحات بمظلومية المدينة وتهويل ما تتعرض إليه من عمليات قصف أو ما يسمونه بـ “إبادة وتجويع أهل الفلوجة المحاصرين”. أما الوسيلة الثالثة، فكان التنظيم قد وجه ماكينته الإعلامية بكل تفرعاتها، إلى تهويل حجم وقوة التنظيم داخل المدينة، وإنه لا يُقهر ومستعد لحربٍ طويلة الأمد.
كيف سارت العمليات؟
بعد سلسلة التفجيرات الأخيرة التي ضربت بغداد ومناطق أخرى وراح ضحيتها مئات الأبرياء، تعالت الأصوات المطالبة بالإسراع بحسم ملف الفلوجة بوصفها الحاضنة الأخطر والخاصرة الأكبر المهددة لأمن العاصمة والجنوب هذا من جانب. و من جانب آخر، فإن تصاعد موجة التظاهرات المطالبة بالإصلاح عجّلت بوتيرة إعلان انطلاق عمليات التحرير والتي لا تخلو من بعد سياسي ربما كان – جزء منه – لتسليط الأضواء على المعركة المصيرية للعراق وتأجيل تلك التظاهرات لما بعد التحرير، وهذا ما صرح به رئيس الوزراء السيد العبادي قُبيل انطلاق تلك العمليات. وكذلك من الأسباب قد تكون للحصول على موقف مؤيد للحكومة من قبل الحشد الشعبي وفصائله ولا سيما بعد الاتفاق معه على إشراك فصائله الأساسية بالعمليات العسكرية مع التأكيد على ضرورة أن تكون مهمته تطويق المدينة دون دخولها، وهذا تم بالاتفاق مع بعض القادة السنة ومجلس محافظة الأنبار.
وبعد حملات عدة قامت بها قيادة عمليات بغداد لتحرير الكرمة لم تتكلل بالنجاح، شرعت القوات للتحشيد والاستعداد والتنسيق على وتيرة ومستوى أعلى، فيما اختير تاريخ الخامس عشر من شهر شعبان موعداً لإعلان ساعة الصفر لتحرير مدينة الفلوجة، وأطلق على العملية اسم عملية “كسر الإرهاب”. وانطلقت العمليات بمشاركة الجيش والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي والعشائري وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات الطوارئ التابعة لشرطة الأنبار، وسارت بعدة محاور وثلاث مراحل، أسندت المرحلة الأولى لقطعات الحشد الشعبي ومن يسانده، فكانت المهمة الأصعب بتحرير مناطق حزام الفلوجة، وأبرزها الكرمة والصقلاوية والتي شهدت دعوات لخروج المدنيين من المدينة عبر ممرات آمنة حددتها الجهات المختصة. وما أن حُرّرت مناطق عدة حول المدينة حتى بدأت الاتهامات من قبل أطراف سياسية ودينية سنية بحصول انتهاكات واعتقالات طالت المدنيين من قبل الحشد الشعبي، الأمر الذي رفضه الأخير، متهماً تلك الأطراف بمحاولة عرقلة التقدم الأمني، وأن ما حصل من أحداث هي فردية ولا تمثل توجهات الحشد، وقد أخذ الأمر صدى واسعا في الأوساط الإعلامية ولا سيما العربية منها، ولوحظ أن الأمر وحجم ردود الفعل إنما كانت لغايات متعددة في نفوس هؤلاء، الأمر الذي ولد ردة فعل معاكسة من الناشطين العراقيين في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وصل الأمر بالبعض بتسمية الحملة بـ “غزوة العراقيين لتويتر”، عبر إيصال الصورة كما هي، وتعبئة الرأي العام للوقوف مع القوات الأمنية، وبيان أن هدفهم الأسمى هو تحرير أبناء المدينة من سطوة التنظيم، وإظهار صور ومقاطع فديو تثبت كيف يتعامل الجنود مع نازحي المدينة، في الوقت الذي اعتبروا بعض الانتهاكات فردية ولا تمثل التوجه العام، وهذا ما جاء على لسان القادة الأمنيين وقادة الحشد الشعبي والعشائري.
وانطلقت الحملة الثانية بتطويق المدينة من كافة محاورها حتى وصول قوات من جهاز مكافحة الإرهاب والفرقة التكتيكية ممن يمتلكون خبرة بحرب الشوارع ليتمكنوا من اقتحام أحياء المدينة مع توفير ممرات آمنة لخروج العوائل عبر منفذ عامرية الفلوجة. وبعد الانهيار السريع لخطوط الصد الأربعة التي أقامها التنظيم، وإحباط أغلب هجماته الانتحارية عبر استخدام الأسلحة المتطورة، فضلا عن الغارات الجوية، ومعالجة بعض مفارز القناصة الذين نشرهم التنظيم فوق أسطح بعض مباني المدينة من قبل قوات خاصة، انهارت جميع دفاعات التنظيم، ولم يبق لدى القوات الأمنية سوى بعض الجيوب، والتي تمت معالجتها بأحياء الضباط والصناعي والمعلمين، وكان الأصعب ما بين تلك الأحياء هو حي الجولان، ولكن أخيراً تمكنت القوات الأمنية من السيطرة عليه ورفع العلم العراقي فوق المباني الحكومية، فيما استمرت عمليات التطهير لإزالة بعض المعرقلات، ولعل أبرزها العبوات الناسفة، وبهذا أعلن عن تحرير كامل المدينة بعد عامين ونصف من سيطرة تنظيم “داعش” عليها، وبعد التهويل الإعلامي الذي صوره التنظيم بأنها ستبقى عصية، لذلك ما كان من السيد العبادي إلا أن يُعلن أن مدينة الموصل ستكون وجهة القوات الأمنية القادمة.
الابعاد الامنية والسياسية
على الرغم من الانتصار الكبير الذي حققته القوات الأمنية في عملياتها مؤخراً وبالتحديد في مدينة الفلوجة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة نهاية التنظيم أو نهاية هجماته على العاصمة ومناطق الوسط والجنوب؛ وذلك لمعرفتنا بأن التنظيم غالباً ما يعتمد على مفاصل خلاياه النائمة والمنتشرة في كثير من مناطق العاصمة ولا سيما في حزامها، فضلا عن حواضن التنظيم في مناطق واسعة، وبهذا يمكن أن تستيقظ خلاياه في أي ثغرة أمنية قادمة، ومن غير المستبعد أن تشن هجمات في محاولة لإعادة المعنويات لمقاتليها أو لإثبات وجودها. فالمعركة القادمة هي معركة الجهد الاستخباري، عبر تكثيف حملاته لكشف تلك الخلايا النائمة والعمل على تفكيكها وقطع الطريق على أي محاولة ظهور مجدداً. كما وينبغي اتخاذ أعلى درجات الحيطة والحذر وعدم التمهل؛ لأننا أمام عدو يستغل أي لحظة تتغاضى فيها القوات الأمنية أو تتمهل. وعلى الرغم من هذه المخاطر، إلا أن أبعاد تحرير الفلوجة كبيرة جداً، ولعل أبرزها انهيار معنويات العدو في كل من العراق وسوريا أيضاً، وهذا يعني أن هناك مزيداً من الأمن بإبعاد المخاطر عن العاصمة بغداد. كما وإن التحرير رفع معنويات الجيش العراقي والأجهزة الأخرى. وأيضاً نجد هناك تضامنا إعلاميا كبيرا عبر توحيد موقف الشعب في مساندة قواته الأمنية، ناهيك عن التضامن الدولي عبر ردود الفعل المؤيدة. كما سيزيد التحرير من الاستعدادات الحكومية للمعركة الحاسمة والقادمة باتجاه مدينة الموصل مركز التنظيم وأولى مدن العراق التي احتلها.
أما الابعاد السياسية، فقد ظهرت ملامحها ما إن أعلن تحرير المدينة، ولا سيما على مستوى الحكومة المحلية، عبر اشتداد الصراع ما بين أقطاب مجلس المحافظة وصولاً إلى حد المطالبة بحل المجلس. أيضاً على المستوى السياسي العام، تصاعدت المطالب بإغاثة النازحين ما بين السياسيين السنة وأعضاء البرلمان وإمكانية أن تشهد المرحلة القادمة بعض الصفقات والتنازلات التي لا تخلو من موضوع عودة النازحين للمدينة أو لربما إزالة الشبهات عن بعض سياسي المحافظة ممن كان موقفه بالضد من عمليات التحرير. وكذلك هناك مخاوف من نشوب صراع قبلي في مناطق التحرير ولا سيما الفلوجة ما بين بعض العشائر بسبب ولاء بعض رؤساء تلك القبائل للتنظيم او شنها هجمات على عشائر دون غيرها، وإمكانية أن تطالب الأخيرة بالقصاص وما شابه ذلك ما لم تتدخل الأطراف السياسية وتقديم الجناة للمحاكمة العادلة من أجل فرض هيبة الدولة في تلك المناطق.